{لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ}.. في بعض التفاسير: أن البعض سأل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن قصةِ يوسف، والله -عزَ وجل- أجابَ على تساؤل الآخرين.. إن حالة السؤال حالة جيدة، فالمخ البشري كالعضلات، إذا لم نستعمل المخ في الأمور المتعقلة وفي المدركات؛ فإنهُ يضمر تدريجياً، كما أن العضلات غير المستعملة تضمر، كذلكَ الفكر والذهن الذي لا يستعمل يضمر.. نحنُ مشكلتنا أننا نقرأ ونستمع، ولكن لا نفكر.
فإذن، {آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ}، الذي يسأل يُعطى الإجابة.. السؤال هنا لهُ آداب: بعض الناس يسأل عن كُلِّ ما هبَّ ودب، وكثير من الأسئلة لا فائدة من الجواب عليها، لا للدنيا ولا للآخرة.. فالإنسان قبل أن يسأل العالم، أو غير العالم، عليه أن ينظر إلى الثمرة في السؤال.. مثلا: عندما يمر الإنسان على آية فيها غموض، فليكتب ذلك، وعندما يزور عالماً من الجميل أن يقلب المجلس إلى مجلس علمي.. فالإنسان عندما يحضر هذهِ المجالس قد ينفع الغير أيضاً، وذلك من خلال طرح بعض التساؤلات أو المسائل الشرعية على هذا العالم؛ فإن الكل ينتفع ويستفيد.. وبالتالي، فإنه أولاً أحيا المجلس، وثانياً كان سببا في حديث العالم، وثالثاً كانَ سبباً في نفع الآخرين.. والقرآن غني بهذهِ الأمور، مثلاً: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}، السؤال: لماذا جعل الخشوع في الأول، والحفظ بالأخير؟.. وفي سورة البقرة {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}؛ والمتقون هم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}: ألا يعد أن المعرفة النظرية، والفهم، والتفقه، وفهم العقائد الصحيحة؛ مقدم على العبادة؟.. هناك تساؤلات كثيرة في القرآن الكريم، بحور من المعارف.. بإمكان الإنسان أن يذهب كل يوم إلى بيت عالمٍ من العلماء، ليستفيد منهُ.. وفقدان مجالس العلماء من موجبات عدم الاستجابة، كما في دعاء أبي حمزة الثمالي: (أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء؛ فخذلتني).
{إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِين}.. أنظروا إلى مسألة الخداع، كيف يخدع الإنسان نفسه؟.. هم يعرفون أنَ يعقوب نبي من أنبياء الله، وما رأوا من يعقوب -عليه السلام- إلا الخير، ولكنهم قوم حاسدون، يهمونَ بقتل أخيهم، ويصفون أباهم أنهُ في ضلال مبين.. الإنسان بعض الأوقات يبلغ بهِ السوء: أن يرى نفسهُ على خير، وأهل الصلاح في ضلال.. والجميل أن هؤلاء {قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}.. إبليس أيضاً قالَ لآدم أنهُ من الناصحين، ثم أقسمَ على قوله؛ {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}.. هذهِ المرحلة جداً متطورة في السوء، أن يصل الإنسان إلى درجة يسدد خطيئتهُ.. الغربيون هذهِ الأيام عندهم انحراف، فهم كالبهائم {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.. ولكن المشكلة أن هناك كتبا ومقالات، ومظاهرات صاخبة، يمشي في مقدمتها شخصيات سياسية كبرى، يحييون ما عملهُ قوم لوط قبل آلاف السنين، الذين عاقبهم رب العالمين بأن جعل مدنهم عاليها سافلها.. فالمشكلة عند البعض، أنهُ يقلل من أهمية خطيئتهِ، ويعطيها بعداً توجيهياً.
{قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ}، ونحن عصبة، أيضاً هذهِ مشكلة أخرى: بعض الأوقات الإنسان يستقوي عندما يرى كثرة الناس حوله: كالعشيرة، والقبيلة، والأخوة والأخوات؛ ولكن كل ذلك ماذا يعني؟.. ما هي هذهِ القوة المكتسبة، ممن هو ضعيف مثلك؟.. فالصفر فقير، والصفر ضعيف، والصفر لا شيء، فإذا وضع بجنبهِ صفر ثان هل يصير قويا؟!.. الصفر صفر، هذهِ الأصفار مهما كثرت لا قيمة لها، الإنسان ضعيف ومسكين؛ فلماذا تجعل صفرا بجواره من موجبات القوة!.. هؤلاء قالوا نحنُ عصبة، نحنُ جماعة عددنا أحدَ عشر؛ ما قيمة هذهِ العصبة، إذا لم يكن معها مدد إلهي؟.. قال الرسول الأكرم (ص): (من أراد عزاً بلا عشيرة، وغنىً بلا مال، وهيبة بلا سلطان؛ فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته).. هناك علماء كبار ليس لهم منصب، ولا حماية، وليس لهم تلكَ الوجاهة المصطنعة.. ولكن الصفات الإلهية تتقاطر: هيبة في الوجه، ومحبة في نفوس الناس.. لماذا لا نحاول أن نكتسب هذهِ الصفات من المبادئ الصحيحة؟.. قال رسول الله (ص): (قول الرجل لزوجته: إني أحبك؛ لا يذهب من قلبها أبدا)، هذهِ أسباب طبيعية.. أو تعلم أن المؤمن محبتهُ متصلة بمحبة الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}؛ إنه ود عجيب وغريب!..
إذن، الإنسان الذي يريد أن يكون وجيه القوم، كُل هذهِ لها أسباب إلهية، والأسباب الإلهية لا تفنى.. فالذي يعتمد على أخيه، قد يموت هذا الأخ، ويبقى هو وحيدا فريدا.. وعليه، فإن الذي يمكن التعويل عليه، ليس لهُ ثبات ودوام.. فما الذي جعل أخوة يوسف يعيشون هذهِ الحالة السلبية؟.. إنه الحسد وهو المرض الذي أتى على الشيطان الذي أبتلي بشقاء الأبد؛ ولكن ما هو الحسد؟.. إن الإنسان علاقتهُ مع الغير على أربع حالات:
أولاً: الحسد.. وهو تمني زوال النعمة عن الغير، وليس مهما أن تأتي إليه.. والحسد أعم من الحسد الديني والدنيوي، بعض الأوقات الإنسان يسمع إنسانا يبكي بكاءً عالياً في مجلس أهل البيت، يحسدهُ على رقة قلبه، ويتمنى زوال هذه الحالة منه؛ حتى لا يعيش هو حالة وخز الضمير.
ثانياً: البخل.. وهو تمني زوال النعمة عن الغير، وانتقالها إليه.. أي يتمنى رفعها من الغير، ووضعها عنده فقط، وهذا ما يسمى بحب الاستئثار بهذهِ الصفة.
ثالثاً: الإيثار.. وهو تمني انتقال الصفات الجيدة للغير، وإن سلبت منه.. بعض الأوقات الإنسان الرقيق القلب والمتدين، عندما يرى إنسانا منحرفا وقاسي القلب يقول: يا رب، أهديه إلى طريق الخير.. وإذا توقف الأمر أن تسلب مني رقة القلب، وتعطيه هذهِ الرقة، أنا أعطيه هذهِ الرقة خذ مني.. أي تقديم الغير على النفس، حتى في الأمور المعنوية.
رابعا: الغبطة.. وهو تمني الحصول على نعمة مثل التي عند الآخرين، دون تمني زوالها عنهم.. يقول: يا رب، كما أعطيت فلان هذهِ الصفة، لا تسلبها منه؛ ولكن أعطني مثلها.
فإذن، هنالكَ غبطة؛ أن تتمنى الصفة لكَ ولغيرك.. وهنالك حسد؛ أن تتمنى زوال الصفة من الغير.. وهنالك بخلٌ؛ أن تتمنى انتقال النعمة إليك.. وهنالكَ إيثار؛ وهو أن تتمنى انتقال الصفة منك إلى غيرك.. الغبطة والإيثار؛ مطلوبان.. والحسد والبخل؛ مذمومان.
لماذا هذا التأكيد على مسألة الحسد، ومذمومية الحسد.. إن الحسود إنسان غير مؤدب أمام الله عز وجل، الإنسان الحاسد كأنه يقول: يا ربِ، لماذا أنعمت على فلان، أسلب منهُ هذهِ النعمة؟!.. ومن أنت حتى تطلب من الله أن يسلب النعمة؟!.. كم هذا سوء أدب!..
أولاً: تدخل في شؤون الله عز وجل.
وثانياً: تدخل سيء؛ تقول: يا ربِ فلان أعطيتهُ مالا، أسلب منهُ المال.. وهو الكريم، ويعلم أين الصلاح.
