• ThePlus Audio
Layer-5-1.png

دور الخطيب الناجح في إثارة العواطف وإبكاء الجمهور

بسم الله الرحمن الرحيم

أهم مسألة في الخطابة

من النقاط التي يجدر بنا الإشارة إليها في مسألة الخطابة والبيان والتي تتطلب منا الوقوف عندا كثيرا؛ النعي وإبكاء الجمهور. إن الأساس في المنبر الناجح، أن يختم الخطيب حديثه بما يثير عواطف الجمهور ويجلب لهم الدمعة. فمن المسائل الفسيولوجية المسلم بها؛ أن الإنسان له حركات إرادية وأخرى غير إرادية. فهو يستطيع تحريك أعضائه كالأيدي والأرجل ولكنه لا يستطيع أن يُجبر العين على البكاء. نعم، قد ترفع من صوتك وتتباكى كالنائحة التي تُستأجر في المآتم لإضفاء طابع من الحزن على الجنازة، ولكن لا تستطيع أن تبكي في الحقيقة. ولذا قيل: ليست النّائحة الثّكلى مثلَ النّائحة المستأجرة. وينبغي الحذر أشد الحذر من الرياء في هذا البكاء والصراخ، فلا يبكي الإنسان رياء واسترضاء لأحد إلا الله عز وجل.

وقد ورد التأكيد على هذه الدمعة ولو مقدار جناح بعوضة، إذ تدل الدمعة على انكسار القلب. فقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (مَا جَفَّتِ اَلدُّمُوعُ إِلاَّ لِقَسْوَةِ اَلْقُلُوبِ وَ مَا قَسَتِ اَلْقُلُوبُ إِلاَّ لِكَثْرَةِ اَلذُّنُوبِ.)[١]. وكل ذنب نكتة سوداء في القلب تتسع رقعتها إلى أن يُختم.

ولذا من أفضل الهبات، أن يكون المؤمن موفقا للبكاء. وقد رأينا الرجل يبكي لمجرد استماعه كلمة يا حسين (ع) أو استماعه مصيبة الحسين (ع) لدقيقة واحدة. لقد قيل لي: أن أحد المؤمنين في دولة من الدول يبكي لمجرد استماع كلمة الحسين ولو كان اسم أحد غير الإمام الحسين (ع).

أعظم من البكاء، الإبكاء…!

وأعظم من البكاء، الإبكاء. لو طرق كلامك طبلة الأذن فتحركت العظيمات الثلاث في الأذن الوسطى، فبعثت بذبذبات إلى المخ، وحللها المخ أنها نعي حسيني وأرسل ذبذبات إلى القلب، وتفاعل القلب، ثم بعث القلب ذبذبات إلى المخ ثانية بأن هذا موقف مبك؛ فأرسل المخ ذبذبات عصبية إلى الغدة الدمعية في زاوية العين لتجري الدمعة، وجرت كل هذه التفاعلات الرهيبة في لحظات ببركة كلامك، فأنت ناجح بالتأكيد.

إن البعض من الخطباء له قدرة كبيرة على إبكاء الجمهور في دقائق معدودة. وهذه القدرة بحاجة الى أمور ثلاثة: أولا: أن يكون للخطيب من البكائين. لقد زرت أحد الخطباء ذات يوم وكان قد دعانا إلى مأدبة، فدققنا الباب عليه فتأخر عند فتحه، فسمعت صوت نعي من داخل المنزل. دخلنا إلى المنزل وتبين لنا أنه كان ينعى لنفسه وكان له مجلس لوحده يقرأ ويتفاعل وقد رأيناه متأثرا. وما أجمل أن ينعى الإنسان لنفسه أو لأسرته وأن ينعاه في جوف الليل ويبكي عليه خاليا. وقد يصل الأمر بالبعض أن يجري النعي في دمه، إلى درجة ينعى وهو نائم. فيُمكن القول بعبارة مختصرة: إن الناعي المؤثر، من كان له نعي مع نفسه. فهو لا ينتظر عشرة محرم وإنما له مجلسه الخاص به.

