لماذا نُقيم عزاء الحسين -عليه السلام-؟..
إن هذه الأيام منتسبةٌ إلى الحسين -عليه السلام- وهي من أيام الله -عز وجل-، ونحن إنما نحضر مجالسهُ، ونُقيم عزاءهُ، ونبكي عليه؛ لأنَ ولي اللهِ قُتلَ مظلوماً، غَريباً، شهيداً.. فالأمرُ يعودُ إلى اللهِ -عَزَ وجل- أولاً وأخيراً؛ وهذا معنى معلومٌ في نفوس كافة الموالين.. ولكن ما الدروس والعبر التي يمكن أن نأخذها من حركة الإمام -عليهِ السلام- واستشهاده؟.. فما وقع على الإمام الحسين -عليه السلام- لم تشهده البشرية، من حيث هذا المجموع من أنواع البلاء: من قتل الرضيع، وسبي النساء، وطريقة القتل الفجيعة.. والخ.. والمؤمن الذي يُقيم العزاء، لابد وأن يخرج بقرار هام!.. فالدول الكُبرى وغير الكُبرى عندما تجتمع عادةً يخرجون بقرارات، وهذهِ القرارات إن لم تكن مُلزمة؛ فلا قيمةَ لها.. والقيمة هي أن تكون هُناكَ قرارات مدروسة أولاً، ومُلزمة ثانياً.. فمن القرارات التي تغير مجرى حياة المؤمن:
الالتزام بأربعينية التطهير والتطهر..
إن المؤمن يرفع في كل سنة شعار: أربعينية التطهير والتطهر!.. فشهرُ رمضان معَ عشرة أيام من شهر شوال، أو من شهرِ شعبان؛ هي فرصة مؤاتية للتطهير.. ولكن الذي التزم بتلك الأربعينية عليه أن يراجع نفسه، ليرى ما الذي بقيَ له من مكاسبِ شَهرِ رمضان المُنصرم، وأي نورٍ بقى منه، مثلاً: هل لازال أنسه بالقُرآن، وبصلاة الليل موجوداً أو لا؟.. والعلماء الأصوليون قديماً وحديثاًً قالوا: “الشيءُ إذا شككتَ في تحققهِ؛ تبني على العَدم”.. فالأصل عدم وقوع الشيء، والإنسان لا يعلم هل هذهِ المكاسب باقية في وجوده أم لا!.. لذا، عليه بهذه الأربعينية!.. فهذهِ الأربعينية من مقتل الإمام -عليه السلام- إلى أربعينيتهِ، هي أيضاً مؤاتية، وقد تدفعه أكثر للأمام!.. -ولا غرابة في ذلك، فالإنسان الأكاديمي، لا يسارع في إنكار ما لا يتحمله، يقول ابن سينا: “كل ما قرع سمعك، فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان”-.. لأن القلب الحَزين، قَلبٌ حبيبٌ إلى اللهِ -عَزَ وجل- حتى لو كان هذا الحزن على المشاكل اليومية، فالمؤمن لا يخلو من حُزن.. ولهذا المؤمن ضحكهُ التبسم، لا يمكنهُ أن يقهقه؛ لما هو فيه من هموم وآلام؛ فكيفَ إذا كانَ الحُزن لا على شخصه، ولا على نقصٍ في ماله؛ وإنما حُزنهُ على مصاب أبي عبد الله الحسين -عليهِ السلام-؟!.. فالإنسان الذي يرزق بمولود في ليلة التاسع أو العاشر من محرم، ولا يُسعد كثيراً بهذا الحدث؛ لأنه مشغول بأحزانه على الحُسين -عليهِ السلام-؛ هذا الإنسان قلبه راقٍّ جداً؛ فهو لا يجد طعماً لأي سرورٍ في هذهِ الأيام!.. وشعارُ المحبين طوال التأريخ، ما قاله هذا الشاعر ملخصاً فلسفة البُكاءِ والحُزن بقولهِ:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة *** لكنما عيني لأجلك باكيـــة
تبتـل منكم كربلاء بـدم *** ولا تبتل مني بالدموع الجارية
إلى أن يقول:
أنست رزيتكم رزايانا التي *** سلفت وهونت الرزايا الآتية
إن بعض المؤمنين يُقيمون مجالس العزاء طوالَ السَنة؛ حِداداً على سيد الشهداء -عليه السلام-؛ فهنيئاً لمن كانَ في قلبهِ هذا الحُزن!.. والقلب الحَزين برزية الحُسين -عليهِ السلام- هو قلب مؤمن، وحي، ولا يمكن أن يموت أبداً!.. روي عن النبي (صلی الله عليه) أنه قال: (إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين؛ لا تبرد أبداً).
