إنّ القرآن هو الثقل الذي أودع في هذه الأمة، ومن كان خلقه القرآن فهو من الفائزين، وإلاّ فإنّ عليه أن يراجع حسابه.. يقول تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}؛ المؤمن لا ينظر إلى عالم الوجود بنظرة سوداوية، وإنما بنظرة بيضاء، حيث أن كلّ ما في الوجود يذكره بالله عزّ وجل، لذا فهو رفيق بكلّ خلق الله عزّ وجل.. عندما نراجع سيرة النبي والأئمة -عليهم السلام- ونرى كيف أن لطفهم أيضا كان يشمل الحيوانات، لانتابنا شيء من الذهول، فهم يرون كلّ ما في الوجود من صنع الله عزّ وجل؛ وذلك لأن من أحبّ أحداً أحبّ صنعه.. يعيش الإنسان أول أيام الزواج، حالة عاطفية جياشة، فإذا قدّمت له الزوجة طعاما غير شهي، فإنه يجده أشهى من أرقى مأكولات العالم؛ لأن هذا الحبّ الذي وجد في قلبه، يسري في كلّ شيء، كما يقول الشاعر:
أمر على الديار ديـار ليلى *** أقبــل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي *** ولكن حب من سكن الديارا
– إن الذي يعيش هذا الإحساس، تنقدح عنده شفقة عجيبة على المخلوقين، بل حتى على العصاة.. هذا الإحساس رأس مال كبير جداً في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ.. حيث أن هناك فرقا بين إنسان يدعو إلى الله من منطلق الفوقية، أي يعظ الناس: هذا حرام، وهذا لا يجوز.. وكأنّ له مقعدا محجوزا في الجنة، والحور العين تنتظره، والناس كلهم في قعر جهنم، يريد أن ينتشلهم واحداً، وحداً.. وبين إنسان يدعو إلى الله -عز وجل- وله حالة من حالات الشفقة الشديدة على المخلوقين.. فالنبي الأكرم (ص) شفقته تعدت إلى الكفار وإلى غير المسلمين، (لما كان يوم بدر أسر المسلمون من المشركين سبعين رجلا، فكان ممن أسر العباس عم رسول الله (ص)، فكان رسول الله (ص) يسمع أنين العباس فلا يأتيه النوم.. فقالوا: يا رسول الله، ما يمنعك من النوم؟.. فقال رسول الله (ص): كيف أنام وأنا أسمع أنين عمي؟!.. فأطلقه الأنصار).. هذه هي عاطفة الأنبياء، التي تشمل حتى غير المسلمين.. إذا وجدت هذه العاطفة في قلب إنسان؛ هل هذا الإنسان ينسى فضل زوجته، لمجرد موقف من المواقف السيئة؟!.. والزوجة كذلك عندما تنظر إلى هذا الرجل بهذا المنظار، هل تنسى فضله بمجرد زلة من الزلل؟.. بل إنه يرى كلّ ما في الوجود جميلا؛ لأنه من صنع ربّ العالمين.
فإذن، هذه النظرة الأخوية تجعل الإنسان يتألم للخلاف بين المؤمنين، ولهذا إن أمكنه الإصلاح بين ذات البين، أقدم وإلا دعا بكلّ حرقة.. نحن مشكلتنا لا نعتد بالنية، بينما الحديث الشريف يقول: (نية المؤمن؛ خير من عمله)، والآية الكريمة تقول: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}.. هل يسعى الإنسان في قضاء حوائج أخوانه؟.. قال رسول الله (ص): (من عمل في تزويج حلال حتى يجمع الله بينهما؛ زوّجه الله من الحور العين، وكان له بكل خطوةٍ خطاها، وكلمةٍ تكلّم بها عبادة سنة).. من زوج مؤمناً، سواء تمت الصفقة أو لم تتم أخذ الأجر.. وهكذا في إصلاح ذات البين، عندما يصلح بين الطرفين المتخاصمين، أو يحاول الإصلاح؛ فإن ربّ العالمين يعطيه أجر المتصالحين.
