- ThePlus Audio
دروس من سيرة الحسين (عليه السلام)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة وأتم السلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين.
الابتعاد عن مجالس الذكر
من الملاحظ بعد انتهاء العشرة الأولى من شهر محرم، ابتعاد المؤمنين عن هذه الأجواء المباركة وكأن التكليف قد انتهى وأنَّ لهم الحق أن يبتعدوا عن أجواء التوسل بأهل البيت (ع)، كما ابتعد عن أجواء المناجات وعبودية الله عز وجل في شهر رمضان المبارك، فهناك تغيير في سلوك البعض وفي إقبالهم على المجالس ومواطن ذكر الله عز وجل وذكر أهل البيت (ع) في يوم عيد الفطر بعد شهررمضان وبعد عاشوراء.
المصيبة بدأت للتو..!
والحال أنَّه ينبغي للإنسان أن يشتد ذكراً لأهل البيت (ع) كلما كان تأثره في العشرة الأولى من شهر محرم أشد وأكبر، وخاصة أنَّ المصائب بدأت على أهل البيت (ع) بعد ذلك، وعاشوراء لم تكن إلا يوماً واحداً كما التاسع من المحرم الذي حوصر فيه الحسين (ع) واشتد العطش في أهل البيت (ع)، ونستطيع القول أنَّ قمة المأساء كانت في يومي التاسع والعاشر؛ والحال أنَّ أهل البيت (ع) يعيشون يوماً فيوماً المصائب العظام بعد هذين اليومين؛ لحين رجوعهم إلى المدينة؛ بل وحتى في المدينة المنورة، ونحن نعلم الحالة التي كانوا عليها من البكاء والنحيب حتى بعد سنوات من مقتل الإمام (ع).
مواقف الحسين (عليه السلام) في ستة عشر منزلاً..!
وقد رأيت من خلال استقرائي لحركة الحسين (ع) من المدينة إلى كربلاء ولأحاديثه المتواصلة في الطريق أنَّ الإمام قد مر بستة عشر منزل بدءً من التنعيم وقد سجل بعض المواقف هناك وصولاً إلى كربلاء، وكان منها الثعلبية والزرود وما شابه ذلك، وقد أحصى بعض المحققين هذه المنازل الستة عشر، وكان له في كل منزل موقفاً مسجلاً في كتب التاريخ الموجودة في الأسواق، بالإضفاة إلى المواقف التي كانت قبل ذلك.
المثلث المقدس..!
ومن المهم الالتفات إلى مثلث مقدس ومنور يلف حركة الإمام الحسين (ع) قبل كربلاء وإبان المحنة والمأساة التي تعرض لها أهل البيت (ع) وأيام الأسر وبعد ذلك، ولهذا المثلث أضلاع ثلاثة: الضلع الأول هو ضلع الرسالية بكل معنى الكلمة وسأبين ذلك أثناء البحث، والضلع الثاني هو ضلع العزة الإيمانية؛ فالأئمة (ع) بالرغم مما تعرضوا له من الضغوطات السياسية والاجتماعية إلا أنَّ عزتهم بقيت محفوظة تماماً وكمثال على ذلك، عندما دعى الإمام الحسين (ع) عمر ابن سعد – بالرغم من كل ما تحمله من القسوة من الجيش الأموي – دعاه باسمه عمر فقط ولم يقل تعال لنتحدث أو لنتناقش بل دعاه الإمام (ع) ليملي عليه ما يريد، وتقول الرواية أنه كان كارها لا يحب أن يأتيه، ولا أدري إلى من يرجع الضمير هنا؛ إلا أنَّ الاحتمال الأقوى هنا أن يكون الحسين (ع) هو الكاره للقاء ابن سعد، ثم قال له: (يا عمر أنت تقتلني؟ تزعم أن يولّيك الدّعيّ ابن الدعيّ بلاد الريّ وجرجان، واللّه لا تتهنّأ بذلك أبدا)[١]
وليس من السهل لإنسان محاصر في كربلاء أن يقول لمن يحاصره أنت ووليك الدعي بن الدعي، وهذه الكلمة مسموعة من الإمام (ع) كثيراً كقوله: (وَإِنَّ اَلدَّعِيَّ اِبْنَ اَلدَّعِيِّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اِثْنَتَيْنِ)[٢]، والإمام (ع) يعبر عن خليفة المسلمين بحسب الظاهر الدعي بن الدعي، ولا يصدر ذلك إلا من إنسان مرتبط بالسماء، ثم قال له: (فاصنع ما أنت صانع، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، ولكأنّي برأسك على قصبة قد نصب بالكوفة، يتراماه الصبيان ويتّخذونه غرضا بينهم)[٣]، ويتكلم الإمام وكأنه هو السلطان وحاكم الوجود مع الدعي ولي الدعي ابن الدعي.