ماذا نعمل في هذهِ الأربعينية؟..
إن المؤمن يتأسى بأصحاب الحُسين -عليهِ السلام- الذين هُم الآن في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدر، يستمتعون بالنَظرِ إلى وجه سيدهم وإمامهم في عالم البرزخ، وفي عرصات القيامة، وفي الجَنة ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ولكي نتشبه بأصحاب الحُسين -عليهِ السلام- في مُجمل السلوك، علينا باتباع ما يلي:
أولاً: التوسط في الشهوات.. إن أصحاب الإمام الحسين -كما يُفهم من بعض العبارات المنقولة- كُشف لهم الغطاء يوم العاشر، فرأوا منازلهم في الجَنة بعدَ أن تم اختبارهم من قِبل الإمام -عليه السلام-.. روي عن الإمام عليّ بن الحسين؛ زين العابدين -عليه السلام- أنه قال: (كنت مع أبي في الليلة التي قتل في صبيحتها فقال لأصحابه: هذا الليل فاتخذوه جنة؛ فإن القوم إنما يريدونني، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم وأنتم في حل وسعة، فقالوا: والله لا يكون هذا أبداً!.. فقال: إنكم تقتلون غداً كلكم، ولا يفلت منكم رجل.. قالوا: الحمد لله الذي شرفنا بالقتل معك.. ثم دعا فقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا!.. فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنة، وهو يقول لهم: هذا منزلك يا فلان.. فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه؛ ليصل إلى منزلته من الجنة).. فالذينَ بقوا معَ سيد الشهداء، كُشفَ عنهم الغطاء!.. وهذا مقام منيع: أن يكُشف الغطاءُ عن قلب الإنسان، فيرى حقائقَ الأشياء!.. لذا، فإن المؤمن يحاول أن يكون في هذا الطريق؛ ولكن هذا المقام لا يُنال بالشهوات المحللة والاسترسال، إذ لابدَ من التوسط!.. فالتوغل في الشهوات بمختلفِ أنواعها وإن كانت محللة؛ هو من موجبات انغلاقِ هذهِ الدروب الباطنية.
ثانياً: صلاة أول الوقت.. إن أصحاب سيد الشهداء -عليه السلام- في يومِ عاشوراء، كانوا يقاتلون وعيونهم على السماء، يراقبون الشمس، وينتظرون الزوال، ليصلوا للهِ -عَزَ وجل- صلاة يوم العاشر.. (فلم يزل يقتل من أصحاب الحسين الواحد والاثنان، فيبين ذلك فيهم لقلّتهم، ويُقتل من أصحاب عمر العشرة، فلا يبين فيهم ذلك لكثرتهم.. فلما رأى ذلك أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين -عليه السلام-: يا أبا عبد الله!.. نفسي لنفسك الفداء، هؤلاء اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك، وأحب أن ألقى الله ربي وقد صليت هذه الصلاة.. فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال: ذكرتَ الصلاة، جعلك الله من المصلين!.. نعم هذا أول وقتها، ثم قال: سلُوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي… فقال الحسين -عليه السلام- لزهير بن القين، وسعيد بن عبد الله: تقدمّا أمامي حتى أصلي الظهر.. فتقدما أمامه في نحوٍ من نصف أصحابه، حتى صلى بهم صلاة الخوف.. ورُوي أن سعيد بن عبد الله الحنفي تقدم أمام الحسين -عليه السلام-، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل، كلما أخذ الحسين -عليه السلام- يميناً وشمالاً قام بين يديه، فما زال يُرمى به حتى سقط إلى الأرض…).. فإذن، من دواعي التأسي بهم، المحافظة على الصلاة في أول وقتها.
