• ThePlus Audio
Layer-5-1.png

دور الخطيب الحسيني في التأثير على الجماهير

بسم الله الرحمن الرحيم

إرائة الطريق أم الإيصال إلى الغاية؟

إن الخطابة وظيفة الأنبياء وهي من العمل التبليغي والدعوي الذي كان يمارسه الأنبياء في مجتمعاتهم. إن القرآن الكريم يؤكد على صفتين من صفات كل نبي وهما؛ البشير والنذير. إن وظيفة الأنبياء (ع) البشارة والإنذار وهم لا يجبرون أحدا على اعتناق الدين والإيمان ولا يدفعونهم للهداية دفعا أو كما يصطلح على ذلك العلماء بالإيصال إلى الغاية، وقد قال سبحانه: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)[١]. إن عمل الأنبياء هو إرائة الطريق وهو غير الإيصال كما ذكرنا، ولذا قال عز من قائل: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[٢]. وتهدي هنا كما ذكر المفسرون؛ هي الهداية الفعلية والإيصال إلى المطلوب لا إرائة الطريق.

إن طريقة الأنبياء (ع) هي طريقة الكلام واللسان والإنذار وما يتعلق بذلك وهو ما يُصطلح عليه اليوم؛ بالبرمجة اللغوية العصبية. إن عمل الأنبياء قائم على الدعوة اللسانية، وكان سلاحهم البيان: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[٣]. ولكن كان هذا السلاح مدعوما بالمعجزات الباهرات كشق القمر والآيات التسع وما شابه ذلك. والمعجزات لم تكن متكررة دائما؛ بل كانت تأتي بحسب الحاجة. إن الأنبياء يثيرون دفائن العقول ويحركون القلوب ولا يعتمدون على المعجزات إلا عند الضرورات ولإتمام الحجة وكسر النفوس المعاندة. وقد قال سبحانه: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا)[٤]. والرسل تأتي بالمواعظ الشافية والكلام المتقن، وهو الأمر الذي ينبغي أن يتقنه المبلغ والداعي إلى الله عز وجل.

الكلام مصدره القلب لا اللسان

ولابد أن ينتبه المبلغ إلى نقطة حساسة وهي؛ أن كلام النبي لا يصدر عن لسانه وعن أدوات النطق في رأسه كالحنجرة واللسان والفكين فحسب؛ بل منشأه الفكر والقلب. إن الكلام يصدر عن الفكر الذي يهيئ المقدمات الصغرى والكبرى ثم يستنتج ويترب الأفكار ويدونها في ذهنه ثم في روحه وقلبه، فيصبح لهذا الكلام تأثيرا ووقعا في نفوس الآخرين. ولذا نرى من يتكلم فتأثر بكلامه ومن يتكلم فلا يُحرك فينا شيئا. والفرق بين هذين؛ أن كلام الأول غني باللمسات الروحية والثاني يفتقد هذه اللمسات.

بل كان الأنبياء (ع) يكتفون أحيانا بالإشارات والتعابير غير اللسانية. فروي على سبيل المثال: أن النبي (ص) أعرض بوجه عن منزل لأحد الصحابة لم يُعجبه لوجود شرفة فيه، فأسرع صاحبه إلى هدمه كسبا لرضا النبي (ص) من دون أن ينبس النبي (ص) ببنت شفة. قد يستغني الإنسان أحيانا بإشارة عن خطبة طويلة عريضة. لقد رأى ولي من الأولياء أعرفه في النجف الأشرف رجلا وقال له: أ لهذا خُلقنا؟ وكان يعني أننا لم نُخلق للدنيا، وأنه لابد من أن يفكر في الآخرة. وكانت هذه الكلمة كافية ليتحول ذلك الرجل ويُصبح في عداد أولياء الله عز وجل: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ)[٥]. كانت وقع هذه الكلمة على بساطتها؛ كوقع الصعقة الكهربائية التي نفذت إلى باطنه وغيرت مجرى حياته.

الخطيب المصقع صاحب القلب المظلم…!