وأما الضلع الثالث فهو العبودية المحضة لله عز وجل في أحلك الظروف والتعبد الشرعي بكل حذافيره، وسنطبق هذه الأضلاع الثلاثة على الحسين (ع) وأهله من كربلاء إلى المدينة وفي كربلاء والشام.
الهدف من تركيز الأئمة وأولادهم على ذكر النسب في كلامهم وأراجيزهم
إن الرسالية كانت واضحة في عمل الإمام منذ خروجه من المدينة؛ حيث قال (ع): (وأنّي لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي)[٤]. إن الأئمة (ع) وأولاد الأئمة (ع) كانوا يركزون على النسب في أراجيزهم: أنا علي بن الحسين بن علي أو أنا ابن فاطمة وغيرها من الأراجيز، وكأن هناك مفهوماً مسلماً في أذهان الأمة: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[٥]، وحتى من كان يقرأ القرآن في جيش يزيد كان يقرأ هذه الآية، ومصطلح أهل الكساء وأهل البيت مصطلح حاضر في وعي الأمة إجمالاً، وقد بقيت قدسية الزهراء (س) محفوظة وإن كان أمير المؤنين (ع) قد زج في دائرة الخلافة والصراعات مع معاوية وكذلك الإمام الحسن (ع)؛ إلا أن الزهراء بقيت كالشمعة المضيئة والكوكب الدري، ولهذا كان يحرص على رضاها قبل وفاتها أولئك الذين وقفوا على بابها وانتهكوا حرمتها.
وكأن الحسين (ع) أراد أن يقول أن هذه كبرى مسلمة وإنني أنا المصداق، أنا ابن فاطمة الزهراء (س)، ولم يكن تأكيده على النسب إلا لربط الموضوع بالحكم ولربط الصغرى بالكبرى ولربط المصداق بالمفهوم الكلي ولربط هذه الجزئية بذلك المعنى المسلم في أذهان الأمة وإن لم تعقل هذا المعنى، فقد عميت قلوبهم وأبصارهم وصمت أسماعهم.
من مظاهر العبودية المحضة للحسين (عليه السلام)
ومن مظاهر تعبد الحسين (ع) خروجه من مكة قبل أن يكمل الحج ولو كان أي إنسان آخر مكانه لأكمل مناسك الحج ثم خرج إلى الشهادة، ولكنه (ع) وهو التالي للقرآن الكريم: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا)[٦]، لم يكن مستعداً أن يراق دمه في أرض مكة فتنتهك حرمة الإسلام وهذا هو التعبد المحض بالشريعة.
أين آثار العبادة والحضور في المجالس؟!
