كما أن للبذرة حركتان: حركة جوهرية في الداخل، وحركة بيئية في الخارج، وبكمالهما تنمو البذرة.. فكذلك للنفس الإنسانية: حركة جوهرية، تتمثل في تحريك قواها الداخلية، وحركة خارجية تتمثل في المؤثرات البيئية، والتي نسميها العقل الجمعي، أو التأثير اللاشعوري لمجموعة بشرية، تتحرك نحو محور واحد.
للعقل الجمعي إيجابيات وسلبيات.. فمن سلبياته: أن المتأثر به يفقد القدرة على التفكير السوي، في خضم التفكير الغالب.. فيعير عقله للغير ليفكر به.. ومن سلبياته: أنه مما يوجب الحركة المؤقتة –لو كانت صالحة– وحينئذ بانتهاء تلك الحالة الجماعية تنتهي الحركة، وهو ما نلاحظه في موسم الحج، فيرجع الحاج فاقدا لمعظم ما كسبه في تلك الفترة.
ومن سلبياته: أنه يسلب الإنسان القدرة على الابتكار والإبداع، فلا يفكر خارج المألوف لاكتشاف ما هو الجديد.. ومع انعدام الحركة الإبداعية في الحياة، يفقد الإنسان سيره التكاملي.
ومن سلبياته: أنه يشجع على المراعاة والمراءاة.. فينشط الفرد داخل الجماعة ليرجع الى الخلوة بما فيها من تكاسل وتقاعس.. وقد ورد في الحديث: أن المرائي يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان الناس عنده.
ومن سلبياته: أن الفرد ينقلب عما فيه، إذا انقلبت الحركة الجماعية من الصلاح إلى الفساد.. والتاريخ مليء بنماذج من غلبة الروح الجماعية على الفرد عندما يستولي على أصحابها الشيطان، ومثاله الخوارج في زمان الامام علي (ع)، وأصحاب مسلم بن عقيل في زمان الحسين (ع).
ومن سلبياته: أن الإدراك الجمعي قد تلتبس عنده المفاهيم، وإذا به يرى القبيح جميلا وبالعكس.. وهو ما نراه من تعارف المنكرات -وكأنها هي الحالة الطبيعية- في بلاد الغرب، وهذا منشأ حكم الفقهاء بحرمة التغرب او التعرب بعد الهجرة، عندما تكون الظروف ملائمة، لانسلاخ الفرد عن هويته التي ينبغي أن ينبعث منها.
وأما إيجابيات العقل الجماعي فهو: تحفيز الهمم، وقدح العزائم، وهو ما نلاحظه في موسم الحج، فيقوم العبد بحركات روحية وبدنية، لا يمكنه القيام بها خارج إطار الجماعة المتعبدة في ذلك الموسم، ويأتي الكلام نفسه في الصيام، وصلاة الجماعة، والجهاد.
ومن إيجابياته: إيجاد جو من السباق المحمود والمحموم، لأن السائرين إلى هدف واحد، تنتابهم عادة هذه الحالة المقدسة، بشرط خلوها عن الحسد والتنازع.
ومن إيجابياته: التعرض لأجواء الرحمة الشاملة للهيئة الجماعية، فإذا كانت النتائج في علم المنطق تابعة لأخس المقدمات، فان الألطاف الإلهية بالنسبة للجمع، تابعة لأرقى الافراد، فباعتبارهم يلطف الحق بالجميع، وإليكم هذا النص الدال على هذا المعنى (أن الملائكة يمرون على حلق الذكر، فيقومون على رؤوسهم، فيبكون لبكائهم، ويؤمنون على دعائهم، فيقول الله تعالى: اشهدوا اني قد غفرت لهم وآمنتهم مما يخافون، فيقولون ربنا: إن فيهم فلانا ولم يذكرك ، فيقول: قد غفرت له بمجالسته لهم ، فإن الذاكرين ممن لا يشقى بهم جليسهم).
وأخيرا لنطبق ما قلناه على أجواء المواسم العبادية، سواء في شهر رمضان أو في موسم الحج، أوفي شهري محرم وصفر.. فإن الجو الجماعي يدفع العبد الى حالة من الإنابة والانقطاع إلى الله تعالى، والميل إلى التأسي بأوليائه المعصومين (ع)، ولكن بعد الفراغ من الموسم تنتابه حالة من الاكتئاب والحزن، لفقدان تلك الاجواء المباركة ، فما هو الحل؟..
أولا: لا بد من تغيير الدوافع العرضية الى حالة من القناعة الذاتية، لئلا تزول الآثار بزوال مؤثراتها.. فالمفروض أن القناعات الراسخة لا تتغير بتغير المواسم.. إذ المعتقد بلزوم السير الجاد الى الله تعالى، وذلك بالمجاهدة والمراقبة، لا ينتظرالحج ولا شهر رمضان!..
ثانيا: إثارة الهمة عن طريق تجزيئ الأهداف الكبرى إلى أهداف مرحلية.. فالذي يهدف غايات -لا تنال عادة- سرعان ما يبتلى بالفتور في أوائل الطريق، بخلاف من يجعل لنفسه محطات قريبة المدى، لتكون لذة الفوز في مرحلة ما، دافعة للحركة إلى مرحلة أخرى.
ثالثا: تجنيب النفس مواطن الفتور، والميل الى التوغل في مقتضيات الغريزة، ولهذا نلاحظ المشغولين بأهداف كبرى -ولو دنيوية- كرجال الأعمال والبحث العلمي، لا يلتفتون إلى الشهوات العابرة، شغلا بما هو أهم.. فكيف إذا كان ذلك الهمّ، هو كسب أعلى كنز في الوجود، وهو الرضوان الإلهي؟..
لا بد من الاستفادة من نظرية الاقتران الشرطي، في إثارة الحوافز الداخلية.. فالذي يقرن عبادته بمكان خاص، وفي أجواء خاصة، وتتكرر منه حالات الإقبال في ذلك المكان الخاص، سوف يعيش حالة مشابهة بشكل قهري عندما يعايش تلك الأجواء.. ومن هنا أمرنا باتخاذ المصلى في المنزل، وغير ذلك من الأمور التي تربطنا بالعالم العلوي.. ولا عجب في ذلك بعد أن جعل الله تعالى عبادته مرتبطة حسّـا برموز أرضية، متمثلة بالمادة مثل: الكعبة، أو الحجر الأسود، أو مقام إبراهيم..
إن الضمان الوحيد لكل ما ذكرناه آنفا، هي الاستقامة في الطريق.. فإن رسول الله (ص) عجل به الشيب، لآية في سورة هود، وهي قوله تعالى: {فاستقم كما امرت ومن تاب معك}.. وهذا العنصر هو الذي يفتقده الكثيرون، فتتحول حركتهم إلى سكون لدى أول مانع من موانع الطريق، ويتحول أملهم إلى يأس عند أول بادرة من بوادر الفشل.. ولذا كثر السائرون وعزّ الواصلون.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.