التصوير المناسب والمؤثر للواقعة

ثانيا: التصوير المناسب والمؤثر للواقعة. إنني أدعو الله عز وجل في مواطن الإجابة؛ أن يزقني توفيق البكاء والإبكاء على الحسين (ع). إن الإبكاء منحة إلهية ولا ترتبط كثيرا بالألفاظ البليغة والأشعار المؤثرة وما شابه ذلك. إنني من كبار الخطباء من لا يختلف نعيه عن موعظته؛ فالنبرة هي ذاتها وليس ثمة لحن ولا أطوار ولا قصائد كذائية، وما يقوله نثرا، يقوله نعيا؛ ولكن ما إن تحدث عن المصيبة، انفجر الجمهور بالبكاء وبكوا بكاء الثكلى. لماذا يبكي الناس من دون شعر ولحن؟ لأنه يصور الواقعة تصويرا مؤثرا. فقد تصور الواقع من خلال أبوذية او قصيدة شعبية أو بإنشاء الكلام أو بفيلم سينمائي. فالمهم القدرة على أن تجسد الواقعة تجسيدا دقيقا ومؤثرا. فالأمر يرجع إليك في رسم الصورة المناسبة للرضيع أو العباس أو علي الأكبر (ع) في ذهن الجمهور من خلال النثر أو الشعر أو ما شابه ذلك. وهنا لابد أن يلجأ الخطيب إلى صاحب المصيبة؛ أي الحسين (ع)، ويطلب منه القدرة على تجسيد الواقعة تجسيدا مؤثرا.

رادود حسيني لم أر قبله ولا بعده مثله…!

ثالثاً: طلب المدد من الله عز وجل. لقد تعرفت على رادود لم أر قبله ولا بعده مثله؛ فقد كان يُغمى على البعض في مجلسه من شدة البكاء. وكان في المجلس جماعة متخصصة في إنعاش هؤلاء؛ فهم كانوا يعرفون كيف ينعشون المغمى عليه، فيخرجونه من المجلس بلا نقالة على الأيدي ويرشون عليه الماء ويعالجونه حتى يستفيق. وقد نقل لي هذا الناعي سر هذا التأثير فقال: لقد كنت ناعيا كعامة النعاة، فأتيت قبر الحسين (ع) – وهنا بيت القصيد – وقلت له: يا أبا عبدالله، أعطني لحناً حسناً وصوتاً مؤثرا أبكي جميع الحاضرين في المجلس من دون استثناء، حتى لو كان الشمر في الحاضرين. لقد كنت في البقيع مع هذا السيد الناعي في البقيع الغرقد فأبكى الناس، ولم تتدخل الشرطة في الأمر حتى. فقد انقلب الجو هناك وجاء من يصور والصورة موجودة تُظهر الجماعة التي كانت تقف بطمأنينة هناك، وكنت أحدهم.

إن التوفيق أن تكون لك القدرة على الإبكاء في كل الظروف والأحوال؛ لا في ليلة العاشر فحسب. لقد زارني احد المؤمنين في ليلة زفافه وطلب مني مجلسا على الحسين (ع) وقد تحول عرسه إلى مجلس حسيني. ومن التوفيق؛ أن تبكي ليلة الزفاف على الحسين (ع). ولن توفق إلا بإمضاء خاص من الحسين وجد الحسين وأم الحسين (ص).

بإمكانك أن تكون خطيبا ولكن أن تكون بكاءاً فعلاً وانفعالاً وتأثيراً، فهذا يحتاج إلى إذن كالإذن الذي ناله صاحبنا الذي جاء إلى كربلاء وأخذ هذه المزية من صاحب القبر الشريف.

كيف نتعامل مع الروايات في المقاتل؟

ويبغي أن يهتم الخطباء عند ذكر المصيبة، بنقل المرويات المسندة. فلم يقصر علمائنا في المقاتل حتى نحتاج إلى غيرها. وقد طُبع في الآونة الأخيرة مقتل منقح في مجلد واحد جميعه مستند إلى الروايات. هذا ونحن في المقاتل لسنا في مقام البحث عن رواية صحيحة السند، ويكفي أن تكون الرواية قد نُقلت في كتاب من الكتب المعتبرة. فإذا قرأت أن أمير المؤمنين قال: جفت دمعتي في مصيبة الحسين (ع)، فلا داعي لكي تبحث في المقاتل كثيرا وتحلل الأمر تاريخيا، وهل وقع هذا ومتى وقع؟ لأنك إن نظرت إلى المقاتل بهذه النظرة التشكيكية، نشفت دمعتك.

عندما ينشد الشاعر ويقول:

أَفاطِمُ لَوْ خِلْتِ الْحُسَیْنَ مُجَدَّلا
وَ قَدْ ماتَ عَطْشاناً بِشَطِّ فُراتِ

إِذاً لَلَطَمْتِ الْخَدَّ فاطِمُ عِنْدَهُ
وَ أَجْرَیْتِ دَمْعَ الْعَیْنِ فِی الْوَجَناتِ