ولذا روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (تَجِدُ اَلرَّجُلَ لاَ يُخْطِئُ بِلاَمٍ وَ لاَ وَاوٍ خَطِيباً مِصْقَعاً وَ لَقَلْبُهُ أَشَدُّ ظُلْمَةً مِنَ اَللَّيْلِ اَلْمُظْلِمِ وَ تَجِدُ اَلرَّجُلَ لاَ يَسْتَطِيعُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِهِ بِلِسَانِهِ وَ قَلْبُهُ يَزْهَرُ كَمَا يَزْهَرُ اَلْمِصْبَاحُ.)[٦] وكم رأينا خطباء كما وصفهم الإمام (ع) لا يخطئون بلام ولا ميم ولكن لا يتجاوز كلامهم الآذان فضلا عن القلوب؟ ورأينا في المقابل إنسانا بسيطا لا يمكن أن يعبر عما في قلبه ولعله مصاب بمرض في لسانه، وقلبه يزهر كالمصباح. فكيف إذا جُمع القلب الزاهر مع اللسان الفصيح؟ بالطبع سيكون هذا الخطيب من أنجح الخطباء وأكثرهم توفيقا.

إن أحسن القائلين هو من وصفه الله سبحانه فقال: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[٧]. إن القائل منا كم يتقول في حياته اليومية في الجامعة وفي العمل وفي المجتمع وهو بين حلال ومباح وحرام؛ إلا أن أحسن القول بوصف القرآن الكريم: الدعوة إلى الله.

الدعاء إلى الله أم إلى سبيله؟

لم يقل سبحانه: دعى إلى سبيل الله؛ بل دعى إلى الله عز وجل. وهو كقوله عز وجل: (وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ)[٨]. فالجهاد في الله، غير الجهاد في سبيل الله، إذ أن المجاهد في الله، عينه على الله لا على السبيل. أن يقوى الدين وينتشر العدل في الأرض، فهذا سبيل يحتاج قبل ذلك إلى جهاد في الله لكي يهدي الله المجاهد إلى هذه السبل. إنه يعلم أين السبيل، ويعلم ما هو الأفضل لخدمة دين الله عز وجل.

كيف أجد ما يناسبني كطالب دين؟

وهذه مشكلة يعاني منها الكثير من طلبة الدين؛ فهو لا يتسائل عن أفضل طريق لخدمة الدين؟ أين أذهب، وإلى أي بلد أي مدينة أتوجه؟ أي تخصص ينبغي أن أختار؟ هل أصبح مجتهداً أم واعظاً أم محققاً أم كاتباً؟ إن هذه هي السبل التي يهدي الله إليها المجاهد في الله المراقب لنفسه التارك للحرام المتقن للواجبات وعلى رأسها الصلاة.

إنه يبحث عن كل عمل يرضاه سبحانه ولا يكتفي بأن يكون العمل صالحا وهو قول الله عز وجل: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)[٩]. فليس كل عمل صالح مرضي عند الله عز وجل، وهذه آية مخيفة حقا. إنها لا تتحدث عن الذي لا يعمل صالحا، فذلك سالب بانتفاء الموضوع، وإنما تتحدث عن الموفقين. فقد يكون الرجل مؤهلا للاجتهاد،  فيذهب في واد آخر دون الاجتهاد بكثيرا. وقد يكون مؤهلا لكي يكون من الخطباء المصلحين في الأمة فينشغل بالتدريس إلى آخر عمره.

فلا يمكن الجزم بصلاح طريقا من الطرق وكلها طرق نحتمل رضا الله سبحانه فيها احتمالا. لقد كان الأمير (ع) في جوار النبي والزهراء (ص) وإذا بالنبي (ص) يبعثه إلى اليمن ويقول له: (لَئِنْ يَهْدِي اَللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ نَسَمَةً خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ اَلشَّمْسُ)[١٠]؛ أي يا علي، تكليفك الذهاب إلى اليمن لا مكوثك عندي في المدينة. وقد ترك جوار الأحبة وذهب للقيام بالوظيفة الشرعية التي أوكلت إليه. وأويس الذي ترك لقاء النبي (ص) من أجل والدته التي كانت تنتظره خير مثال على العمل الصالح الذي يرضاه سبحانه. ولذا يُعد من كبار الصحابة وإن لم يره (ص) وكان من كبار حواريي أمير المؤمنين (ع).

العمل الصالح والتبليغ

والدعوة إلى الله عز من دون عمل صالح؛ كالرمي بلا وتر. فقد ذكر سبحانه بعد الدعوة إلى الله عز وجل العمل الصالح فقال: (مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا). والنكرة تأتي للتقليل تارة وللتعظيم تارة أخرى. فعندما تقول: جائني رجل، فتعني أي رجل، وعندما يقول: صالح بدل الصالحات؛ فهو لم يعين صالحا بعينه والنكرة هنا للتعميم والتعظيم، وكذا الألف ولام الجنس.