فلب الحسد هو الكفر بالله -عز وجل- ولهذا ورد في رواية عن النبي (ص): (قال الله -عز وجل- لموسى ابن عمران: يا بن عمران!.. لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي، ولا تمدن عينيك إلى ذلك، ولا تتبعه نفسك.. فإن الحاسد ساخط لنعمي، صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي.. ومن يكن كذلك، فلست منه وليس مني).. تعبير فيهِ تهديد بليغ!.. البعض يقول: أنا عندما أرى نعمة عند الغير، تأتيني هذهِ الحالة دون قصد مني، وذلك اليوم أحس باكتئاب نفسي.. إذن، هل أنا إنسان مذموم، وهل ينطبق عليّ هذا الحديث: (فلست منه، وليس مني)؟..
توضيح: إن هناك فرقا بينَ الهواجس الشيطانية، والهواجس النفسية؛ وبينَ ما استقر في القلب.. الإنسان لا يؤاخذ بهواجسه، الهاجس يأتي ولكن لا تجعلهُ يستقر في نفسك {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}، والمؤمن إلى أن يموت وهو يعيش هذهِ الهواجس.. والبعض قد ييأس من نفسهِ فيقول: أريد أن أترك مجاهدة النفس؛ حيث الصور الشهوية والغضبية والحسدية، لازالت تأتيني وأنا في حال السجود، فالخير سُلب مني.. بينما ورد في الرسالة العملية في باب الرياء: الرياء؛ أن تنوي أنكَ تعمل هذا العمل لغير الله، وأما الهواجس فلا تضر وخصوصاً إذا تأذى الإنسان منها.. كم من الجميل أن يعيش الإنسان حالة الحسد، ثم يذهب إلى المحراب، ويجأر إلى الله -عز وجل- ويقول: يا رب، ترى حالي أنا أعيش الحسد الآن، قلبي انقبض عندما سمعت أن أحدهم ربح المبلغ الفلاني، أو رزق ذرية، ماذا أعمل مع نفسي هذه؟.. وهكذا كلما أرادَ أن يخلو مع ربه، (الحمد لله الذي أناديه كلما شئت لحاجتي، وأخلو به حيث شئت لسري)، يذهب إلى محاربه، فيتذكر أنه في هذهِ الزاوية أحيا ليلة القدر.. حتى من زاوية علمية: عندما يذهب إلى مكان فيهِ ذكريات طيبة؛ يتفاعل ويفرح.. وإذا فيه ذكريات سلبية؛ يحزن.
فإذن، إذا رأى الإنسان هذهِ الحالة الحسدية، يذهب إلى المصلى، وأفضل دواء وعلاج لهذهِ الحالة، ما ذكرهُ الإمام زين العابدين -عليه السلام- يا لها من مناجيات، هذهِ المناجيات الخمس عشرة هي صيدلية جامعة: عند الذنب؛ يقرأ مناجاة التائبين.. وإذا كان هناك إقبال شديد؛ عليه بمناجاة المحبين، وإن كان البعض يقول: أنا أخجل من قول: (إلهي!.. فاجعلنا ممن هيمت قلبه لإرادتك، واجتبيته لمشاهدتك، وأخليت وجهه لك، وفرغت فؤاده لحبك، ورغبته فيما عندك).. إذا كان الأمر كذلك، فليتمتم بها، وليقرأها قراءة على لسان الإمام زين العابدين ويقول: يا رب، هذا ليس كلامي، هذا كلام إمامنا زين العابدين عليه السلام.. وعند اليأس من النفس، يقرأ مناجاة الراجين.. وإذا كان هناك رزق معنوي، عليه بمناجاة الشاكرين، أو المريدين، أو الراغبين.
إن موسى بن جعفر -عليه السلام- عوضَ عن سجنهِ بكثرة السادة الكرام، والإمام زين العابدين -عليه السلام- عوضَ في مقابل أسرهِ وما وقعَ عليه من العذاب النفسي والبدني، أن أعُطي هذا التراث العظيم.. فهل هناك أفضل من مناجاة الشاكين؛ تلكَ المناجاة الجميلة: (إِلـهي!.. إِلَيْكَ أَشْكُو نَفْساً بِالسُّوءِ أمّارَةً، وَإلَى الْخَطيئَةِ مُبادِرَةً،… إلـهي!.. أشْكُو إِلَيْكَ عَدُوّاً يُضِلُّني، وَشَيْطاناً يُغْويني، قَدْ مَلاَ بِالْوَسْواسِ صَدْري، وَأحاطَتْ هَواجِسُهُ بِقَلْبي… إِلـهي!.. إِلَيْكَ أَشْكُو قَلْباً قاسِياً مَعَ الْوَسْواسِ مُتَقَلِّباً، وَبِالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ مُتَلَبِّساً، وَعَيْناً عَنِ الْبُكاءِ مِنْ خَوْفِكَ جامِدَةً)؟!.. نعم، المؤمن بعض الأوقات يشكو، ولكن ما النتيجة؟.. وبعض الأوقات يُعطى بعض المنح الروحية الكبرى، التي تستلزم منه مجاهدات طويلة بدعوةٍ في جوف الليل.
