السجود..
إن لقب الإمام زين العابدين (عليه السلام) المميز؛ هو “السجاد”.. وكلمة “السجاد” هي صيغة مُبالغة؛ بمعنى كثير السجود!.. روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (إن أبي علي بن الحسين ما ذكر لله عز وجل نعمة عليه إلا سجد، ولا قرأ آية من كتاب الله عز وجل فيها سجود إلا سجد، ولا دفع الله عز وجل عنه سوءاً يخشاه أو كيد كائد إلا سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد، ولا وُفّق لإصلاحٍ بين اثنين إلا سجد.. وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده؛ فسمي السجاد لذلك).
أولاً: إن أول عبادة أمر رب العالمين بها الملائكة؛ هي السجود.. فعندما خلق آدم (عليه السلام)، لم يقل: اركعوا، بل قال: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾.. والسجود هو أعلى درجات التذلل لله عز وجل، حيث أن أشرف مكان في الإنسان وهو الرأس، وأشرف مكان في الرأس وهي الناصية أو الجبهة؛ يضعها على أرخص شيء في الوجود؛ وهو التراب!.. ولهذا عندما يريد إنسان أن يذل أحداً؛ فإنه يأخذ بناصيته وينزلها إلى التراب؛ هذه الحركة هي أعلى درجات الذلة: أن يجعل الإنسان أشرف موضع من وجوده -ألا وهو الرأس- على أذل شيء في الوجود.
ثانياً: إن الذلة هنا بمعنى الرخص!.. فالأرض تتكون من يابس ومياه، فلو قارنا بين مقدار من الماء الذي يشرب، ومقدار من التراب؛ فإن الماء له قيمة أكبر!.. وعليه، فإن التراب أرخص شيء في العالم، لذا يقول الكافر يوم القيامة: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾!.. فإذن، إن السجود هو وضع أشرف شيء، على أرخص شيء؛ وهو التراب!..
ثالثاً: إن عملية السجود هذه هي حركة ظاهرية، وأما الباطن فلا يعلمه إلا أولياء الله تعالى.. هناك عبارة في روايات أهل البيت (عليهم السلام) قل من يلتفت إليها، وحتى لو قرأناها نمر عليها مروراً عابراً، تقول الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا قام المصلي للصلاة، نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى أعنان الأرض، وحفت به الملائكة، وناداه ملك: لو علم المصلّي ما في الصّلاة؛ ما انفتل)؛ أي ما ترك الصلاة؛ وبقي في المسجد إلى أن يفقد هذه الحالة من الجلال.. وفي حديث آخر لعلي (عليه السلام): (لو يعلم المصلّي ما يغشاه من جلال اللَّه، ما سرّه أن يرفع رأسه من السجود)؛ هذه الحالة ليست للجميع، بعض المصلين فقط لهم هذه الحالة!.. ولكنْ هناك حد أدنى من الجلال الإلهي، يغشى المصلي.
أنواع السجود..
إن السجود له حالات ومواضع، منها:
أولاً: سجود الصلاة.. وهو ركن أساسي من أركان الصلاة!.. ولئن كان الإنسان ساهياً في قيامه، وفي ركوعه، وفي تشهده، وفي تسليمه؛ فليتقن السجود!.. فإن سها في الركعة الأولى والثانية والثالثة، يحاول في الركعة الرابعة أن يختم صلاته بخير.. والركعة الأخيرة فيها سجدتان، فإن سها في السجدة الأولى؛ يتدارك الموقف، فآخر موقف مهم في الصلاة هي السجدة الأخيرة من الركعة الأخيرة؛ فليحاول الإنسان أن يكون متذكراً ويتقن هذه السجدة!.. والمؤمنون عادة في السجدة الأخيرة يدعون ربهم، بمثل: «يا لطيف!.. ارحم عبدك الضعيف، يا جليل!.. ارحم عبدك الذليل» وغيرها من الأدعية.. وفي غير صلاة الجماعة بإمكان الإنسان أن يطيل في السجدة الأخيرة من الركعة الأخيرة، ولا مانع أن يقرأ فقرات من دعاء كميل، أو دعاء أبي حمزة!..
ثانياً: سجود الشكر.. إن سجدة الشكر يؤتى بها عند تذكر النعم، مثلاً: إنسان جالس مع عائلته، فيتذكر نعمة من نعم الله تعالى عليه، فيخر لله ساجداً.. أو ينظر إلى وجه ولده، فيرتاح لذريته، أو لزوجته؛ فيسجد لله عز وجل.. صحيح أن هذا الولد ولد قبل سنوات، وسجد لله شكراً في ساعة الميلاد؛ وقال: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾؛ فاستجيبت هذه الدعوة، وظهرت آثار السجود، ورب العالمين بارك له في هذا الولد.. فرأى الآن أن هذه حقيقة نعمة، فيسجد لله تعالى شكراً مرة أخرى.