– إن أئمة أهل البيت (ع)، كانت لهم محطات سجودية: منها شكر الله -عزّ وجل- على نعمه، ومنها فيما لو أصلحوا بين متخاصمين.. فالإمام كان يهوي إلى السجود؛ شكراً لله على هذه النعمة: أنه ألّف بين قلبين متخاصمين، وعلى الخصوص بين متخاصمين متميزين.. بعض الأوقات هناك خلافات أسرية، بين زوجين كلّ واحد منهما يعتدّ بإيمانه، ولكن إذا اختلفا، ابتعدا عن جادة الشريعة، وهذا شيء مؤسف!.. لذا، فإن إصلاح ذات البين، سواء كانا زوجين، أو شخصين متميزين في الإيمان؛ له من الأجر ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
– إن الله -تعالى- يقول في كتابه الكريم في هذه السورة المباركة: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ}.. المؤمن يعيش دائما حالة الخوف من الانقلاب في حياته، هذا الخوف أمانة أكيدة على أن لا يتعدى على أحد بقلبه.. فمن الأمور التي تصدّ عن السبيل، أن يعتقد الإنسان أنه خير من الآخرين؛ لمجرد أنه في جوف الليل جاءته الرقة، وصلى صلاة الليل بتميز؛ وإذا به يعيش طوال السنة، في حالة العجب والغرور.. أو لأنه توفق للحج أو العمرة مثلاً!.. إذا أحس الإنسان في قلبه بوادر العجب والاستعلاء، فليكسر هذا الشعور بمطرقتين:
المطرقة الأولى: عدم الركون إلى الماضي.. يقول أن هذا العمل المتميز الذي قمت به، كان فيما مضى .. مثلا: وفق للذهاب إلى زيارة الإمام الحسين -عليه السلام- في شهر شعبان، وهو الآن في شهر رمضان؛ فليقل: انتهى شهر شعبان، والآن أنا في شهر رمضان، الآن ماذا عندي؟.. المؤمن عليه أن يفكر في ساعته، الآن هو في أيّ حال؟.. وليس إلى ما كان عليه قبل سنة مثلا؛ هذا يسمى الركون إلى قديم الأعمال، والإنسان لا يركن إلى قديم عمله.
المطرقة الثانية: الأمور بخواتيمها.. إننا لا نعرف خواتيم الأمور، فنحن لا نعلم ماذا يكتب لنا!.. هذا الفاسق الفاجر، الذي لا يعرف الله ولا رسوله، قد تصبح عنده عملية انقلاب في الباطن.. والتاريخ مليء بأمثال بشر الحافي والحر، وهناك الكثيرون ممن تصيبهم حالة اليقظة، وإذا بهم يبصرون أنفسهم على مزبلة نتنة، فهؤلاء لا يمشون فقط بل يركضون.. ولهذا فإنه من المتعارف أنّ التوابين إذا رجعوا إلى ربهم؛ يجدّون في السير؛ لإحساسهم بالحقارة، ويحاولون تعويض السنوات التي أمضوها في البعد عن ربّ العالمين.. لذا، فإن البعض منهم يبدع في مسيرة العبودية لله عزّ وجلّ.
فإذن، إن الذي يحتقر الناس، ويسترخص الناس؛ عليه أن يشعر أولا بما هو فيه، نعم هذا الذي هو فيه، هو المكسب؛ وأما الماضي، فقد انتهى.. وثانيا عليه الخوف من العواقب.. قد يقول قائل: أنا وضعي الآن جيد.. ولكن كلما ازداد الإنسان قوة في العبودية، كلما استعمل الشيطان حبالاً أقوى لإيقاعه في فخه.. فالشيطان له حبال، وله سلاسل، وله خيوط؛ حسب درجات الناس.. ولكن هناك درجة لا تحتاج لا إلى حبل ولا إلى سلسلة، ولا إلى خيط؛ هؤلاء يجرهم الشيطان إليه بمجرد الإشارة!.. آدم -عليه السلام- لو لم يأكل من الشجرة المنهية، الآن لعله كنا جميعاً في جنة الخلد، نأكل ونتمتع؛ ولكن أكل من الشجرة المنهية، فهبط إلى الأرض.. الشيطان جاءه بكيدٍ محكمٍ متين: أولاً: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى}؛ أي دخل في قلب آدم من نقطة هو يتمناها.. وثانياً: الشيطان كان من كبار العبّاد، وهو خطيب الملائكة والجنة، وطاووس العبادة، فقد كان له تاريخ مشرق: سجداته، وركعاته الطويلة؛ شيء مذهل!.. لهذا رفض السجود، فقال: يا رب أعفيني من السجود، وأعدك أن أعبدك عبادة لم يعبدك مثلها ملك مقرب ولا نبي مرسل.. بهذه الحركة البسيطة، تنزل إلى أسفل السافلين.. مع هذا كله الشيطان لم ييأس منه، كان يحاول مع الأنبياء أولي العزم، ولكن محاولاته باءت بالفشل.. أنظروا إلى طمعه وإلى إصراره!..
