- ThePlus Audio
دروس الحركة الحسينية
بسم الله الرحمن الرحيم
حدود التقوى
على الرغم من أن حياة أئمتنا (ع) هي حياة مثالية وهم الذين جسدوا خلافة الله عز وجل في أعلى صورها؛ إلا أن ذلك لا يعني عدم التأسي بهم في جميع نواحي الحياة، وقد قال سبحانه في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)[١] وقال عز من قائل: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[٢]، ولم تحدد الآيات الشريفة سقفا معينا لتقوى الله عز وجل والجميع يعلم كيف يُتقى الله عز وجل حق تقاته!
دور السيدة زينب في تكميل المسيرة الحسينية
ولقد كان الإمام الحسين (ع) يعلمنا كيف نحقق طاعة الله عز وجل ونكون من المتقين في هذه الحياة. وإلى جانبه السيدة زينب (س) التي كانت تقود الركب الحسيني هذه اللبوة من ذلك الأسد الهزبر أمير المؤمنين (ع). وقد قيل: أن الإسلام محمدي الحدوث حسيني البقاء، وأنا أقول: أن هناك مثلث أو هرم مبارك رأس هذا الهرم هو النبي الأكرم (ص) وقاعدتاه في إبقاء الدين هما الإمام الحسين (ع) والسيدة زينب (س). وهنيئا لهذه المرأة التي كانت بحق زين أبيها وكانت قائدة مسيرة الأسر من كربلاء إلى الشام على الرغم من وجود إمام زمانها السجاد (ع) وارث علم الأولين والآخرين ووصي الحسين (ع) إلى جانبها، فلقد كان لها دورا قياديا رياديا، والذي نقل من خطبها في مجالس الطغاة أمثال ابن زياد ويزيد لم يقل عما قاله الإمام السجاد (ع). ويمكن القول: أن مسيرة الحسين (ع) لم تكن لتكتمل لولا الموقف العظيم للسيدة زينب (س) ولولا حضورها المبارك وكلماتها الخالدة الباقية.
ونحن أتباع أهل البيت (ع) ومحبيهم لا ينقصنا شيء في عالم المقتضي؛ فالدين واحد وهو الإسلام والمذهب باعتباره فرع من فروع الإسلام هو مذهب أهل البيت (ع). والتشيع هو الرؤية الصحيحة للإسلام ونحن نتبع اثني عشر إماما؛ فلسنا من الزيدية ولا الإسماعيلية. ونقيم مجالس أهل البيت (ع) ونحيي ذكرهم ونحضر المساجد والمآتم في كثير من الأحيان إلا أن الموانع كذلك كثيرة. ولو استطعنا أن نرفع هذه الموانع لأمكننا التحليق في أجواء واسعة من سماء المعرفة والمعنى. وكما تكثر المواسم العبادية من شهررمضان ومواسم الحج وغيرها كذلك تكثر الموانع التي يواجهها الإنسان وقد قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)[٣].
التبري التوحيدي..!
وقد يكون الموالي لأهل البيت (ع) شديد الولاء والحب لهم ويبكي على مصيبة الحسين (ع) وما ألم به؛ إلا أنه لا يتبرأ من أعدائه. وليس شيعي من لا يجمع في نفسه التولي والتبري. والأمر كذلك في السير إلى الله عز وجل؛ إذ على السالك أن يجمع بين التوحيد والتبري من كل شيء يشغله عن الله عز وجل، ولنعم ما قال الإمام السجاد (ع) في إحدى مناجاته: (وَاَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّة بِغَيْرِ ذِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ راحَة بِغَيْرِ اُنْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ سُرُور بِغَيْرِ قُرْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ شُغْل بِغَيْرِ طاعَتِكَ)[٤]. وكلمة لا إله إلا الله هي بين النفي والإثبات أو بين التبري والتولي فقولك لا إله يمثل التبري من كل شيء سواه وقولك: إلا الله يمثل التولي. وكثيرا ما نعاني من ضعف كبير في التبري التوحيدي!
من دروس الثورة الحسينية
من الدروس التي نستفيدها من حياة الحسين (ع) هي الثبات على المبدأ. إذا فقد الإنسان المبدأ والعقيدة يصبح بلا فائدة في هذه الحياة وهو أشبه شيء بالزئبق الذي لا يستفاد منه في الطبيعة بالمقدار الذي يستفاد من الحديد والفولاد وما شابه ذلك؛ لأنه لا قوام له ولا يحبس في قالب. والمؤمن الذي لا مبدأ له يميل مع كل ريح ويتبع كل ناعق وهو بلا ريب لا يكون حسينيا أبدا. لقد قال الحسين (ع) ليزيد كلمة قل من يتأمل فيها وهي كلمة رغم قصرها تبين مبدأ الحسين (ع) وهي قوله: (مِثْلِي لاَ يُبَايِعُ مِثْلَهُ)[٥]؛ فلم يقل (ع): الحسين بن علي لا يبايع يزيد بن معاوية وإنما قال مثلي لا يبايع مثله وبذلك رسم للمسلمين خارطة يسيرون عليها؛ فإلى قيام الساعة لا يبايع أمثال الحسين (ع) أمثال يزيد وهما خطان لا يلتقيان أبدا، ولقد كان السجاد (ع) في زمانه يمثل خط الحسين (ع) ويمثل هشام خط يزيد، وفي زمان موسى بن جعفر (ع) كان الإمام يمثل الحسين (ع) ويمثل هارون خط يزيد وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرضا (ع) والمأمون وقس على هذا. وقد قيل: أن كل يوم عاشوراء وكل أرض وكربلاء ونضيف إليها وكل طاغية يزيد، والمؤمن قد يجامل ويحاول التخلص من بعض الضغوط ولكنه لا يبايع إلا الله ورسوله والمؤمنين من بعده، ولا زال صوت الحسين مدويا: (فَإِنِّي لاَ أَرَى اَلْمَوْتَ إِلاَّ سَعَادَةً، وَ اَلْحَيَاةَ مَعَ اَلظَّالِمِينَ اَلْبَاغِينَ إِلاَّ بَرَماً)[٦].
