إن من أكبر آيات الكون (النطق)!.. ورب العالمين عندما يمن على بني آدم، يمن عليه بأنه يتعلم وينطق ويبدي ما في فؤاده، {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.. أول نعمة بعد الخلقة هي البيان، فالكلام من أدق مظاهر الوجود: جهاز النطق يشتغل، يؤلف الجمل بعد التفكير، هذه الشحنة الذهنية تنتقل إلى شحنة عصبية، المخ فيه أعصاب كثيرة جدا تنقل الأوامر إلى جهاز النطق، ويا له من جهاز!.. هنالك الحنجرة، والأوتار الصوتية، وهنالك فضاء الفم: السقف، والأسنان، واللسان، والشفتان.. إنه عالم عجيب غريب، يستطيع الإنسان من خلاله أن يظهر الصوت، ويمكنه أن يرققه، وأن يصدر أصواتا موسيقية.. شيء مذهل وعالم عجيب وغريب!.. ولكن الصوت الجميل وراءه روح، فالذي يتكلم هو الروح، والأداة هي الحنجرة والأوتار الصوتية.
إن الإنسان بعملية باطنية، بإمكانه أن يصل إلى حالة داوودية: فداوود (ع) عندما كان يتلو الآيات الإلهية، يقول القرآن الكريم: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ}.. هل من انعكاس الصدى، أو من جمال التلاوة؟.. نحن لا ندري، ولكنه (ع) كان متميزا في قراءته، وكان يؤثر على من حوله.. وكذلك زكريا (ع) كان عندما يريد أن يعظ قومه، يتأكد أولا من خلو المجلس من يحيى (ع)؛ لأنه كان يخشى عليه!.. وهذه ليست خاصية زكريا فحسب!.. فأمير المؤمنين -عليه السلام- أيضا كان مؤثرا بصوته، حيث أنه كان يذكر وصف المتقين، وإذا بأحد الجالسين صعق صعقة شديدة، ومات من ساعته.. فحنجرة علي -عليه السلام- كسيفه الحيدري، وهنالك الروح الحيدرية وراء هذا الصوت.. أن يصل الإنسان إلى درجة من التأثير؛ فهذه نفحة إلهية.
إن بعض المؤمنين يكون لهم ختمتان: ختمة تلاوتية، وختمة تدبرية.. وأضعف الإيمان هي القراءة، فالذي يقرأ ولا يعرف أين وصل، وماذا كان يقول؛ هذه القراءة بعيدة جدا عن القراءة الجدية.. لو دار الأمر بين قراءة صامتة متأملة؛ أي يمرر عينيه على الآيات، ويتأمل، ولعله قد تجري دمعته.. وبين إنسان يقرأ ويرفع صوته ولا يتفاعل؛ أيهما أفضل؟.. الأول: لا يعد تاليا، وإن تفاعل.. والثاني: تلا، ولم يتفاعل؛ فهما في القضية متساويان.. ولكن الأفضل هي التلاوة الواعية {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.. التدبر قد يكون بدون تلاوة، ولكن أن يتلو ويتدبر؛ فهذا أفضل.. لهذا احتياطا الإنسان يختم ختمتين: ختمة للتلاوة بالحد الأدنى للإلتفات، وتلاوة متأنية متعمقة.. وعليه، فليلتزم الإنسان بدعاء افتتاح القرآن، حيث أن بعض المصاحف مطبوع عليها دعاء الإمام -عليه السلام-، فقبل أن يقرأ القرآن يقرأ الدعاء المختصر.
هل إهداء الختمات للآخرين فضيلة؟..
إن أي أسلوب مؤثر وبليغ، ولا ينافي العمومات الشرعية؛ يدخل في دائرة الإباحة والسنة أيضا.. فالإهداء شيء جميل، والإنسان عندما يقرأ القرآن؛ يكون قد كسب عند الله درجة، وعمل بقوله تعالى {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}.. وعندما يقول: يا ربي، هذا الخير أعطيه لرسول الله، أو أعطيه لفلان؛ فلا مشكلة في البين.. وبالنسبة للصلاة، هل تكون إهداء أم نيابة عن الغير؟.. يقول البعض: أنو النيابة!.. في موسم الحج الذين لهم بعد أخلاقي، وحالة من حالات الشفافية الروحية؛ عندما يحرم في الميقات نيابة؛ ينتابه البكاء، فالموقف رهيب!.. والبعض يقول: أنا أحرم حجتي أو عمرتي، ثم أقول: يا رسول الله، هذه هدية أقدمها لك، لعل هذا أقرب للتوقير!..
وعن علي بن المغيرة، عن أبي الحسن قال: قلت له: (إن أبي سأل جدك عن ختم القرآن في كل ليلة، فقال له جدك: في كل ليلة؟.. فقال له: في شهر رمضان، فقال له جدك: في شهر رمضان؟.. فقال له أبي: نعم، ما استطعت.. فكان أبي يختمه أربعين ختمة في شهر رمضان، ثم ختمته بعد أبي، فربما زدت وربما نقصت على قدر فراغي وشغلي ونشاطي وكسلي.. فإذا كان في يوم الفطر جعلت لرسول الله ختمة، ولعلي أخرى، ولفاطمة أخرى، ثم للأئمة؛ حتى انتهيت إليك فصيرت لك واحدة منذ صرت في هذه الحال.. فأي شيء لي بذلك؟.. قال: لك بذلك أن تكون معهم يوم القيمة!.. قلت: الله أكبر فلي بذلك؟.. قال: نعم ثلاث مرات).
إن أفضل جائزة تقدم للمؤمن في هذه الدنيا وفي الآخرة، ما ذكره الإمام في الرواية.. فكلنا عشاق الحور والقصور، والبعض عشاق الرضوان.. وعلى كل الحور والرضوان محلهما الجنة، ودخول الجنة يضمن لنا المسألتين.. ولكن الجنة درجات، وأفضل درجات الجنة عندما يكون الإنسان برتبة النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه.. فمن كان في رتبة النبي، يضمن العطايا الخاصة الإلهية للنبي وآله، مما لا يخطر ببال أحد.. فهنيئا لمن كان في هذه الرتبة؛ رتبة الأنبياء والمعصومين يوم القيامة!.. أي هنالك حالة من القرب اللصيق في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وفي رواية الرضا -عليه السلام- تقول: (ألا فمن زارني في غربتي بطوس، كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له).. وهذا التعبير أوضح من سابقه، ولكن من موانع ذلك المعاصي.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.