ثالثاً: صلاة الليل.. إن السيدة زينب -عليها السلام- تلك المرأة الأولى في تاريخ الوجود، التي وقع عليها من شدة المحنِ والمصائب، ما لم يقع على مثلها.. فما جرى على هذهِ السيدة أمرٌ مذهل!.. امرأة في يوم واحد تفقد إمامَ زمانها، وأخاها العباس، وأبناء أخيها، وأبناءها!.. وإذا بها في ليلة الحادي عشر، تتفقد القتلى في ساحة المعركة، بعدَ أن خَيمَ الليل وأرخى سدولهُ، ثم تصلي صلاة ليلها، ولكن لا من قيام بل من جلوس؛ بما بقي لها رَمق بعدَ تلكَ الأحداث الجسام!.. وهذا درس للمؤمنين والموالين: فالبعضُ منا عندما يُسافر، أو يكون على فراش المرض؛ يترك صلاة الليل، وبعض الالتزامات.. بينما هذهِ هيَ سيدتنا ومقتدانا في هذا الطريق، رغم ما مر عليها في ذلك اليوم؛ لم تترك صلاة الليل!..
رابعاً: الإخلاص.. إن الإنسان بعدَ العاشر من محرم، يشعر وكأنّهُ استحمَ في نَهرٍ جار!.. فمشاعره في اليوم الحادي عشر، كمشاعره في اليوم الثالثِ والعشرين من شهر رمضان المُبارك؛ حيث أنه بعدَ ليالي القَدر، يرى: نُوراً في باطنه، وأريحيةً في سلوكه، وطهارةً في نفسه.. وهذهِ العشرة: بلياليها، وبعزائها، وبهذهِ الدموع؛ لها نفس الأثر.. والروايات التي تصف الدموع التي تجري على الحسين -عليه السلام-: (أنها أحب القطرات إلى الله)؛ فما ذلك إلا لأن هذهِ الدموع تعودُ إلى اللهِ عزَ وجل.. فروايات الدمعة من خشية الله -عز وجل-، تَنطبقُ على الدموع التي تذرف على الحُسينِ -عليهِ السلام-؛ لأنَّ مآلها حًب الله -عز وجل- وحب رسوله (ص) .. ولهذا هناك فتاوى: في أنَّ الصلاة التي يبكي فيها الإنسان على سيد الشهداء -عليه السلام- يوم العاشر، هو بُكاءٌ إلهي غَير مُبطل للصلاة!.. وعليه، فإن الإنسان الذي يبكي على الحُسين -عليهِ السلام-، هو يبكي من خشية الله -عز وجل-.. وبالتالي، فإنه يخرج طاهراً مطهراً!.. لذا، عليه المحافظة على هذا النقاء أربعينَ صباحاً، فقد ورد عن النبي (ص) أنه قال: (من أخلص للّه أربعين صباحاً، فجّر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه).. نعم، الفضائيات مُثقِّفة، والكتاب مُثقِّف، والدروس مُربية، والعُلماء مفيدون؛ ولكن هنيئاً لمن جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه؛ فصارَ كلقمان: من دون أستاذ، ومن دون مُربي، آتاه رَب العالمين الحكمة!.. وكل إنسان مرشح، لأن يكون ممن يُعطى الحكمة!.. في هذه السنوات الأخيرة، هُنالك جيل من غير العلماء، وصلوا إلى درجات راقية: لا من حيث السلوك الباطني، وإنّما من حيث الكلمات الحكمية.. فالبعض منهم رَب العالمين أعطاهم الحكمة كلقمان، رغم أنهم لم يتخصصوا في علم الدين!.. فالفُتيا والفقه والأصول، بحاجة إلى دراسة وإلى تَخصص؛ فهؤلاء لا حَقَ لهم في الفُتيا!.. ولكن الكلام الحكمي؛ هذا من الممكن أن يُعطى للإنسان.. لذا، فإن المؤمن يغتنم هذهِ الأربعينية، ويجعلها فُرصة لأن يكون ممن يؤتى الحكمة، يقول تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.
