إن الشياطين تجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، لذلك يجب أن نستعيذ بالله من الشيطان عند تلاوة القرآن الكريم: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.. لأن الشياطين عينها على الإنسان الذي يتلو القرآن، وتخشى من انتقال المعاني البليغة التي في القرآن إلى قارئه.
إن مواعظ القرآن مواعظ سلسة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}، فالذي يفتح مسامع قلبه للقرآن الكريم؛ فإنه سيكون له تأثير تكويني على النفوس.. ولعل البعض لم يلتفت أن رب العالمين جعل في القرآن خاصية الشفاء، كما جعل خاصية الشفاء في العقاقير الطبية.. هذه الأدوية والإبر المسكنة من بركات رب العالمين، ولكن بني آدم كفر بهذه النعمة، وحول هذه المواد المعينة على الشفاء إلى مواد تجلب له الشقاء.
ما المانع أن يجعل رب العالمين في بعض الآيات خاصية الشفاء، وهو الذي جعل الشفاء في العسل، والعسل كما نعرف هو عبارة عن فضلات نحلة؟!.. القرآن الكريم أيضا ينزل ما فيه شفاء، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}؛ ولكن انتبهوا إلى تتمة الآية: {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا}.. فالآية التي هي آية شفاء، بمثابة العقاقير التي هي للبعض شفاء ومسكن، وللبعض شقاء وإدمان.. كذلك الآيات القرآنية، نحن نقول: إن الإنسان عندما يقرأ القرآن بنية الاستشفاء، -لا بالطريقة التجارية التي هي رائجة هذه الأيام، وكأن القرآن أنزل لكي نقرأه على الصداع والمغص، فحولنا كتاب الله -عز وجل- من كتاب هداية إلى محل عقاقير كالصيدليات-.. عندما نقول: {مَا هُوَ شِفَاء}؛ أي شفاء كل شيء بحسبه.. الشفاء الأول الأساسي للقرآن، شفاء الصدور، وشفاء ما في القلوب من أمراض.. نعم بعض الآيات رب العالمين جعل فيها خاصية الشفاء لبعض الأمراض هذا الأمر جانبي، الأنبياء ما جاءوا لعلاج الناس من الأمراض البدنية، بعض النصوص تقول: عن أبي عبد الله (ع) قال: (إن نبيا من الأنبياء مرض فقال: لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني.. فأوحى الله عز وجل: لا أشفيك حتى تتداوى، فإن الشفاء مني والدواء مني.. فجعل يتداوى فأتى الشفاء).. هذا هو الطريق الطبيعي، إبراهيم الخليل (ع) عندما يمرض، كان يراجع الطبيب، ولكن شعاره: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} هو الشافي وهو العالم بالأسباب، ولكن هذا لا يعني أن لا يراجع من هو وسيلة للشفاء.
إن من يقرأ القرآن الكريم بنية شفاء الباطن، نعم يكون شفاء للباطن؛ ولهذا الشيطان يدخل على الخط؛ لئلا يكون شفاء.. ذلك الذي كان مدمنا على الحرام، سمع آية من القرآن الكريم، فقلبت كيانه {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}.. كان الفضيل يقطع الطريق وحده، فخرج ذات ليلة ليقطع الطريق، فإذا هو بقافلة قد انتهت إليه ليلا، فقال بعضهم لبعض: اعدلوا بنا إلى هذه القرية، فإن أمامنا رجلا يقطع الطريق يقال له الفضيل.. قال: فسمع الفضيل، فأرعد، فقال: يا قوم، أنا الفضيل جوزوا.. والله لأجتهدن أن لا أعصي الله أبدا، فرجع عما كان عليه.. وروي من طريق أخرى: أنه أضافهم تلك الليلة، وقال: أنتم آمنون من الفضيل، وخرج يرتاد لهم علفا، ثم رجع فسمع قارئا يقرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}/ الحديد.. قال: بلى والله قد آن؛ فكان هذا مبتدأ توبته.. قد تكون هذه الآية هزته هزا تكوينيا، هو تفاعل مع الآية تشريعيا، ولكن عندما صار صادقا، رب العالمين قلب كيانه.. كثير من الآيات لو تدبرنا فيها، لوجدنا فيها هذه الخاصية.