أمنية إبراهيم (عليه السلام) في آخر عمره

ثم تقول الآية الشريفة: (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، وهذا الذي تمناه إبراهيم (ع) في آخر حياته. وليس المراد بالإسلام هنا لفظ الشهادتين التي يحقن به الدم والمال؛ بل المراد هو التسليم المطلق. أن تقول لله سبحانه: لا اختيار لي يا الله، والأمر أمرك في كل شيء. وكما قال أحدهم: ليس المهم أن تكون عابدا؛ بل المهم أن تكون متعبدا. من السهل أن تختار أسهل الطرق وتعتزل كالرهبان على أعالي الجبال الجميلة وتعبد الله هناك، ولكن هل التكليف هو هذا؟ لماذا نُشكل على الرهبنة وعلى خط العلماء في المسيحية؟ لأنهم تركوا المجتمع واعتزلوا في الكنائس الفخمة والأماكن الجميلة بدعوى الترهبن والانقطاع. ولذا روي: (لاَ رَهْبَانِيَّةَ فِي اَلْإِسْلاَمِ)[١١]، وإنما رهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله.

العمل بالتكليف على رأس الأولويات

والمؤمن بغض النظر عن مهنته وتخصصه يعمل بتكليفه ويدعو إلى الله عز وجل أينما كان. ومعروفة قصة ذلك الشيخ القمي في تايلند الذي عمل بوظيفته التبليغية وأصبح له مزار يزار ويقدس إلى يومنا هذا. وبعض الشعوب دخلوا في الإسلام بتبليغ جماعة محددة من المؤمنين في تلك البلاد. وقد انتشر الإسلام بالفتوحات الإسلامية في الأندلس وغيرها بغض النظر عن دوافع هذه الفتوحات.

لقد ورد في حديث قدسي: (أَوْحَى اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ اَلْأَنْبِيَاءِ إِذَا أُطِعْتُ رَضِيتُ وَ إِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ وَ لَيْسَ لِبَرَكَتِي نِهَايَةٌ)[١٢]. لقد شملت هذه البركة إبراهيم وآل إبراهيم وآل داوود وآل النبي (ص) ولا داعي أن نتحدث عن آثار هذه البركة. وشتان بين بركة الله وبركة العباد. وماذا تنتفع ببركة العباد وقصارى أحدهم أن يقول: طيب الله أنفاسك، وهي كلمة لا تقدم ولا تؤخر.

ليس لبركتي نهاية…!

فحتى لو أعطاك مالا واشترى لك بيتا وزوجك؛ فهي كلها أمور زائلة لا تقاس بالبركة الإلهية التي لا نهاية لها. ومصداق هذه البركة؛ الشيخ عباس القمي رضوان الله عليه الذي لم يكن مرجعا ولا أستاذا معروفا في زمانه كالمرحوم الأصفهاني أو النائيني؛ ولكن ألف كتابا لا يُنسخ إلى ظهور الإمام (عج). وكم ألف العلماء الكبار في باب الدعاء، ولكنها لم تصمد كما صمد هذا الكتاب ولم يستطع أن يحل كتاب، محل مفاتيح الجنان. وقد أصبح هذا الكتاب جنبا إلى جنب القرآن في المنازل والمساجد. لقد أبقى فينا النبي (ص) الكتاب والعترة، والقرآن موجود بيننا والعترة موجودة إلى جنب القرآن بأدعيتهم التي تضمنها هذا الكتاب.

[١] سورة الغاشية: ٢٢.
[٢] سورة القصص: ٥٦.
[٣] سورة الرحمن: ٤.
[٤] سورة الأسراء: ١٥.
[٥] سورة ص: ٤٦.
[٦] الکافي  ج٢ ص٤٢٢.
[٧] سورة فصلت: ٣٣.
[٨] سورة عنكبوت: ٦٩.
[٩] سورة النمل: ١٩.
[١٠] تفسير نور الثقلين  ج٢ ص٢٧٣.
[١١] مستدرك الوسائل  ج١٤ ص١٥٥.
[١٢] الکافي  ج٢ ص٢٧٥.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • المؤمن بغض النظر عن مهنته وتخصصه يعمل بتكليفه ويدعو إلى الله عز وجل أينما كان. ومعروفة قصة ذلك الشيخ القمي في تايلند الذي عمل بوظيفته التبليغية وأصبح له مزار يزار ويقدس إلى يومنا هذا. وبعض الشعوب دخلوا في الإسلام بتبليغ جماعة محددة من المؤمنين في تلك البلاد.
Layer-5.png