١. قال الصادق (عليه السلام): (إنَّ رسول الله (صلی الله عليه) كان في سفرٍ يسير على ناقةٍ، إذا نزل فسجد خمس سجدات، فلمّا ركب قالوا: يا رسول الله!.. رأيناك صنعت شيئاً لم تصنعه؟.. فقال: نعم، استقبلني جبرئيل (عليه السلام) فبشّرني ببشارات من الله عزَّ وجلَّ؛ فسجدت لله شكراً لكلّ بشرى سجدة).
٢. تقول الرواية: (خرجت مع الصادق (عليه السلام) وهو يحدّث نفسه، ثم استقبل القبلة فسجد طويلاً، ثم ألزق خدّه الأيمن بالتراب طويلاً، ثم مسح وجهه ثم ركب، فقلت له: بأبي أنت واُمّي!.. لقد صنعت شيئاً ما رأيته قطّ، قال (عليه السلام): يا إسحاق!.. إنّي ذكرت نعمةً من نعم الله عزَّ وجلَّ عليَّ، فأحببت أن أُذلّل نفسي، ثم قال (عليه السلام): يا إسحاق!.. ما أنعم الله على عبدٍ بنعمةٍ فعرفها بقلبه، وجهر بحمد الله عليها ففرغ عنها، حتى يُؤمر له بالمزيد من الدارين).
روايات السجود..
أولاً: أثر السجود.. يقول تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾؛ أي يستحب أن يكون هناك آثار للسجود في وجه المؤمن، ولكن لا من باب التعمد.. أما من يتعمد ذلك، فيلجأ إلى بعض الأساليب كي يجعل أثر السجود في جبهته؛ فإن هذا إنسان منافق!.. لأن هذا الأثر يتكون لدى إنسان يحب السجود بين يدي الله عز وجل، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّي لأكره للرجل أن تكون جبهته جلحاء، ليس فيها شيءٌ من أثر السّجود -وبسط راحته- إنه يُستحب للمصلي أن يكون ببعض مساجده شيء من أثر السجود.. فإنّه لا يأمن أن يموت في موضع لا يعرف، فيحضره المسلم، فلا يدري على ما يدفنه)..
-(إنّي لأكره للرجل أن تكون جبهته جلحاء).. “جلحاء” أي صافية ليس فيها أثر السجود.
-(ليس فيها شيءٌ من أثر السّجود).. لعله كناية -والله العالم- عن قلة أنس هذا الإنسان بالسجود بين يدي الله عز وجل.
-(إنه يُستحب للمصلي أن يكون ببعض مساجده شيء من أثر السجود).. بعض المؤمنين يتأذى عندما يرى أثر السجود في وجهه، لأنه يريد أن يعبد ربه سراً، لذا يطلب من الله عز وجل أن يعيذه من العجب!.. والإمام زين العابدين (عليه السلام) أصلاً ملقب بذي الثفنات، لأنه كان هناك آثار على مواضع السجود من بدنه، كانت هذه الآثار تقص لخشونتها.. قال الباقر (عليه السلام): (كان لأبي (عليه السلام) في موضع سجوده آثاره ناتئة، وكان يقطعها في السّنة مرّتين، في كلّ مرّة خمس ثفنات؛ فسمّي ذا الثفنات لذلك).
-(فإنّه لا يأمن أن يموت في موضع لا يعرف، فيحضره المسلم، فلا يدري على ما يدفنه).. لو مات الإنسان وعلى جبهته هذا الأثر؛ فإنها تدل على أنه إنسان مؤمن؛ لأن السجود صفة من صفات المؤمن!..
ثانياً: إطالة السجود.. إن الشيطان عدوه السجود؛ لأنه أُكل في هذه الحركة!.. لم يكن اختبار الشيطان اختباراً شاقاً بل كان اختباراً بسيطاً، ولكن المتكبر له اختبار شاق!.. لذا، عندما يسجد المؤمن، فإن الشيطان كأنما يتذكر يوم خلقة آدم، تقول الراوية عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (إنّ العبد إذا أطال السجود حيث لا يراه أحد، قال الشيطان: واوَيلاه!.. أطاعوا وعَصَيت، وسجدوا وأبيت).
