إن معرفة أئمة أهل البيت (ع) تتم من خلال قنوات، من هذه القنوات: كلماتهم بحق أنفسهم، وكلمات بعضهم في حق بعضهم.. ومن ذلك الكلمات الحكمية والدعائية المروية عنهم.. ومحاسن كلماتهم: تارة تكون في قالب الدعاء، وتارة في قالب الموعظة.. ودعاء كميل من الأدعية الخالدة في تاريخ البشرية، حيث قلما يكون هناك تفاعل كتفاعل المؤمنين بهذا الدعاء.. بل أصبح معلما في بلاد المؤمنين والمسلمين، ليلة الجمعة هناك مجالس تعقد لهذا الغرض حتى في بلاد الغرب.. وطبعا عندما يجتمع الناس لقراءة دعاء كميل، هناك برامج أخرى: هناك المحاضرات، وهناك الندوات، و..الخ.. إن الله -عز وجل- جعل فيه البركة، كما جعل البركة في فعل إبراهيم (ع) الذي بنى بيته الحرام.
(اللهم إني أتقرب إليك بذكرك).. إننا نلاحظ بين فقرة وأخرى في دعاء كميل كلمة (اللهم)، وكأنه تذكير للعبد بأن يلتفت إلى ربه كلما نسي.. وكذلك هو الحال في الصلاة الخاشعة، فإن أكثر ذكر متكرر في الصلاة هو التكبير، حيث هناك: تكبيرة الإحرام، ثم التكبير قبل الركوع، والتكبير قبل السجود.. كأن الله -عز وجل- يريد أن يذكرنا بنفسه كلما نسينا.. فإذن، [الله أكبر] في الصلاة هي محطات تذكير، وكذلك في كل فقرة من الدعاء كلمة (اللهم) هي محطة من محطات التذكير أيضا.
(أتقرب إليك بذكرك).. كيف يتقرب الإنسان إلى الله عز وجل؟.. قد يقول قائل: إن التقرب يكون بالعمل الذي فيه كلفة، والذي فيه مجاهدة: كالعمل، والجهاد، والإنفاق؛ أن ينفق الإنسان مما يحب، وأن يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، فإذن المقياس هو العمل.
لماذا خص الإمام (الذكر) بذلك؟.. الملفت بهذه المناسبة أنه بالنسبة إلى موسى -عليه السلام- وهو في طريقه إلى الصراع مع فرعون، رب العالمين طلب منه أن يقيم الصلوات {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}.. وأيضا جعل ثمرة العبادة التي يقوم بها موسى (ع) هي الذكر الإلهي.. فالذكر إذا تغلغل في القلب، ودخل شغاف القلب؛ عندئذ تنسجم الجوارح مع حركات هذا القلب.. وبعبارة أخرى: القلب أمير البدن، فالقلب إذا صار إلهيا بالذكر؛ فإنه من الطبيعي أن تصبح المملكة إلهية، وهناك عبارة حكمية تقول:
(الناس على دين ملوكهم)، فهذا التوجه ينعكس على الرعية، والقلب إذا صار عامرا بذكر الله عز وجل؛ فإن الجوارح كلها تنسجم مع حركة هذا القلب.
إن الذكر له ثلاث مراحل:
أولا: الذكر اللساني: وهو أضعف الإيمان، رأس ماله حركة عضلات الفم والشفتين، هذا الجهاز النطقي عندما نحركه يتولد الذكر اللساني.. هناك بحث بين العلماء أن هذا الذكر اللساني إذا لم يكن معه ذكر قلبي، هل يؤجر عليه الإنسان أم لا يؤجر؟.. هنالك من يقول أن هذا الذكر لا يؤجر عليه الإنسان؛ لأنه لا يعد ذكرا، فمثلا قد يقول إنسان: لو أتيت الأكل الفلاني فعلي كذا، فربط بين الأكل وبين عمل معين، فهو حرك فمه، ولكن لم يجعل في فمه لقمة طعام، فهل يقال بأنه أكل؟.. هناك حركة أكل، ولكن لم يدخل إلى الفم.. كأن الإنسان يذكر الله -عز وجل- بلسانه، وليس هناك مضمون في القلب.. هنالك من يقول بأن هذا الذكر لا يعد ذكرا أصلا، فالذكر قوامه القلب، واللسان يعكس ما في القلب، كما يقول الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما *** جُعل اللسان عن الفؤاد دليلا
إن الإنسان يتكلم أصلا بقلبه، ولهذا -بعض الأوقات- نرى الإنسان بينما هو جالس يحمر وجهه، وعندما تسأله: لمَ تغير حالك؟.. يقول: تذكرت فلانا وأنا أتنازع معه.. فهو يتنازع مع فلان في قلبه، ولكن يظهر الأثر على البدن، كما قال الشاعر تماما.