إن القرآن الكريم في آيات كثيرة، يدعو للتأمل في مظاهر الطبيعة، رغم أن هذه الحركة هي كما يقول الإمام الحسين -عليه السلام- في دعاء عرفة يخاطب ربه: (ألغيرك من الظهور ما ليس لك، حتّى يكون هو المظهِر لك؟!.. متى غبت حتّى تحتاج إلى دليلٍ يدلُّ عليك)؟.. وكما يقول أمير المؤمنين في دعاء الصباح: (يا من دل على ذاته بذاته، وتنزه عن مجانسة مخلوقاته)!.. هذا هو طريق الخواص.. وسيد الشهداء يريدنا أن نصل إلى هذه المرحلة من الخصوصية، ولكن الطريق المعروف هو طريق البرهان والعلية.. كـــان الرسول (ص) سائراً في الصحراء مـع أصحابه، إذ لاحت لهـــم خيمــة في صدر البريـة، وعجوز جالسـة إلى جانبها وفي يديها (مغزل).. فسلم عليها رسول الله، فردت عليــه الســلام، ثم قال: يا أمة الله!.. بماذا عرفت ربـك؟.. فأوقفت يدها عن المغزل وقالـت على البديهيـة: بهذا المغزل.. فعرف قصدهـا، ولكـن أراد الإيضاح لمن كـان معــه من الأصحاب، بقولـه: أبيني لنــا ذلك!.. فقالت: يــا رسول الله، ألست القائــل: (تفكيـر ساعــة؛ خيـر مـن عبادة سنــة)؟.. أي لو أني لم أدر هذا المغزل بيدي، لما التف هذا المغزل الحقير حول المحور؛ فكيف هذا الوجود برمته؟!..
هذا هو البرهان الطبيعي، ولكن المشكلة أن العلماء الذين ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، والى المجرات كيف تحركت، والى الذرة… الخ؛ هؤلاء عيونهم كالمجهر، والتلسكوب، كالأدوات الجامدة: تنظر، وتحلل، وتشرح؛ ولكن ليس فيها أي تفاعل بعد ذلك، ولا تساؤل أنه: هذا الوجود برمته إلى أين؟.. لم خلق الله هذا الوجود؟.. أوَ لا نتعرف عليه، وهذا مسلم ومفروض؟.. فالذين ينكرون الخالق؛ تصنف أسماؤهم في ديوان المجانين، وإن كان لهم ألقاب علمية ومناصب راقية.. أي عقل في رأس هذا الإنسان، الذي يرى أن الصدفة والحركة العشوائية؛ هي التي أوجدت هذا الكون!..
إن رب العالمين سخر لنا ما في السموات وما في الأرض، سخر لنا الذرة والمجرة، وجعل هذه الحيوانات تحت أيدينا نأكلها ونركبها {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}.. ولكن ما الهدف من هذا الكون المسخر؟.. حتى تتبين لنا هذه الحقيقة {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً}، هذه الحركة من مصلي صلاة الليل، حركة جميلة: يقوم من فراشه مترنحا من ثقل النوم، وبعض الناس حالتهم بعد النوم كحالة السكارى {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} البعض فسرها بسكر النوم أيضا.. الإنسان في جوف الليل، وهو بهذه الحالة غرضه أن يصلي لله -عز وجل- ولكن القرآن والروايات ومدرسة أهل البيت تقول له: قبل أن تضع جبهتك على الأرض، ارفع رأسك إلى السماء، واقرأ قوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، ينقل الإنسان من عالم الخلق إلى عالم فلسفة الوجود، ومن عالم فلسفة الوجود إلى نهاية الوجود؛ إلى المعاد، إلى عذاب النار؛ هذا الذي أمرنا به.. عندما نصل إلى الآيات التكوينية في القرآن الكريم، لابد أن ننتقل لهذه المعاني: أن هذا التسخير لأمر أعلى وأجل وأتم!..
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا}.. البعض يسأل: لماذا خلق الله -عز وجل- هذه السموات في سبعة أيام؟.. هو أمره بين الكاف والنون؟.. فلمَ التدرج؟.. الأفضل أن يرينا قدرته، ويقول: خلق السموات والأرض في طرفة عين؛ فهذا أبلغ!.. لعل الله -عز وجل- أراد أن يفهنا من خلال الخلق في ستة أيام، أن بناءنا على التدرج والتدريج.. أي يا عباد الله، لا تستعجلوا، نحن خلقنا السموات والأرض في ستة أيام، وإذا أردت أن نبني بناءك الباطني أمهلنا!.. فموسى (ع) من أقرب الأنبياء إلى الله عز وجل، ومع ذلك عندما دعاه موسى (ع) {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا}، ولكن بين {قَدْ أُجِيبَت} إلى أن قضيت أربعين سنة.. وعد الله حق، ولكن المؤمن عليه أن يصبر.. فالمؤمن لا ييأس أبدا من دعائه.