– إن الله -تعالى- يقول في كتابه الكريم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}، إنها معركة غير متكافئة!.. خبرة سنوات في إغواء بني آدم، ويجري فينا مجرى الدم في العروق، وله أعوان وأنصار.. بعض الناس له شيطان مختص به، يمشي معه في كلّ خطوة {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}.. بعد هذا كله، نرى إنسانا يسخر من الآخرين، ويتعالى على الآخرين!.. وعليه، فإن حالة الخوف والقلق من العاقبة السيئة، هي محطة من محطات الابتعاد عن الغرور والعجب.
– إن مشكلتنا نحن أنه لا نملك الخارطة الذهنية المنضبطة {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.. الذي يحرك الإنسان في الحياة، هي الصور الذهنية عن الأشياء، وعن الأشخاص.. ما الذي يجعل الشاب يتقدم لفتاة معينة؟.. لأن الصورة الذهنية لها في ذهنه؛ هي صورة جميلة، يراها: مؤمنة، وتقية، وورعة، وخلوقة،…الخ.. ولكن يحصل الخلاف من الأسبوع الأول، لأن الصورة الذهنية قد اختلّت، فهو لا يتعامل مع واقع الفتاة.. هل هناك من يتعامل مع واقع زوجته، على أنها: زوجة لها وجود، ولها كيان؟.. الإنسان لم يكتشف نفسه، فكيف بزوجته؟.. هو يتعامل مع صورة ذهنية، هذه الصورة الذهنية إذا كانت المرأة محظوظة، تكون صورة جميلة في رأسه عن هذه المرأة.. وطبعاً كذلك العكس: الذي يحرك المرأة في الحياة اتجاه الرجل، صورة الرجل الجميلة.. لذا على الشباب أن يتريثوا قبل الزواج، لعلهم يكشفون سلبيات كانت خفية عليهم.. فالشاعر يقول:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
– إن الإنسان من الممكن أن يخدع الناس فترة من الزمن، ولكن سرعان ما ينكشف، يقول الإمام علي (ع): (المرء مخبوء تحت طي لسانه، لا طيلسانه).. لذا، فإن على الإنسان أن يصلح هذه الخارطة الذهنية، حتى لا يتورط.. لماذا من أول يوم يرسم عن فلان أو عن فلانة، صورة مضخمة مجمّلة من دون داع؟.. هنا يأتي دور التسديد الإلهي: الوعي، والعقل، والفهم، في أن نعرف الأشياء كما هي؛ وهذه مشكلتنا مع الدنيا.. القرآن الكريم ينسب هذا القول للشيطان: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ}.. أحدنا يسمع عن عاصمة أوربية من خلال الصور، والترويج السياحي، ويظن أنّ هنالك جنة الخلد.. أولاً: هذا الجمال هو جمال الطبيعة، وليس جمال الإنسان نفسه.. وثانيا: هذا الجمال سيبقى مكانه، والإنسان سيفارقه بعد ساعات أو بعد أيام.. عندما يرى الإنسان الشيء على واقعه؛ يصغر حجمه، وتتلاشى تلك الصورة الذهنية التي هي أضخم من الواقع.. ولهذا القرآن الكريم أيضاً يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}.. الذين تزوجوا هل وجدوا كلّ ما رسموه في مخيلتهم عن الحياة الزوجية: من حياة مخملية، ورومانسية؟.. في الواقع الحياة هي هذه الصورة: أولاً: الذي رأيناه ليس كما تخيلناه.. وثانيا: ما تخيلناه ورأيناه، ما بقي أيضاً.. هذه طبيعة الدنيا، الدنيا لها جاذبية أولية، ولولا هذه الجاذبية لما تحرك الناس في الحياة.. لولا الأمل، لما زرع زارع شجرة؛ ولأصبحت الأرض الجرداء، ولولا الأمل لما أرضعت أمّ ولدها.. ربّ العالمين لبعض المصالح، يسهّل الأمور، ويجعل الأمل في النفوس.