فإذن، إذا لم يكن هناك رصيد باطني، فهذه الحركة اللسانية لا قيمة لها، وهذا ما قيل أن لا أجر فيه.. ولكن الإنصاف أن نقول: أن الله -عز وجل- بلطفه وبرحمته، نحن نعتقد بأنه سوف يؤجر هذا الإنسان، مثلا: إنسان يلهج بذكر الله ولو لسانا، يبدو أنه أقرب إلى الرحمة الإلهية من إنسان لا ينطق بشيء.. أضف إلى أنه بمجرد أن تلهج هذه الليلة بـ(لا إله إلا الله) أو الصلاة على النبي، من الممكن أن تقولها تسع وتسعين مرة وأنت لا تعني شيئا، ولكنه لا يعقل في المائة والمائتين والألف مرة، أن لا تستحضر المعنى ولو لمرة واحدة.. فهذه المرة كافية بأن تجعلك في زمرة الداخلين إن شاء الله.
ثانيا: الذكر الفكري.. وهو الأوسط، وهو أرقى من الذكر اللساني؛ أي أن الإنسان ينشغل بالله عز وجل.. فما معنى الانشغال بالذكر الفكري؟.. هل هناك شيء ما وراء الذكر الفكري؟..
الذكر الفكري بمعنى أن يتذكر الإنسان الشيء، ولا يتفاعل معه.. مثلا: هناك شخص كان قادماً إلى المجلس، وأثناء سيره في الطريق رأى حادثا مروريا، أدى إلى موت أحد الأشخاص.. وفي نفس اللحظة، يكون هناك إنسان آخر أيضا قادم إلى المجلس، ورأى الحادث، واكتشف أن الشخص الميت هو ابنه.. فالأول يتذكر الحادث ويستحضره، ولكنه لا يتفاعل معه.. أما الشخص الآخر، فإنه يتذكر الحادث، ويتفاعل معه، ولربما أغمي عليه من الألم.
وأيضا مثال آخر: بعض الأطباء في غرفة العمليات الجراحية، يقول: سبحان الله ما هذا الخلق!.. فهو رأى أعاجيب البدن؛ ولكن قد يدخل وقت الصلاة، وينتهي الوقت، ولا يركع لله ركعة واحدة.. فإذن، إن هذا الإنسان ذكر الله بفكره، بل رأى الآيات الإلهية بين يديه، ولكنه لم يتفاعل.
ثالثا: الذكر القلبي.. وهو الأرقى؛ بمعنى أن الإنسان قلبه يتفاعل مع ذكر الله عز وجل، فتحصل رقة القلب وجريان الدمع.. فإذن، إن الذكر القلبي هو ذلك الذكر الذي يتغلغل في أعماق القلب، والجوارح تسعى لأن تطبق حركتها مع الذكر القلبي.. وعليه، فإن الذكر الذي نعتقد أن الإمام (ع) يعنيه، هو هذا الذكر الذي يلامس أعماق الوجود.. وبالتالي، هذا هو الذي يقرب الإنسان إلى ربه.
(وأستشفع بك إلى نفسك).. ندعو أولا بعض الذين يتهمون أتباع أهل البيت (ع)، والذين أساؤوا فهم الشفاعة، وقالوا: أنهم أعطوا لغير الله ما لم يعطوه لرب العالمين.. ليلتفتوا إلى كلام أمير المؤمنين (ع)، يقول: يا رب أنا أستشفع بك إلى نفسك، فمعنى (أنا فارًّ منك إليك)؛ أي يا رب أنا أتقرب إليك، وأحتاج إلى وسيلة وإلى شفيع، وشفيعي أنت.. ورب العالمين أعطى هذه الخاصية، وهذه الشفاعة، وهذه الكرامة لأحبته من خلقه.. فإذن هو الذي يشفع لك أولا، ومن هنا جعل في الخلق وسائط، وذوات مقدسة طاهرة، وأمر الناس بالتقرب إلى هذه الذوات.. إن رب العالمين هو الذي يشفع، وهو الذي يدخلك إلى الجنة؛ ولكن ما المانع أن يجعل عليا -عليه السلام- قسيم الجنة والنار، بإذنه وبضوابطه وبما يجعله هو -جل جلاله- من قواعد لهذه الشفاعة.. وبالتالي، فإن الشفاعة الكبرى هي لله رب العالمين، ونحن نعلم أن هذه الشفاعات كلها مقتبسة من رحمة الله الواسعة.