خامساً: ترك المعاصي والذنوب.. إن البعض يقرأ كُتب التربية، وكُتب الأخلاق، والاصطلاحات العرفانية المُعقدة.. ما له وهذا التعقيد؟.. الأمرُ بسيط: ما عليه إلا أن يترك المعاصي والذنوب، ويعمل بما يُرضي المولى.. ورد في الحديث القدسي: (من تقرب إلى شبراً؛ تقربت إليه ذراعاً.. ومن تقرب إلي ذراعاً؛ تقربت إليه باعاً.. ومن أتاني ماشياً؛ أتيته هرولة).. فالبابُ مفتوح للجميع، ولكن يجب على الإنسان أن يكون صادقاً في نيته، عندئذ رَب العالمين يجتبيه، ويجذبهَ، ويمسحُ على قلبه: فيرى المُنكرَ قبيحاً، ويرى المعروفَ جميلاً؛ فلا يحتاج بعد ذلك إلى مُعاناة من أجل قيام الليل، ولا يجاهد من أجل غض البصر.. فالشاب الذي يتأثر بالنساء، ويريد ورداً كي يأمن من الوقوع في الفتنة؛ هو على شفا حُفرة.. فهذا الإنسان مثله كمن أشعلَ النارَ في البيت، ويبحث عما يطفئها!.. بينما المؤمن لا تشتعلُ في قلبهِ النار لهذهِ الأمور؛ لأن لهُ شغلاً يشغله: فهو يفكرُ في الحكمة، ويفكرُ في كلامِ أمير المؤمنين -عليه السلام-: (اِلـهي!.. هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ إِلَيْكَ).. فإذا وصل إلى سن الخمسين والستين ولا زالَ يجاهد فتنة النساء؛ فمتى يتفرغ للمقامات العُليا؟!.. بعض الشباب المُراهقين بسبب حضورهم المساجد والمجالس، وصلَ إلى درجة أنه لم يعد له مشكلة مع فتنة النساء؛ إنما مشكلته في الهواجس الصلاتية، وفي الصلاة الخاشعة.. هذا هو همه، وليسَ كيف يترك النساء!..
فإذن، إن الإنسان في هذهِ الأربعينية، يترك المعاصي بكُلِ صورها، حتى التفكير بالحرام.. فالمؤمن الذي يفرغُ عن فعل الحرام أولاً، ويفرغُ عن التفكيرِ في الحرام ثانياً؛ فإنه يصلُ إلى درجةٍ يُريد أن لا يغفل عن رَبهِ طرفة عين.. فإذا انشغلَ في حديثٍ ساهٍ لاهٍ -مثلاً-، فإنه يرجع للمنزل وهو كئيب كأنّهُ ارتكبَ ذَنباً، وكأنّهُ تكلمَ حراماً، رغم أنه لم يقل شيئاً، ولكن اللغو عندهُ كالحرام.. وإن نظر إلى بيوت المُترفين، وتمنى في قلبهِ مثلَ بيوتهم؛ يشعر كأنّهُ نَظرَ إلى أجنبية؛ فيستغفر اللهَ -عَزَ وجل-، ويتذكر قوله تعالى: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، أي ما لكَ ومتاع الآخرين؟!.. بينما البعضُ يذهب إلى المجالس والدواوين، فينظر يميناً وشمالاً وهو مبهور بالفرش والصبغ والديكور!.. المؤمن لا تُغريه هذه الأشياء؛ يقول أمير المؤمنين -عليه السلام- في وصف المؤمن: (…قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلّى عن الهموم إلاّ همَّاً واحداً انفرد به)؛ هذه هو وصف الأتباعَ والمحبين!..
