إن القرآن الكريم، هو نعم المائدة التي يجلس عليها الإنسان المؤمن.. هناك نوعان من الآيات في كتاب الله عز وجل: آيات تحمل زخما عاطفيا، فيها إثارات وجدانية: كالآيات المتعلقة بالجنة والنار، وعذاب أهل النار.. والآيات المتعلقة بالربوبية، وعلاقة رب العالمين بعباده المؤمنين، من أكثر الآيات حملا لهذا الزخم العاطفي، مثلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}.. هذه الآية من ألطف أنواع العتاب، فالإنسان عادة عندما يعتب على الطرف المقابل، يريد أن يثير فيه شيئا من الخجل أو ما شابه.. ولكن العتاب الجميل هو العتاب الذي لا يوجب كسر الطرف الآخر، حيث يلقن الجواب من خلال العتاب.. فرب العالمين يقول: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}.. الجواب هو: غرني كرمك!.. كما أننا نقرأ في المناجاة (وعزّتك وجلالك!.. ما أردت بمعصيتك مخالفتك، وما عصيت إذ عصيتك: وأنا بك شاكّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض.. ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ).. إن هذه الآية فيها زخم عاطفي كثير، {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}.. وأيضا هناك خطاب للذين أسرفوا على أنفسهم {لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}.
وهناك قسم من الآيات ليس فيها ذلك الزخم العاطفي، وإن كان مبطنا لأهله.. ولكن فيها إثارات فكرية عقلية ووجدانية.. في سورة النبأ الآيات الأولى فيها جانب الإثارة الوجدانية الفكرية، رغم أن هذه السورة من السور التي شيبت رسول الله صلوات الله عليه.. قال (ص): (شيبتـني “هود” و”الواقعة” و”المرسلات” و”عم يتساءلون”، و”إذا الشمس كورت).. فهنالك ما يوجب الخوف والقلق، فالأمر قد لا يكون فيه جانب فكري، ولكن المؤمن يتفاعل.. ومن ألطف ما نقل في هذا المجال، ذلك الذي سمع القسم القرآني، ولعله كان إعرابيا من البادية، عندما سمع بالأقسام القرآنية، غضب وتألم وقال: من الذي جعل ربي يقسم هذا القسم؟.. هو قسم قرآني، ولكن الطرف الآخر تفاعل مع هذا القسم وتأذى.
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا}.. اللباس ستر للعورات، وستر لما ينبغي ستره، لماذا جعل الليل لباسا؟.. الليل بطبيعته ساتر بما فيه، وهذا الستر استعمله الإنسان إيجابا تارة وسلبا تارة.. هذه الأيام التكنولوجيا قلبت الليل نهارا، ولكن الإضاءة المظلمة والخافتة في الليل، أقرب إلى التفاعل، فظلمة الليل وهدوء الليل يجعل الإنسان يعيش مع نفسه.. هذه الوحدة إما أن يستغلها الشيطان، أو أن يمن بها الرحمن.. أي أن الإنسان بين تجاذبين: النفس الأمارة بالسوء، والشيطان الموسوس.. فخلوة الليل هي للبعض مدعاة للحرام، ويمكن القول أن التقنية الحديثة سهلت المعاصي: في الأزمنة القديمة كانت المعصية مكلفة وغير متيسرة، بينما هذه الأيام وسائل الإعلام، جعلت الإنسان يستسهل الحرام في جوف الليل، فهي تنمي في الإنسان النصف البهيمي.. أحد العلماء يقول: البعض يشتكي من زحمة الحياة، ومن عدم وجود الوقت الكافي للتفرغ للعبادة.. وكأننا قلنا له: اترك عملك، ومنزلك، واذهب إلى صومعة، واقرأ دعاء أبي حمزة.. بينما المطلوب هو الذكر الخفيف في زحمة الحياة، ليكون على اتصال لا ينقطع.. الشيطان في قلوبنا كالماء النجس، إذا كان متصلا بماء طهور كان طاهرا، وإذا انقطع عنه أصبح نجسا.. إذا كان القرآن متصلا بالرب، هذا الشيطان النجس يزال.. فالذي ينقطع عن ذكر الله -عز وجل- يصاب بهذه البلية.
إن الإنسان في الليل بإمكانه أن يذهب إلى العرش، ودعاء الجوشن من أفضل صور المناجاة.. فيا حبذا لو يلتزم الإنسان بهذا الدعاء، ولو بفقرات منه: (يا من لا يضيع أجر المحسنين!.. يا من لا يبعد عن قلوب العارفين!.. يا أجود الأجودين)!.. رب العالمين له صوت يسمعه قلب المؤمن.
إن الليل النموذجي، هو ذلك الليل الذي لم ينقطع فيه المؤمن عن ذكر الله.. أحد العباد الصالحين يقول: أنا في النهار أنتظر الليل؛ لأهيم فيه بالذكر الإلهي.. ومن أفضل ما قيل عن الليل، كلام الإمام العسكري (عليه السلام): (إن الوصول إلى الله؛ سفر لا يدرك إلا بامتطاء الليل.. من لم يحسن أن يمنع، لم يحسن أن يعطي).. والعلماء السلف يقولون: ما وجدنا وليا من أولياء الله، لم تكن له وقفة ليلية.. ونحن عندما نقول: وقفة ليلية؛ أي تبدأ من ثلاث ركعات: الشفع والوتر قبل أذان الفجر بخمس دقائق؛ دقيقتان للوضوء، وثلاث دقائق للشفع والوتر.. وهذا أضعف الإيمان، فبعض الناس لا تقل صلاتهم عن ساعة، ولو سمح لهم الجو لجعلوا الليل كله عبادة.
فإذن، إن الليل فرصة جيدة للعمل.. البعض -مع الأسف- يتخذ جوف الليل محطة بلون واحد، بينما الليل هو عبارة عن مائدة إلهية متنوعة، يأخذ منها الإنسان ما يشاء على مزاجه، لا يجبر نفسه على شيء معين.. فبضاعة رب العالمين ثمينة، والذي يريد أن يرى هذه الجواهر، لابد أن يدفع في المقابل.. ورب العالمين جواهره مخفية، تحتاج إلى إصرار، ومتابعة لسنوات حتى تتفتح الأبواب.. ولا تيأسوا من وعورة الطريق، فهنالك جوائز مؤجلة!.. النبي الخاتم (ص) بقي أربعين سنة يعبد الله عز وجل، وفي ليلة من الليالي بعث للنبوة.. والإنسان أيضا قد تفتح له الآفاق في ليلة من الليالي، ولهذا يحتاج إلى بال طويل وإلى كدح {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}.. الأئمة (ع) حياتهم كلها جهاد، فليكن أنسنا مع الليل حتى يوم لقائه.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.