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا}.. ما نراه من هذا الوضع المذهل، كله تحت السماء {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ} كل ما نراه بأعيننا من خلال أدوات الإرصاد هو في السموات الدنيا، ولكن هنالك سموات أخرى وأخرى.. لماذا خلق هذه السموات التي لا ترى؟.. ما فائدة هذا الخلق؟.. طبعا رب العالمين ليس خلقه منحصرا بنا، فهنالك الملائكة التي تطوف حول العرش، وهنالك المخلوقات العالية، والروح والملائكة، وهنالك عوالم من الجن الخ.. نحن نريد أن نقدم شكرا بليغا مشفوعا بتحية بليغة لملائكة العرش، لأن لهم حقا علينا جميعا.. فالملائكة: لا شهوة لهم، ولا غضب لهم، ولا طعام لهم.. وقوتهم التسبيح والتهليل، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وليس لهم أي ارتباط بالأرض، ويرون ما لا نراه نحن.. والكعبة المشرفة موازية لتلك الكعبة العرشية التي يطوف حولها الملائكة.. ومن أعمال الملائكة حول العرش الاستغفار، يستغفرون لمن في الأرض، الملائكة المسبحة حول العرش من ضمن أدعيتهم: أن يا رب اغفر لفلان، واغفر لفلان.. ونحن طوال حياتنا ربما لم نستغفر لآبائنا وأمهاتنا، وعلى الخصوص وهم أموات.
فإذن، هنالك موجودات مقدسة مباركة، والنصوص تدل على أن السموات بمثابة محطات الجمارك، ما نعمله يصعد إلى السموات، والملائكة تغربل وتنقح وتنتقد بعض الأمور فلا تصعد إلى أعلى، ولهذا نقرأ في دعاء كميل: (اللهم!.. اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء).. فالدعاء الذي لم يصعد للعرش كأنه لم يصدر، ولهذا الإنسان قد يدعو دعوات بليغة لا تجاب؛ لأن الدعاء لا يبلغ وإن كان رب العالمين سمع الدعاء، ولكن رسميا الملف لم يقدم إلى أعلى عليين.
{وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا}.. لولا الشمس لما بقينا على هذه الأرض، فالنور الذي نمشي من خلاله، والسحب التي لولاها لما كان المطر؛ هي من بركات الشمس.. ما الدرس العملي من هذا الوجود المعلق بين السماء والأرض “السراج الوهاج”؟.. في عالم الوجود هنالك أمور مستنيرة، هذه الأرض أغلى نقطة في هذا الوجود.. وفي مملكة الله -عز وجل- أغلى بقعة هذه البقعة التي ضمت بيته وضمت أنبياءه ومسرح أوليائه.. هذه الكرة الأرضية صغيرة جدا؛ قياسا ببعض الكواكب في المجموعة الشمسية؛ ولكنها عاصمة الوجود.. وهذه الأرض بعظمتها لا نور لها، وهذا القمر المنير هو مستنير بالغير.. فالقيمة كلها في السراج الوهاج، لماذا لا نحاول أن نكون كالشمس لا كالقمر؟.. فالقمر ينتابه الخسوف ويحجب، والأرض على عظمتها شق مظلم وشق منير.
هنيئا لمن صار كالشمس وجودا مضيئا للغير، عندما ينزل عليه ذلك النور الذي يعبر عنه القرآن الكريم {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} هذا النور يأتي من خلال تفاعل عنصرين: العلم، والعمل.. فالعامل من دون علم؛ يصبح إنسانا مصمما على إنقاذ نفسه.. والعلم بدون عمل؛ يكون حجة على صاحبه، والقرآن الكريم يعبر عنهم {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}.. إذا اقترن العمل بالعلم، الإنسان عندئذ يصبح كالشمس الوهاجة.. مشكلتنا أننا لسنا سراجا وهاجا؛ لأن أحدنا لا يضيء من حوله.. ننتظر عالما أو موعظة من مكان ما، لماذا لا يتحول أحدنا إلى وجود يربي الآخرين بنظراته؟.. الوجود سراج وهاج، ولهذا النبي الأكرم -صلوات الله عليه- لم نقرأ عنه في التاريخ، أنه كان يغضب كغضبنا، كان إذا لم يعجبه شيء يعرض بوجهه؛ فيذوب الطرف الآخر خجلا وندامة؛ لأن رسول الله أعرض بوجهه.. هذا سراج وهاج!.. الإنسان إذا كان في حياته كذلك، بنظراته يقلب الأمور؛ فإنه سوف يصل إلى مرحلة يكون كعيسى -عليه السلام- الذي قال عن نفسه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} ومن بركات عيسى أنه أتى للدنيا بحمل إعجازي من غير أب، والأمر الأعجب أن الله -عز وجل- رفعه إليه ما أماته، عيسى حي يرزق ليس كالشهداء، بل حي ادخره الله -عز وجل- إلى ذلك اليوم الذي يأتي ليصلي خلف إمامنا المهدي (عج).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.