تنبيه: إن الإنسان الذي يرى رُقياً في نفسه، عليه أن لا يذكر ذلك أمام الناس تبجحاً وعُجباً؛ لأن هذا يسقطه نحوَ الهاوية.. ولكن إن سأل أخاً في الله، عالماً خَبيراً عن هذهِ العوارض النفسية؛ فلا بأس!.. فالإنسان الذي يرى اطمئناناً في قلبه، أو حالةً نفسيةً جيدة، أو كُشفَ له شيء من الغطاء، ولا يعلم أنّهُ رحماني أو شيطاني؛ فليسأل من باب المعرفة، لا من باب العُجبِ والرياء!..
الدروس المستفادة من ثورة الحُسين -عليهِ السلام-:
أولاً: الأبديةِ والخلود.. إن رَب العالمين حَريصٌ على عباده، وهو الخَبير، وهو القوي؛ ويرى كل ما يجري في هذه الأمةِ من أحداث.. لذا علينا أن نعلم أنَ اللهَ -عزَ وجل- يكتبُ الخلود لأوليائه الصالحين، فأحدنا يعيش ستين سنة منَ الحياة، ليستقبل بها الأبدية، وما أدراك ما الأبدية!.. إنها حقيقة مذهلة!.. فالإنسان يموت لكي يبقى حياً، وخطاب رب العالمين لأهل الجنة: (من الحي الذي لا يموت، إلى الحي الذي لا يموت)؛ طبعاً بإذن اللهِ -عزَ وجل-، تلكَ حياةٌ ذاتية وهذهِ عَرضية.. فمن أرادَ أن يكتسبَ الخلود والأبدية، فليكن على نهجِ الحُسينِ -عليهِ السلام-؛ أي يعطي وجودهَ للهِ -عزَ وجل- ليتولى تربيته!..
ثانياً: الجامعية.. إن الإنسان المؤمن لابد أن يكون معتدلاً في حياته، فبعض الناس -مع الأسف- يعيش حالة تذبذبية: تارة يُصبح إنساناً اجتماعياً، فيرشح نفسه للمجالس النيابية -مثلاً- ويجمع حوله الأنصار والأعوان والمريدين.. وتارة يُصاب بخيبة أمل، فيتقوقع في المنزل.. أي ليست لهُ وتيرة ثابتة في الحياة، وهذا التذبذب حالة غير طيبة!.. فالإنسان يجب أن يكون متوسطاً، ويقسم وقته: في الليل يكون عابداً، وفي النهار يقضي حوائجَ الناس، كما في وصف المتقين للإمام علي -عليه السلام-: (أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم، تالون لأجزاء القرآن ترتيلاً،… فأمّا نهارهم: فحكماء بررة، علماء أتقياء).. أحد العلماء الكبار لهُ كلمة جميلة، يقول فيها: في الليل إصعد إلى العرش، وفي النهار إنزل إلى الفرش!.. أي في الليل لتكن لكَ خلوة معَ رب العالمين، ولا داعي لأن تتصومع عشرات السنين، فلا يراكَ أحد.. فالحُسين -عليهِ السلام- لهُ خلواتهُ في الليل، وفي مثل هذه الأيام طَلِبَ مُهلة ليعبدَ اللهَ -عَزَ وجل- ليلة إضافية من حياته.. عندما بعث العباس ليفاوضهم في تأجيل القتال قال له: (ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غد، وتدفعهم عنا العشية.. لعلنا نصلي لربنا الليلة، وندعوه، ونستغفره.. فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار).. وأصحاب الحسين -عليه السلام- ليلة العاشر من محرم، كانَ لهم دويٌ كدوي النحل من شدة العبادةِ، وتلاوة القرآن، والصلاة بينَ يدي اللهِ عزَ وجل، (وبات الحسين وأصحابه تلك الليلة، ولهم دويّ كدويّ النحل: ما بين راكع وساجد، وقائم وقاعد).. ولكن لما طَلعت عليهم شمس يوم عاشوراء، أصبحوا كالأسود الضارية.. فإذن، إن المؤمن يكون متوازناً في كل أعماله، وكذلك عندَ النهي عن المنكر، وعندَ الأمر بالمعروف؛ فهذهِ هيَ الجامعية التي نريدها.