-(إنّ العبد إذا أطال السجود، حيث لا يراه أحد).. إن إطالة السجود أمام الناس ربما يكون فيها شبهة الرياء، لذا فإن السجدة عادة أمام الناس تكون سريعة، والسجدة السريعة قد لا تثير الشيطان.. إنما ما يزعجه هو إطالة السجدة في الخلوة، كخلوة الليل -مثلاً- وهنيئاً لمن غلب عليه النوم في صلاة الليل وهو ساجد، فيكون جسمه في الأرض، وروحه في السماء!.. هذا العبد يباهي الله تعالى به الملائكة، عن رسول الله (صلی الله عليه): (يا أبا ذر!.. إنّ ربك -عزَّ وجلَّ- يباهي الملائكة بثلاثة نفر -إلى أن قال (صلی الله عليه)- ورجل قام من الليل فصلّى وحده، فسجد ونام وهو ساجد، فيقول الله تعالى: اُنظروا إلى عبدي!.. روحه عندي، وجسده في طاعتي).
-(واوَيلاه!.. أطاعوا وعَصَيت، وسجدوا وأبيت).. أي هذا الإنسان مطيع، وأنا عاصي؛ كأنه يعيش الحسرة!..
ثالثاً: الدعاء في السجود.. إن السجود فرصة ذهبية كي يدعو الإنسان لدنياه وآخرته، جاء عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) لما سأله سعيد بن يسار: أدعو وأنا راكع أو ساجد؟.. فقال: (نعم، ادع وأنت ساجد!.. فإن أقرب ما يكون العبد إلى اللَّه وهو ساجد، ادع اللَّه عزَّ وجلّ لدنياك وآخرتك).
رابعاً: معاني السجود.. إن هذه الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) تتحدث عن تفسير السجدتين!.. قال علي (عليه السلام): (… وتأويل السجدة الأولى، أن تخطر في نفسك وأنت ساجدٌ: منها خلقتني.. ورفع رأسك تأويله: ومنها أخرجتني.. والسجدة الثانية: وفيها تعيدني.. ورفع رأسك تخطر بقلبك: ومنها تخرجني تارةً أخرى)؛ هناك أربع حركات في السجود:
١. السجود الأول: (منها خلقتني)؛ أي من التراب.
٢. رفع الرأس: (ومنها أخرجتني)؛ ولكن هل هذا الإخراج هو الإخراج الأول بعد نفخ الصور، أو أخرجتني من التراب في الحياة الدنيا؟!..
٣. السجدة الثانية: (وفيها تعيدني)؛ يقول تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾.
٤. رفع الرأس: (ومنها تخرجني تارةً أخرى)؛ إذن، خلقنا من التراب، ثم نعود إلى التراب، ثم نرجع من التراب.. فرب العالمين عندما ينفخ في الصور يخرجنا من الأجداث سراعاً، يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾.
بركات السجود..
أولاً: الأنس.. إن هناك من يأنس بالسجود بين يدي الله تعالى، فبعض الناس ينام على شوق أن يستيقظ في جوف الليل، ليسجد هذه السجدة الممتعة!..
ثانياً: الإدمان.. إن كثرة السجود من موجبات الإدمان، فهناك من يدمن على المسكر، وهناك من يدمن على السجدة.. نعم، من يمشي في الطريق يصل، بعض المؤمنين -وهو من عامة الناس، وليس من العلماء- بعض الأوقات يشعر أن جبهته تحتاج إلى السجود، وكأن هناك نقصاً أو ألماً لا يسكن إلا عندما يضع رأسه على التراب؛ عندئذ تسكن روحه!..
ثالثاً: إزالة الهموم.. إن السجود مفيد لمن ألمت به الهموم والغموم، فهو من مروحات القلوب؛ وهذا مجرب عند أهله، وخاصة بعد الفريضة؛ لأن السجدة الصلاتية فيها مواضع وتقيد..
١. قال الصادق (عليه السلام): (إذا أصابك أمرٌ فبلغ منك مجهودك، فاسجد على الأرض وقل: يا مذلّ كلّ جبّار!.. يا معزّ كلّ ذليل!.. قد وحقّك بلغ مجهودي، فصلّ على محمد وآل محمد، وفرّج عنّي).
٢. قال الصادق (عليه السلام) لرجل: (إذا أصابك همّ فامسح يدك على موضع سجودك، ثم أمرَّ يدك على وجهك من جانب خدّك الأيسر، وعلى جبهتك إلى جانب خدّك الأيمن، ثم قل: بسم الله الذي لا إله إلاّ هو، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم.. اللهم!.. اذهب عنّي الهمَّ و الحزن .. ثلاثاً).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.