نعم قد يكون الإنسان متعبدا في ظرف من ظروف حياته أو ساعة من ساعاتها ولكن هؤلاء كما قال الحسين (ع): (فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلاَءِ قَلَّ اَلدَّيَّانُونَ)[٧]، وقد يخدع الإنسان نفسه عندما يرى أنه مواظب على المساجد والمآتم سنة كاملة ويحسب أنه على خير ولكنه كما قال الإمام السجاد في مناجاته: (ومالي كلما قلت قد صلحت سريرتي، وقرب من مجالس التوابين مجلسي، عرضت لي بلية أزالت قدمي)[٨]، وقد يسافر إلى منطقة قريبة أو يدخل في نزاع عائلي أو مشكلة مع إنسان وإذا به ينقلب رأساً على عقب فيمسخ في تعامله، فأين تلكم الدعاوى؟ أين آثار المسجد والبكاء على أهل البيت (ع)؟ ينبغي أن تظهر هذه الآثار في السوق وفي الخلوات، وعند الخلوة مع الأجنبية وعند المشي في السوق والنظر يميناً وشمالاً.
الابتلاء بالغرور في العبادة..!
وقد يبتلى الإنسان بشيء من الغرور أحياناً؛ عندما يحلق في الحج وفي شهر رمضان وأيام محرم الحرام ويظن أنه قد وصل إلى بعض الدرجات الثابتة، وعندما يتعرض لبعض مواضع الفتنة في القول والفعل وإذا به كما في الرويات الشريفة: (إِنَّ اَلرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لِيُضْحِكَ بِهَا جُلَسَاءَهُ فَيَهْوِي بِهَا أَبْعَدَ مِنَ اَلثُّرَيَّا)[٩]، وقد رأينا نماذج كثيرة في حياتنا من الذين هووا إلى أسفل السافلين؛ منهم ذوي المقامات الروحية العالية، وقد وصل بهم الأمر بفعل المعصية أنهم قد تركوا الصلاة برأسها؛ من صلاة خاشعة باكية إلى الصلاة بين يوم ويوم، ونعوذ بالله من هذه العاقبة السيئة ويقول علماء الأخلاق الكبار: أن الذي يؤرقنا ليلا ونهاراً هو مسألة سوء العاقبة، ومنهم الشلمغاني وأمثاله من الذين أصدر الأئمة تواقيع وبيانات في لعنهم والحال أنهم رووا كثيرا من الرويات المعتبرة عن الأئمة (ع).
وأما العزة وهو الضلع الثالث من هذا المثلث واضح في حركة الإمام من المدينة وهو القائل (ع): (وَعَلَى اَلْإِسْلاَمِ اَلسَّلاَمُ إِذْ قَدْ بُلِيَتِ اَلْأُمَّةُ بِرَاعٍ مِثْلِ يَزِيدَ)[١٠]، ونرى هذه الأضلاع الثلاثة واضحة في حركة الإمام من المدينة.
لماذا لا تحول الدموع إلى التزام في الحياة؟
وفي كربلاء كان الضلع الثالث وهو العبودية المحضة واضح؛ سواء بالنسبة إلى النوافل والمستحبات كما روي: (وبات الحسين وأصحابه تلك الليلة، ولهم دوي كدوي النحل، ما بين راكع وساجد، وقائم وقاعد)[١١]، وقوله (ع): (فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غد، وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة)[١٢]، والحال أننا نرى البعض يضحي بصلاته في أول الوقت لأجل معاملة في الوزارة أو عمل بسيط، ونحن نعلم أن بعض أصحاب الإمام (ع) أصيبوا عندما أقاموا صلاة الظهر في يوم عاشوراء، نعم نحن نبكي على مصيبته ومصيبة أصحابه الذين قتلوا معه؛ ولكن ما قيمة هذا البكاء إذا لم يثمر عملاً في وجودك والتزاماً في حياتك؟
والبكاء عمل جيد وثروة كبيرة كالأمطار الغزيرة التي لا يستفيد منها إلا من هيئ الأرض وغرس البذور في التراب، لتأتي هذه الأمطار السخية فتنبت هذه البذور، وكما قلنا أنَّ الذي لا يمتلك برنامجاً إيمانياً في الحياة تمر عليه مواسم الرحمة من شهر رمضان وأيام محرم ال وصفر والحج والعمرة من دون أي تغيير، نعم هو يحصل على الأجر من جميع ذلك؛ من بكائه على سيد الشهداء وإحياء ليلة القدر والحج والعمرة ولكنه لا يحصل على التغيير الماهوي كما يقولون في حياته أبداً.