فهل نحن بحاجة إلى أثبات وجود الزهراء (س) في يوم عاشوراء؟ وإذا كانت موجودة، فبأي كيفية وشكل وبدن كانت؟ دعك من هذه المعاني بعد أن علمت أن دعبل قد أنشد هذه الأبيات عند الرضا (ع) فلم يُنكر عليه ذلك. إن الشاعر في فسحة من بيان الصورة التخيلية، ولا مشكلة في ذلك. إن المشكلة تكمن في انتساب هذه الأعمال والأشعار إلى المعصومين (ع). إن من الكلمات المعروفة بين الناس والتي تُنسب إلى الحسين (ع): إن الحياة عقيدة وجهاد، والحال أنها بيت من قصيدة لشاعر عربي، وقد نسبوها إلى الإمام (ع) لأنها تنسجم مع مفاهيم الثورة الحسينية. وأصل هذا الشعر لأحمد شوقي:

قف دون رأيك في الحياة مجاهدا
إن الحياة عقيدة وجهاد

فإياك أن تنسب إلى المعصوم، لسان الحال المنظوم. اذكر الشاعر وانسب إليه الشعر ولا تقل: قال الإمام (ع). وإذا رأيت نقلا في مقتل أو في مخطوطة، فقل: هذا منقول واكتف بذلك.

مصائب لم ترد في المقاتل

وفي المقابل، هناك الكثير من الأحداث لم تنقلها المقاتل. لقد قال لي أحد المراجع الكبار: هناك الكثير من الأحداث لم ترد في المقاتل. فقلت له: إن المقاتل مشحونة بالأحداث ولأشعار التي وصفت تلك الأحداث، فعن أي الحوادث تتحدث؟ فقال لي: حوادث لا يُمكن بيانها…! أي أن هناك من الأحداث المفجعة ما لا يُمكن ذكرها ولا الحديث عنها، لعظمها.

إن بعض خطبائنا لا يستعمل المفجع في غير محله. إننا نرى البعض من الخطباء يرى الجمهور ساكتاً في أول شوال على سبيل المثال، فينقل مصائب ليلة العاشر. لماذا تذكر المصائب في غير وقتها؟ بإمكانك أن تجعل النعي متناسبا مع الجو ومع الزمان؛ فلا تخرج كل ما في الجعبة لأجل إرضاء الجمهور الذي لا يبكي مثلا. صنف المصائب واقرأ المصيبة الثقيلة للأيام الثقيلة والمتوسطة لأيام العزاء المتوسطة وهكذا.

من علامات قبول الخطيب

إننا نرى من الخطباء من ينعى فينفجر الجمهور بالبكاء، وانفجارهم بالبكاء يزيده حماساً وبكاء. ولذا يُصر البعض من الخطباء على الحضور في مجالس خاصة، لأنها تفتح شهية الكلام والبكاء وتثير دمعته.

والخطيب الناجح الموفق هو الذي يُبكي الآخرين ويبكي على الحسين (ع) في خلواته في ليله ونهاره. إن هذا البكاء خالص مخلص حيث لا جمهور ولا فضائيات ولا بثا مباشرا. وإن أفضل مواضع البكاء على الحسين وعلى أهل البيت (ع)؛ عند أضرحتهم الشريفة. فلماذا تنتظر الجمهور والفضائيات والبث المباشر؟ ضع فمك على الضريح وأنشد قصيدة دعبل أو زر أمير المؤمنين (ع) واذكر مصيبة الزهراء (س) وأنشد:

هي بنت من هي زوج من هي أم من
من ذا يدانــــي فـــي الفخــار أباهــــــا[٢]

[١] علل الشرایع  ج١ ص٨١.
[٢] قصيدة الفيلسوف والشاعر الباكستاني محمد إقبال اللاهوري في مدح سيدة نساء العالمين.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • إن من أهم العوامل في نجاح الخطبة الحسينية؛ النعي وذكر المصيبة وتصويرها بصورة تجسد الواقع وتؤثر تأثيرا كبيرا على الجمهور. وقد يستعين الخطيب بقصيدة أو بنثر، فلا فرق في ذلك ما دام يستطيع تحقيق الهدف المنشود؛ إبكاء الناس على الحسين (ع).
  • والخطيب الناجح الموفق هو الذي يُبكي الآخرين ويبكي على الحسين (ع) في خلواته في ليله ونهاره. إن هذا البكاء خالص مخلص حيث لا جمهور ولا فضائيات ولا بثا مباشرا. وإن أفضل مواضع البكاء على الحسين وعلى أهل البيت (ع)؛ عند أضرحتهم الشريفة. ضع فمك على الضريح وأنشد لصاحب المصيبة.
  • فهل نحن بحاجة إلى أثبات وجود الزهراء (س) في يوم عاشوراء؟ وإذا كانت موجودة، فبأي كيفية وشكل وبدن كانت؟ دعك من هذه المعاني بعد أن علمت أن دعبل قد أنشد هذه الأبيات عند الرضا (ع): أفاطم لو خلت الحسين مجدلا وقد مات عطشانا بشط فرات، فلم يُنكر عليه ذلك.
Layer-5.png