(وأسألك بجودك أن تدنيني من قربك وأن توزعني شكرك).. هنا ننتقل إلى آية في القرآن الكريم، فيها هذه العبارة {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}.. هذه الآية متعلقة بنبي من أنبياء الله -عز وجل- وهو سليمان (عليه السلام)، فالنبي سليمان أعطي مزية عجيبة: فأولا علم منطق الطير، ومن هنا نعلم أن هذه الموجودات موجودات شاعرة، وسوف نفاجأ يوم القيامة بأن هذه الحيوانات كانت تفهم أكثر مما نظن، والدليل على ذلك هدهده ونملته {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}.. نحن نعتقد أن الهدهد هو مجرد طير صغير، وإذا به يتحدى سليمان ويقول: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}؛ أي يا سليمان أنا لدي من الأخبار ما لم تطلع عليها، ثم يأتيه بتقارير مفصلة عن هذه المملكة: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}.. وأيضا النملة {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا} فلو كانت هذه النملة نملة سليمانية، أو نملة خاصة، خلقت واندثرت؛ لكان القرآن الكريم ذكر هذا وقال: نملة إعجازية.. لكن القرآن قال: {نَمْلَةٌ}، وقال: {الطَّيْرَ}.. فالقرآن الكريم لم يذكر عبارة تدل على أن هنالك شيئا متميزا، والذي نفهمه نحن أن سليمان علم منطق الطير.
فإذن، إن هناك طيرا وله منطق؛ ولكن نحن لا نفقه هذا المنطق.. ومن هنا أعطي سليمان هذا الامتياز، وإلا لكنا علمنا منطق هذه النملة الخاصة، أو علمنا منطق هذا الهدهد الخاص، فالعبارة عبارة جامعة وشاملة لكل الطير.. {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، كيف ميزت هذه النملة سليمان، وقالت الحق عندما طلبت من النمل أن يدخلوا مساكنهم، ويبتعدوا عن الطريق، لأنه لا ذنب لسليمان إذا مر بجنوده على خيولهم وسحقهم.. هنا {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.
معنى أن توزعني شكرك؛ أي تلهمني شكرك، يا رب أنا لا أعرف كيف أشكر نعمك.. فشكر النعمة ليس بأن تأخذ سبحة وتقول مئة مرة: شكرا شكرا.. شكر النعمة هو أن تصرف النعمة فيما يرضي رب العالمين، كما في قوله تعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}، فليس كل إنسان يفعل الخير هو منعم.. والخيرات لها درجات: فهنالك خير دانٍ، وهنالك خير عالٍ.. فالشيطان إذا لم يمكنه أن يشغلك عن الخير، شغلك بالخير الداني، مثلا: هناك إنسان مؤمن مخير بين أن يطبع كتابا مهماً يهدي الآلاف من الناس، ومخير بين أن يعطي مبلغا لفقير يشتري به طعاما أو دابة.. فشراء سيارة للمؤمن الفقير خير، وأيضا طباعة الكتاب الذي ينقذ الآلاف من الجُهّال والضالين خير.. هنا يحاول الشيطان أن يمنعك أولاً عن فعل الخير، وإذا لم يفلح شغلك بالخير الذي هو أقل قيمة.. ولهذا تقول الآية: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}، فهنيئا لإنسان ألهمه ربه فعل الخير!..
{وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}؛ هذه الآية تدل على أنه من المهم أن يكون الله -عز وجل- راضيا عن هذا العمل، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.. فعندما تطلب من رب العالمين أن يلهمك فعل الخيرات؛ أي تعني بذلك كل مقدماته، فتسأل الله التقوى التي هي رصيد لقبول العمل {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.. هنا اصطلاحان يبقيان في الذهن إلى آخر العمر: صلاح الفعل، وصلاح الذات.
(وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين).. إن الله -عز وجل- قد يحب عبداً، ويبغض عمله.. وقد يبغض عبداً، ويحب عمله.. وهنا يطلب الإمام علي بن أبي طالب (ع)، من الله -عز وجل- أي أن يجعله في زمرة الذين ذواتهم ذوات صالحة، وأعمالهم أعمال صالحة.. وهنيئا لمن جمع هذه المراحل!.. فالإمام يطلب من الله -عز وجل- أن يعلمه كيفية الشكر، وأن يلهمه شكره وذكره.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.