وأنا شعاري مع الإخوة دائماً هو أنَّ الذي لا يحدث أي تغيير في حياته سيكون مستقبله نسخة مطابقة لماضيه تماماً؛ فمحرم هذا العام كالمحرم من العام الماضي وشهر رمضان من هذا العام كشهر رمضان من العام الماضي والحج هذه السنة كالحج في السنة الماضية، ولو عشنا ألف سنة سنكون بهذه الوضعية، ولذلك ينبغي أن نبحث دائماً عن ساعة الصفر وساعة الانقلاب والثورة على الواقع الذي لا يطابق ما يريده الله عز وجل ورسوله (ص)، وهناك مبدأ اقتصادي يقول: بأنَّ التاجر المفلس كلما أغلق المحل أسرع كلما وفر على نفسه الخسائر أكثر، أنت إنسان في طريق الإفلاس؛ أوقف التجارة سريعاً؛ فبقاءك في السوق بهذه الوضعية لا تزيدك إلا خسارة وتكلفة وما شابه ذلك، وينبغي للإنسان أن يوقف الخسائر الفادحة في سلوكه وتعامله مع نفسه وربه.
وأنتقل إلى ما بعد الاستشهاد لأطبق هذا المثلث على سلوك الأسارى والبقية الباقية من أهل البيت (ع)، ونرى وضوح الرسالية في كلماتهم (ع)، وكلمات السجاد (ع) والسيدة زينب وأم كلثوم وفاطمة الصغرى (س) مدونة في التاريخ وواضحة فيها الرسالية، ومنها قول السيدة زينب (س): (مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً)[١٣]، وزينب (س) تعي ما تقول، وليس ذلك مبالغة منها أو شعراً أو كلام أطلق على سبيل المجاز؛ إنَّما هي ترى حقيقة قتل الحسين (ع) جميلاً؛ إذ أنَّ الله سبحانه شاء أن يراه قتيلاً ويراهن سبايا وإن كان القتل عليها ثقيلا باعتبارها تفقد أخاً. إن السيدة زينب (س) عندما ترى قتل الحسين (ع) هو تحقيق لرغبة المحبوب، ترى ذلك القتل جميلاً، وقد وضعت يديها تحت ذلك الجثمان الطاهر وتكلمت بكلمة دونها التاريخ: (اللّهمّ تقبّل منّا هذا قليل القربان)[١٤]، وإن لم تتقبل منا هذا القربان فما عملنا شيئاً، وتذكرنا هذه الكلمة بدعاء النبي إبراهيم (ع): (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)[١٥]، وشتان بين قربانه وقربانها، إنَّ إبراهيم (ع) يرفع الحجارة الصماء ويقول ذلك والسيدة زينب (س) ترفع جسد أبي عبدالله الحسين (ع) أشرف الخلق على وجه الأرض وتقول ذلك.