كيف نعالج الحسد؟.. يكون علاج الحسد بعدة أمور منها: أن تهدي هدايا للمحسود، وأن تصرف نفسكَ عنه، وأن لا تلتقي به.. وهناك علاج آخر، وهو أفضل من كل ما سبق؛ ألا وهو التسديد من رب العالمين، فبعملية جراحية في العمق، يقتلع هذهِ الغدة السرطانية، ويلقيها جانباً في ليلة واحدة.. أحدهم يقول: ابتليت بمحبة الفانيات، فكنتُ متألماً لهذهِ المحبة، سُئل الإمام الصادق (ع) عن العشق فقال: (قلوب خلت عن ذكر الله؛ فأذاقها الله حب غيره).. طلب من أحدهم أن يدعو له.. يقول: وبعد أن تركتُ هذا العبد الصالح، التقيتُ بمن شغلتني، وبمجرد أن رأيتها، أردتُ أن أهرب منها من شدة النفور!.. نعم (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن)، الذين يأسوا من المجاهدة، فليطلبوا من الله -عز وجل- أن يصلح أمرهم في هذا المجال.
{اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}، وهذه سخافة أخرى، فقبل ذلك قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}؛ إنهم أناس في أسوء حالة حسد!.. هنا يقولون: اليوم نقتل يوسف، وبعد ذلك نكون قوما صالحين؛ أي أنتم الآن بعملكم هذا مجرمون، فهم يعترفون بذلك.. ولهذا يقول: {مِن بَعْدِهِِ}، وهذا منطق شبابنا اليوم، الذين يذهبون إلى دولة أجنبية، لا ترتفعُ فيها كلمة (لا إله إلا الله).. الشهادة من الجامعات التي في بلاد الغرب جيدة، ولكن ليس للجميع.. فالذي يخافُ على دينه، كيف يذهب إلى هذهِ البلاد، أليس يسمى التعرب بعد الهجرة؟.. مثلا: البلاد التي فيها وباء، لا يقربها الإنسان بل ولا يستعمل منتجاتها، فبني آدم في مقام الدنيا يحتاط، الخوف هنا محترم، وينبغي أن نرتب عليهِ الآثار.. وأما الخوف على الدين فليس لهُ قيمة، هو يقطع أنهُ إذا ذهب إلى بلاد الغرب، سيفقد إيمانهُ، يقطع قطعاً؛ ولكن لا يجعل هناك مجالا للاحتياط.. يقول: كلها أربع سنوات دراسة، وأعود.. وإن شاء الله أول يوم بعد العودة، أذهب إلى بيت الله الحرام، وتحت الميزاب: أقول: اللهم!.. أني أستغفركَ وأتوبُ إليك.. ولكن هناك عدة إشكالات، منها:
أولاً: عدم ضمان العودة.. من أين يضمن الإنسان أن تبقى هذهِ الحالة -حالة التوبة والندامة- فيه بعد أربع سنوات.. إذ من الممكن أن يصل إلى مرحلة من المسخ، الإنسان بعدها لا يرى الباطل باطلاً، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}..
ثانياً: صحة التوبة.. من قال: أن الله -عزَ وجل- يقبل التوبة عندئذ؟.. {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.. فالتوبة فيها شروط، أما إنسان يتعمد الفاحشة على أمل أن يتوب بعدَ ذلك، فإن رب العالمين لا ينسى ذلك..
ثالثاً: التعويض.. هذهِ السنوات الأربع التي فاتت من الذي يعوضها؟..
رابعاً: النهاية.. حتى لو قبلت التوبة، ولكن شتان بين إنسان أمضى أربع سنوات في الدراسة وطاعة ربه، وبين إنسان أمضاها في الدراسة والخطيئة!.. الأربع سنوات ماذا بقي منها غير هذهِ الشهادة؟.. على كل حال هذهِ الشهادة قيمتها إلى باب القبر، وبعدها ماذا تعمل؟.. إذاً الإنسان يفكر في هذهِ النهاية.