– إن المؤمن يحاول أن ينظف ويهذب هذه الصورة الذهنية عن الأشياء.. فالذي يدّعي أنّ الشيطان يدفعه للحرام دفعاً بدنياً، هذا إنسان غير صادق.. الشيطان لا سلطة له على الأبدان، ولكن له سلطة على عالم النفس، وهو بيت القصيد.. الشيطان يتدخل في هذه الخارطة الذهنية، ومن هنا يأتي سوء الظن، من هنا يأتي الوسواس.. إنه لكارثة أن يتحوّل الدين إلى وضوء وغسل وتيمم فقط من الصباح إلى المساء، هؤلاء يخشى عليهم من الكفر بالله في يوم من الأيام!.. لأن هذه الوسوسة ظاهرها احتياط: إعادة وضوء، وغسل، وصلاة.. ولكن في يوم من الأيام، قد ينجر إلى الكفر بالله العظيم.
– نعم، هذا من مصاديق غلبة الوهم، الإنسان في بعض الحالات يغلب عليه الوهم والظن، حتى أنه يرى الواقع كما هو يظن {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.. لذا، يجب التحكم في الواردات القلبية، فالمؤمن له أذنان: أذن رحمانية، وأذن شيطانية.. والذي يثير -مع الأسف- في بعض الحالات، أنّ مؤمناً يعتقد بأحد سوءاً، وإذا به يرتب الآثار على ذلك الاعتقاد.. يقول: هكذا وقع في قلبي.. هل قلبك متصل بالوحي، كي ترتب الآثار؟!.. فالمؤمن إذا فتح على نفسه باب الوهم؛ لا يتوقف على شيء.. وعليه، فإن الإنسان المؤمن يعيش حالة من حالات التعقل، (المؤمن كيّس فطن)، المؤمن كله عقل، كله فهم.
– إن مشكلتنا في الحياة هي الإدبار بعد الإقبال!.. فالبعض يصاب بانتكاسة روحية مروعة.. والحلّ هو أن نتعدى من عالم المعلول إلى عالم العلة.. فالمشكلة أنه لم نعمل بانسجام بين البواطن والجوارح.. هنالك حكومة في وجودنا، هي حكومة العقل؛ ليس المقصود العقل بالمعنى العرفي: هنالك قلب، هذا القلب يحمل الخصائص العاطفية: يحبّ ويبغض، يأمل ويرجو، ييأس ويطمئن؛ هذه أمور من جنس القلب {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الإيمان كله في هذه الزاوية.. وعندنا جوارح؛ أي هذه الأعضاء: الرجل، واليد، والأذن، والسمع، والحواس الخمس، والبعض يضيف إليه حاسة سادسة.. المشكلة أنه أنا كعقل، كشعور، كإدراك أقول: أيتها الأذن لا تسمعي الغناء، أنا لست براضٍ عن ذلك، وإلا كذا وكذا.. أيتها العين لا تنظري هذا حرام، لا يجوز.. وهكذا تجري الأمور، ولعل إلى آخر العمر.. ولكن القلب يقول: أتمنى أيها العقل لو تموت، حتى آخذ حريتي، فأنا الذي يصدر الأوامر.. الخارج يقول شيء، وهذا الباطن يقول شيء آخر.. كمال الإنسان، كلّ الكمال أن يتصالح عقله مع قلبه.. يقول العقل: أيها القلب أنت تبنى ما أقول، أنا أحبّ أن تصل يوما من الأيام تصبح عندك صلاة الليل متعة لك.. بعض المؤمنين في ليلة الزفاف، عندما يرى نفسه مخيّرا بين أن يصلي صلاة الليل في قسم من الليل، وبين أن يجلس مع زوجته؛ لا يرى قياسا بين هذه اللذة وبين تلك اللذة!.. أحد العلماء الكبار كان في جوف الليل، يقول: أين الملوك وأين أبناء الملوك من هذه اللذة؟..