ثالثاً: الاطمئنان.. إن الاطمئنان بلغ بأصحاب الإمام الحسين -عليه السلام- أنهم في يوم عاشوراء، أو في ليلة عاشوراء، كانوا يتمازحون، (فجعل برُير يضاحك عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن: يا بُرير أتضحك؟.. ما هذه ساعة باطل، فقال برير: “لقد علم قومي أنني ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، وإنما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه.. فو الله!.. ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم ساعة، ثم نعانق الحور العين”).. هذا الاطمئنان لهُ قيمة كُبرى في حياة الإنسان، لذا المؤمن يسأل اللهَ -عز وجل- قائلاً: (اللهم!.. حاجتي إليك التي إن أعطيتنيها لم يضرني ما منعتني، والتي إن منعتنيها لم ينفعني ما أعطيتني..).. فالإنسان إن كان فقيراً، وجائعاً، وبلا مأوى، أو في السجن؛ ولكنَ قلبه مطمئن بذكر الله؛ فهو كنف الله، وفي رحاب الله -عز وجل-.. وأما فرعون صاحب الأهرامات، وأمثاله من أصحاب النعيم؛ فهؤلاء يعيشونَ في قصور، ورزقهم يكفيهم إلى آخر عمرهم؛ ولكنهم يعانون من الاكتئاب والقلق، و..الخ.. فإذن، علينا أن نتعلم درس الطمأنينة من أصحاب الحُسينِ -عليهِ السلام-.
الخلاصة:
١. أننا إنما نحضر مجالس الحسين –عليه السلام-، ونُقيم عزاءهُ، ونبكي عليه؛ لأنَ ولي اللهِ قُتلَ مظلوماً، غَريباً، شهيداً، فالأمرُ يعودُ إلى اللهِ -عَزَ وجل- أولاً وأخيراً.
٢. أن على المؤمن في كل سنة أن يتخذ أربعينية من مقتل الإمام إلى أربعينيته؛ يكون شعاره فيها: أربعينية التطهير والتطهر!.
٣. أن القلب الحَزين برزية الحُسين -عليهِ السلام- هو قلب مؤمن، وحي، ولا يمكن أن يموت أبداً!.
٤. أن من أول الوظائف في هذه الأربعينية ترك التوغل في الشهوات بمختلفِ أنواعها وإن كانت محللة؛ لأنه من موجبات انغلاقِ الدروب الباطنية.
٥. أن من دواعي التأسي بأصحاب سيد الشهداء -عليه السلام- المحافظة على الصلاة في أول وقتها، فهم الذين كانوا في يومِ عاشوراء يقاتلون وعيونهم على السماء، يراقبون الشمس، وينتظرون الزوال.
٦. أن السيدة زينب -عليها السلام- تلك المرأة الأولى في تاريخ الوجود، التي وقع عليها من شدة المحنِ والمصائب ما لم يقع على مثلها، و رغم ما مر عليها في ذلك اليوم؛ لم تترك صلاة الليل!.
٧. أن الإنسان بعدَ العاشر من محرم، يشعر وكأنّهُ استحمَ في نَهرٍ جار، فيرى: نُوراً في باطنه، وأريحيةً في سلوكه، وطهارةً في نفسه، ويخرج طاهرا مطهرا؛ لذا عليه أن يغتنم هذهِ الأربعينية للمحافظة على هذا النقاء .
٨. أن الذي يصدق في نيته في هذه الأربعينية، ويفرغُ عن فعل الحرام أولاً، وعن التفكيرِ في الحرام ثانياً؛ يصلُ إلى درجةٍ يُريد أن لا يغفل عن رَبهِ طرفة عين، عندئذ رَب العالمين يجتبيه، ويجذبهَ، ويمسحُ على قلبه: فيرى المُنكرَ قبيحاً، ويرى المعروفَ جميلاً.
٩. أن من أرادَ أن يكتسبَ الخلود والأبدية، فليكن على نهجِ الحُسينِ -عليهِ السلام-؛ أي يعطي وجودهَ للهِ -عزَ وجل- ليتولى تربيته!
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.