ولهذا فإن زاد المؤمن الدائم الاستغفار، لا تؤجل الاستغفار إلى أن تذهب للعمرة؛ أفضل أنواع التوبة بعدَ الخطيئة مباشرةً، قل: يا رب، هذهِ الجريمة طازجة، وهذهِ أداة الجريمة، وأنا المجرم؛ ماذا تفعل الأمرُ إليك؟.. إذا لم يكن بعد العمل مباشرة، فبالأربع والعشرين ساعة، نجعل محطتي استغفار: المحطة الأولى: في النهار بعد صلاة العصر، نستغفر الله -عزَ وجل- سبعين مرة.. والمحطة الثانية: في جوف الليل، في صلاة الليل.. محطة النهار ماحية لسيئات النهار، ومحطة الليل ماحية لسيئات الليل.. النبي الأكرم (ص) يقول: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات، فهل يبقى من درنه شيء)؟.. الذي يدخل البحر لا ينوي إزالة الأوساخ، ولكن الإزالة تتم بشكل طبيعي قهري، فالمهم أن ندخل البحر.. إذن، الذي يستغفر الله في اليوم مرتين، فقد دخل الحمام مرتين؛ فيخرج ولاشيء عليهِ بإذن الله.
{اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}.. ما قيمة يعقوب إذا خلا وجههُ لكم، وقد غضبَ اللهُ عليكم؟.. نعم، هكذا يصبح الإنسان عندما تختل عندهُ الموازين، ويا ليتهم قالوا: يخلُ لكم قلب أبيكم!.. وهنا درس عملي: هناك حركة تربوية جميلة في روايات أهل البيت -عليهم السلام- البعض يركز كل اهتمامه على ولد واحد، وهذا خطأ، يقول الصادق (عليه السلام): قال والدي (عليه السلام): (والله إني لأصانع بعض ولدي، وأجلسه على فخدي، وأكثر له المحبة، وأكثر له الشكر، وإن الحق لغيره من ولدي.. ولكن محافظة عليه منه ومن غيره؛ لئلا يصنعوا به ما فعل بيوسف أخوته).. الإمام الباقر -عليه السلام- لهُ ولد كالإمام الصادق -عليهِ السلام- ولكن عندهُ أولاد غيره، هو قلبه مع الإمام الصادق -عليه السلام- فهو وارثه، ولكن أيضاً يداري أولاده الآخرين؛ حتى لا يثير فيهم جو الحسد.. وهذا أيضا ما يحدث مع الذي عندهُ أكثر من زوجة، حيث أنه يأتي إلى إحداهما ويأخذ بمدح الثانية، فهذهِ تحترق.. بل حتى من عندهُ زوجة واحدة، قد يذهب إلى بيت صديقه، وعندما يرجع يأخذ بمدح تلك الزوجة، وطعامها وتربية أولادها، وما إلى ذلك.. نعم ، هو رأى أولادا مؤدبين، ولكن لعلهم كانوا متكلفين أو خائفين من أبيهم، فلماذا تثير الزوجة بهذهِ الكلمات؟.. قل لها: أنتِ جيدة، ولكن إن شاء الله أتوقع منكِ المزيد.. هذهِ الحركة أيضاً مع الأسف نراها في حياتنا اليومية، فنحن من يجعل أرضية للحسد وللبغضاء وللمشاكل في حياتنا.. بينما المؤمن لا يتكلم كلاما مثيرا للمشاكل، إنما يتكلم بمنطق سليم؛ لئلا يؤلب الجو على نفسه.
ماذا نعمل لصلاح أنفسنا، وإذهاب هذهِ الحالات والملكات؟.. إن الدعاء جيد بلا شك، عليكم بدعاء مكارم الأخلاق.. ماذا نقول في دعاء مكارم الأخلاق؟.. (واجعل أوسع أرزاقنا عند كبر سننا)؛ لأن البعض عند الكبر يضطر أن يأخذ من أولاده، والإنفاق على الأب واجب إذا كانَ فقيراً!.. (وأفضل أعمالنا عند اقتراب آجالنا)؛ لأن كل المد مد ظاهري مد تثاقلي مد تصاعدي.. بعض الناس يقول: يا رب أمتني!.. وهذا سوء أدب، فهو يعلم أنه لا يجيبه.. لا تقترح على الله، ولكن قل: (إلهي!.. عمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان؛ فاقبضني إليك).. أنا لا أحب الحياة للحياة، أنا أريد أن أعيش حتى أضمن مستقبلا أخرويا، خذني في أفضل الحالات.. ادع أن تقبض الروح وأنت في قمة الهرم، لا في أسفل الوادي.. والدعاء يكون بتوجه: (فاقبضني إليك)؛ هذا ليس دعاء بالموت، هذا دعاء بالحياة الطيبة.. أي يا رب، خذني إليك حتى أعيش أفضل حياة برزخية، مساوية لأفضل مستوى وأنا في الحياة الدنيا.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.