وهذا هو سر الخلود في حركة الحسين (ع)؛ فهم لم يخلدوا جزافاً؛ إنَّما وصلوا حقيقة إلى درجة ربطوا فيها حركتهم وأمانيهم وآمالهم وآلامهم برب العزة والجلالة. إنني قد اخترت لكم مقطعاً من خطبة الإمام زين العابدين (ع) المعروفة التي تطفح بالعناصر الثلاث من المثلث المقدس الذي تحدثنا عنه. إن قراءة خطبة الإمام علي بن الحسين (ع) تريح بعض الجراح وتكفكف بعض الدموع وقد خطبها في الشام وأود أن أطبق الرسالية والعزة والتعبد الشرعي على خطبته (ع) التي أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب يقول: (أيّها الناس اعطينا ستّا وفضّلنا بسبع، اعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبّة في قلوب المؤمنين، – لم يقل الإمام في قلوب الناس ولا قلوب المسلمين – وفضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّدا، ومنّا الصدّيق – وقد عبر عن أمير المؤمنين (ع) بالصديق –، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد اللّه وأسد رسوله، ومنّا سبطا هذه الامّة – أي ما زلنا نحن أسباط النبي (ص) –، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي. أيّها الناس أنا ابن مكّة ومنى – إنما بقيت قدسية هذه المشاعر بنا أهل البيت –، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء.. أنا ابن من اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.. أنا ابن محمّد المصطفى، أنا ابن عليّ المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا: لا إله إلاّ اللّه)[١٦]
أنت يا يزيد وحاشيتك والأمة الممسوخة إنما أسلمتم بضربة علي (ع) حتى قلتم لا إله إلا الله، وحقيقة إنَّها كلمات منتقاة لأسير في الأغلال مصفدا وهو في سن مبكرة إلا أنها كلمات مأخوذة من منبع الوحي، ويكمل الإمام (ع): (أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بسيفين – أنتم هويتم علينا بسيوفكم وجدي هوى بسيفه على أهل الشرك والضلال بسيفين –، و طعن برمحين، و هاجر الهجرتين، و بايع البيعتين، و قاتل ببدر و حنين، و لم يكفر باللّه طرفة عين)[١٧]، وهم من يقول عن أمير المؤمنين (ع) كرم الله وجهه لأنه لم يعبد غير الله طرفة عين خلافاً للجميع الذي عبدوا يوماً من الأيام هبلا واللات والعزى، ويكمل (ع): (أنا ابن صالح المؤمنين، و وارث النبيّين، و قامع الملحدين، و يعسوب المسلمين.. مكيّ مدنيّ، خيفيّ، عقبيّ، بدريّ احديّ، شجريّ، مهاجريّ، من العرب سيّدها، و من الوغى ليثها، وارث المشعرين، و أبو السبطين: الحسن و الحسين، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام)[١٨]
إن النبي الأكرم (ص) لا اختلاف عليه ولهذا لم يركز الإمام علي بن الحسين (ع) عليه كثيراً، وقال كيف تنسبوننا إلى الخارجين عن الدينو الحال أن جدنا أمير المؤمنين (ع) هو من أدخلكم فيه، ثم ضج الناس بالبكاء وخشي يزيد من ذلك فأمر المؤذن بالأذان ليقطع بذلك كلام الإمام، ويبدو أن هيبة الإمام منعته من أن يرسل شرطته إلى الإمام ليسكتوه فلجأ إلى المؤذن، (فلمّا قال المؤذّن: اللّه أكبر اللّه أكبر قال عليّ عليه السّلام: لا شيء أكبر من اللّه، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: شهد بها شعري و بشري و لحمي و دمي – وقد شهد الدم الذي فريتم لحمه في كربلاء والدم الذي هو الآن يجر صاحبه في السلاسل بالوحدانية أيما شهادة – ، فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمّد هذا جدّي أم جدّك يا يزيد؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت و كفرت، و إن زعمت أنّه جدّي فلم قتلت عترته؟)[١٩]
ذكر المصيبة
إن مصائب الشام هي مصائب تحرق القلوب، وأنا باعتقادي إن الإنسان العادي لا يمكنه احتمال هذه المصائب ولكن ما دامت دموعكم جارية نستمر بهذه الصورة المؤلمة من حركة الإمام والسبايا إلى الشام، وقد أخرجوا النساء من الخيمة – وتصوروا معي هذا المشهد لنرى ما حل بأهل بيت النبوة (ع) – وأشعلوا فيها النيران فخرجن بنات رسول الله (ص) كما ذكر في المقاتل؛ باكيات حافيات وتوجهن إلى مصرع الحسين (ع).