– إن القلب إذا تبنى الشريعة، وتبنى حكم العقل؛ عندئذٍ سفينة التكامل لا تقف إلا على مرسى وميناء النجاة، وهو مرسى اللقاء الإلهي.. ولهذا القرآن يقول في سورة الحجرات: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.. إن الشيطان اللعين الرجيم، له يد طويلة في نفوسنا وفي قلوبنا؛ وربّ العالمين ليس له دور؟.. أعطى الحرية لإبليس يلعب في قلوبنا، يحبّب إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويزيّن لنا الشهوات؛ وربّ العالمين خالق إبليس، ربّ العالمين أرأف بنا من أنفسنا، ما جعل لنفسه دورا – أعوذ بالله- يتدخل في قلوب الناس؟!.. ما الذي جعل أمّ موسى تهدأ عندما ألقت بفلذة كبدها في البحر؟.. ما الذي جعل فتية الكهف يذهبون إلى ذلك الكهف: لا طعام، ولا شراب، فألقى عليهم النوم ثلاثمائة سنة، رأفةً بهم؟.. ليس فقط على قلوب المؤمنين، ما الذي جعل فرعون يحبّ موسى -عليه السلام- ويتخذه ولدا؟.. إن من مظاهر تصرف الحق في القلوب، هو ما ألقاه من الرعب في نفوس المشركين، بعد انتصارهم في غزوة أحد، فلم يكن بينهم وبين القضاء على الإسلام إلا قتل النبي (ص) ودخولهم المدينة، واستباحة أهلها، وإعادة الأمر جاهلية أخرى.. ولكن الحق قذف في قلوبهم (الرعب) وحال دون قيامهم بذلك كله، فقفلوا راجعين -مع هزيمتهم للمسلمين- إلى مكة، وهم يقولون وكأنهم استيقظوا بعد سبات: (لا محمداً قتلنا، ولا الكواعب أردفنا).. وهذا هو سبيل الحق في (نصرة) المؤمنين طوال التأريخ، سواءً في حياتهم الخاصة، أو في معركتهم مع أعداء الدين.. هذا يسمى التصرف الإلهي في القلوب؛ حتى في قلوب الطغاة.. هكذا ربّ العالمين يجري خطته في هذه الأرض، إلى أن يرث الأرض ومن عليها.
– ماذا نعمل حتى نصل إلى مرحلة تحبيب القلب؟.. كمال الجوارح بالطاعة، كما أن كمال العقل: بالتأمل والتفكّر، والقراءة، وتفسير القرآن، والحديث، وعالم المطالعة والعلم.. فإن قوت عالم القلب: التوجه، ومحبة الله وأوليائه.. القلب الذي يحمل حبّ الله -عزّ وجل- هذا القلب سيتصرف فيه ربّ العالمين بأنه عرشه.. هل هناك أحد يحبّ الله أفضل من النبي وآله (ع)؟.. لماذا يقال: أن محبة أهل البيت (ع)؛ مدعاة للنجاة؟.. ورد في الحديث الشريف: (حب علي حسنة، لا تضر معها سيئة)؛ وقد قال أحد العلماء في تفسير هذه الرواية، ولعله المحقق البهبهاني: (إن حب علي يحول بين الإنسان وارتكاب المعصية، لا أن المعصية المرتكبة لا تضر).. والحبّ له قواعد، هناك حبّ صادق، وهناك حبّ كاذب، الإمام الصادق -عليه السلام- ينقل بيتين:
تعصي الإله و أنت تظهر حبّه *** هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبّك صـادقاً لأطعته *** إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع
فإذن، لنكون منصفين مع أهل البيت عليهم السلام، الحبّ الصادق بكلمةٍ واحدة: الحبّ الذي يترجم في مقام العمل.. هناك عواطف، وهناك جوارح.. الحبّ الذي يتعدى إلى الجارحة؛ هذا هو الحبّ الصادق.. وإلا إنسان يلهج بذكر أهل البيت (ع)، وقد يكون رادودا، وقد يكون موفقا وناجحا مثلاً، ما الفائدة إذا لم يترجم هذا الحبّ في مقام العمل؟.. إن الذين عندهم حبّ كاذب، يعوّلون على الشفاعة اللامعقولة، الشفاعة التي لا ضوابط لها، الإمام الصادق (ع) في ساعة الاحتضار، جمع أهل بيته وبيّن لنا قاعدة من قواعد الشفاعة قال (عليه السلام): (إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة).. وعليه، فإن القضية لها ضوابط، ولها قواعد.. علينا أن لا نجعل القضية في دائرة غير منضبطة، فهذا ليس من ديدنهم -صلوات الله وسلامه عليهم-.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.