وقد تقدمتهن زينب (س) إلى جسد الحسين (ع) – واستمعوا إلى ندبة زينب (س) على جسد أخيها الحسين (ع) – ونادت يا رسول الله، يا محمداه، بناتك سبايا وقد قتل الحسين (ع) وذريتك: (بأبي من فسطاطه مقطع العرى، بأبي من لا هو غائب فيرتجى، ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدماء)[٢٠]، وقد أبكت كل عدو وصديق بحسب الروايات، وكأن القوم عادوا إلى رشدهم قليلاً، وقد جاءت سكينة لتعتنق جسد الحسين (ع) ولكن اجتمعت عليها عدة من الأعراب وجروها عن جسد أبيها.
(فاطمة الصغرى قالت: كنت واقعة بباب الخيمة وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه مجزرين كالأضاحي على الرمال، والخيول على أجسادهم تجول، وأنا افكر فيما يقع علينا بعد أبي من بني امية، أيقتلوننا أو يأسروننا؟ فإذا برجل على ظهر جواده يسوق النساء بكعب رمحه، وهن يلذن بعضهن ببعض، وقد أخذ ما عليهن من أخمرة وأسورة، وهن يصحن: واجداه، واأبتاه، واعلياه، واقلة ناصراه، واحسناه، أما من مجير يجيرنا؟ أما من ذائد يذود عنا؟ قالت: فطار فؤادي، وارتعدت فرائصي، فجعلت أجيل بطرفي يمينا وشمالا على عمتي ام كلثوم خشية منه أن يأتيني، فبينا أنا على هذه الحالة وإذا به قد قصدني، ففررت منهزمة، وأنا أظن أني أسلم منه، وإذا ١ به قد تبعني، فذهبت خشية منه وإذا بكعب الرمح بين كتفي، فسقطت على وجهي، فخرم اذني وأخذ قرطي ومقنعتي، وترك الدماء تسيل على خدي، ورأسي تصهره الشمس، وولى راجعا إلى الخيم، وأنا مغشي علي، وإذا أنا بعمتي عندي تبكي وهي تقول: قومي نمضي ما أعلم ما جرى على البنات وأخيك العليل، فقمت وقلت: يا عمتاه هل من خرقة أستر بها رأسي عن أعين النظار ؟ فقالت: يا بنتاه وعمتك مثلك فرأيت رأسها مكشوفة، ومتنها قد اسود من الضرب، فما رجعنا إلى الخيمة إلا وهي قد انتهبت وما فيها، وأخي علي بن الحسين عليهما السلام مكبوب على وجهه لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا)[٢١]
وهذه ليست صورة عادية أن يعامل إمام زمانه كما قلنا هذه المعاملة ولا أدري كيف يتحمل صاحب الأمر والزمان هذه المصيبة، وأختم بهذا المشهد المؤلم لذلك الرجل الذي كان واقفاً على باب الكوفة: (فَبَيْنَمَا أَنَا وَاقِفٌ وَ اَلنَّاسُ يَتَوَقَّعُونَ وَصُولَ اَلسَّبَايَا وَ اَلرُّءُوسِ إِذْ قَدْ أَقْبَلَتْ نَحْوَ أَرْبَعِينَ شُقَّةً تُحْمَلُ عَلَى أَرْبَعِينَ جَمَلاً فِيهَا اَلْحُرَمُ وَ اَلنِّسَاءُ وَ أَوْلاَدُ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ وَ إِذَا بِعَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى بَعِيرٍ بِغَيْرِ وِطَاءٍ وَ أَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَماً وَ هُوَ مَعَ ذَلِكَ يَبْكِي وَ يَقُولُ:
يَا أُمَّةَ اَلسَّوْءِ لاَ سُقْيَا لِرَبْعِكُمْ يَا أُمَّةً لَمْ تُرَاعِ جَدَّنَا فِينَا
لَوْ أَنَّنَا وَ رَسُولُ اَللَّهِ يَجْمَعُنَا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَا
أَ لَيْسَ جَدِّي رَسُولُ اَللَّهِ وَيْلَكُمْ أَهْدَى اَلْبَرِيَّةِ مِنْ سُبُلِ اَلْمُضِلِّينَا
يَا وَقْعَةَ اَلطَّفِّ قَدْ أَوْرَثْتِنِي حَزَناً وَاَللَّهُ يَهْتِكُ أَسْتَارَ اَلْمُسِيئِينَا)[٢٢]
[٢] مثیر الأحزان ج١ ص٥٤.
[٣] عوالم العلوم ج١٧ ص٢٥١.
[٤] تسلیة المُجالس ج٢ ص١٦٠.
[٥] سورة الشورى: ٢٣.
[٦] سورة العنكبوت: ٦٧.
[٧] بحار الأنوار ج٧٥ ص١١٦.
[٨] الصحيفة السجادية.
[٩] مجموعة ورّام ج١ ص١١١.
[١٠] اللهوف ج١ ص٢١.
[١١] بحار الأنوار ج٤٤ ص٣٩٤.
[١٢] بحار الأنوار ج٤٤ ص٣٩٢.
[١٣] بحار الأنوار، ج٤٥، ص١١٥ـ١١٦.
[١٤] الكبريت الأحمر، ص ٣٧٦.
[١٥] سورة البقرة: ١٢٧.
[١٦] عوالم العلوم ج١٧ ص٤٣٨.
[١٧] عوالم العلوم ج١٧ ص٤٣٨.
[١٨] عوالم العلوم ج١٧ ص٤٣٨.
[١٩] عوالم العلوم ج١٧ ص٤٣٨.
[٢٠] العوالم ج١ ص٣٠٣.
[٢١] عوالم العلوم ج١ ص٣٦٠ -٣٦١.
[٢٢] بحار الأنوار ج٤٥ ص١١٤.
خلاصة المحاضرة
- يلاحظ بعد انتهاء العشرة الأولى من شهر محرم، ابتعاد المؤمنين عن مجالس التوسل بأهل البيت (ع)، والحال أنَّه ينبغي للإنسان أن يشتد ذكراً لهم (ع) كما كان تأثره في العشرة الأولى من شهر محرم وخاصة أنَّ المصائب بدأت على أهل البيت (ع) بعد ذلك.
- من المهم الالتفات إلى مثلث مقدس يلف حركة الإمام الحسين (ع) قبل كربلاء وإبان المحنة والمأساة التي تعرض لها أهل البيت (ع) وأيام الأسر وبعد ذلك، ولهذا المثلث أضلاع ثلاثة: الضلع الأول هو ضلع الرسالية، والثاني العزة الإيمانية، والثالث، التعبد المطلق بالشريعة.
- لم يفارق وعي الأمة في يوم من الأيام أن أهل البيت (ع) هم القربى الذين أمر القرآن بمودتهم، ولذلك نلاحظ في كثير من الأراجيز التي أطلقها الأئمة وأولادهم في كربلاء كانت تبين النسبة بينهم وبين رسول الله وآله (ع)، كقول علي الأكبر: أنا علي بن الحسين بن علي وأمثال ذلك.
- قد يكون الإنسان متعبدا في ظرف من ظروف حياته أو ساعة من ساعاتها ولكن هؤلاء كما قال الحسين (ع): (فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلاَءِ قَلَّ اَلدَّيَّانُونَ)؛ فينقلب على عقبيه في أول مشكلة أو نزاع يدخل فيه وتمسخ أخلاقه أو يدخل السوق فلا يملك عيونه التي تذهب يمينا وشمالا.
- إن الحسين (ع) أقام الصلاة من يوم الظهر في عاشوراء تحت مرمى النبال والسهام والحال أننا نرى من يؤخر الصلاة عن وقتها لمعاملة وزارية أو أي عمل بسيط آخر، والسؤال هو أين ثمرة تلك الدموع على الحسين (ع) إن لم تترجم إلى عمل حقيقي والتزام واقعي بمباني الشريعة؟