الاستقامة في الهدف
ومن الدروس التي نتعلمها من الحسين (ع) الاستقامة في الهدف؛ فقد كان (ع) مستقيما في هدفه منذ خروجه من المدينة رغم ما تحمله من أنواع الصعاب والشدائد التي كانت تترى عليه. والطريق إلى الله عز وجل طريق شائك محفوف بالمكاره كما حفت النار بالشهوات؛ فالذي يريد أن يحقق العبودية لله عز وجل ينبغي له ان يبتعد عن الشهوات ويدع الاسترخاء والتكاسل جانبا فإن لم يفعل فلا يظنن أنه على طريق الحسين (ع)؛ فالاستقامة تحتاج إلى مجالدة وتحمل المشاق وكما قال الشاعر:
ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ[٧]
عاقبة الظلم ونهاية الباطل
ومن الدروس التي نستفيدها أن الظلم عاقبته وخيمة ومدمرة وأن الباطل زاهق لا محالة قصر الزمان أو طال، وكما قال أمير المؤمنين (ع): (وَلَئِنْ أَمْهَلَ اَلظَّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ وَهُوَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ وَبِمَوْضِعِ اَلشَّجَا مِنْ مَسَاغِ رِيقِهِ)[٨]، ولنعم ما قالت السيدة زينب (س) في مجلس الطاغية: (وَلَقَدْ خَابَ اَلسَّعْيُ، وَتَبَّتِ اَلْأَيْدِي، وَخَسِرَتِ اَلصَّفْقَةُ، وَبُؤْتُمْ بِغَضَبٍ مِنَ اَللَّهِ «وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ»)[٩]. لقد قتلوا الحسين (ع) لكي تفرغ لهم ساحة الملك ولكي يتصرف يزيد كيفما يحب ويرضى ولكن نهايتهم كانت أفجع بكثير من نهاية بني العباس، فكانوا يبحثون عنهم تحت كل حجر ومدر وكان يوضع أحدهم في جلد حمار ويحرق، وأما ثورة مختار وما فعل بهم فغنية عن البيان.
وهذا الذي نزل ببني أمية لم يكن إلا نتاجا طبيعيا لظلمهم وطغيانهم في قتل الحسين بن (ع) وأصحابه. وينبغي أن يعلم ذلك كل ظالم حتى الذي يظلم نفسه وأهل بيته وأرحامه وأصدقائه أن نهاية ظلمه ستكون نهاية غير محمودة، ولقد قال سبحانه: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ)[١٠]؛ أي عاقبة الذنوب صغيرها وكبيرها هو الانحراف الفكري والعقدي. ولذلك إن أخوف ما يخاف عليه في آخر الزمان هو الانتكاس الفكري، فمن منا يضمن نفسه أن تبقى موالية لأهل البيت (ع)؟ هذا والتاريخ ينقل لنا عشرات النماذج من رجال الدين أو المتشبهين بهم ممن انحرفوا انحرافا قبيحا في القول والعمل وأنكروا الضروريات والبديهيات. وبما أن الله عز وجل لطيف بعباده المؤمنين يعجل لهم بعض العقوبات في الدنيا فإذا ما أصاب الإنسان بلية حتى وإن كانت خدشا بسيطا أو حرمانا من عمل فليراجع نفسه ويرى هل تجاوز حدا من حدود الله عز وجل أو هل كسر قلبا من قلوب العباد؟
تراكم الانحرافات وعاقبة المعاصي
ومن دروس عاشوراء أن تراكم الانحرافات الصغيرة تنتهي بالإنسان إلى انحرافات كبيرة؛ فعندما خاطبت السيدة زينب (س) أهل الكوفة: (يا أهل الكوفة..وَيْلَكُمْ! أَ تَدْرُونَ أَيَّ كَبِدِ لِمُحَمَّدٍ فَرَيْتُمْ، وَ أَيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكْتُمْ، وَأَيَّ كَرِيمَةٍ لَهُ أَصَبْتُمْ «لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا `تَكٰادُ اَلسَّمٰاوٰاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ وَ تَخِرُّ اَلْجِبٰالُ هَدًّا»)[١١] وهو المجتمع الذي كانوا في الأمس من جنود أمير المؤمنين (ع) وخاضوا معه معاركه في أيام الجمل وصفين ونهروان، وهم الذين كانوا يأتمون بالإمام (ع) في مسجد الكوفة وهم الذين ذرفوا الدموع على استشهاد أمير المؤمنين (ع). وقد وصل الأمر بهم أن يهللوا ويفرحوا يقتل الحسين بن علي (ع)؛ فقد عرف استشهاده من زلال أصاب الأرض ومن الأصوات التي تعالت فرحا وسرورا من معسكر يزيد. وشمر بن ذي الجوشن واحد من هؤلاء الذين كانوا بالأمس من جنود الإمام أمير المؤمنين (ع) وحتى اللعين ابن ملجم؛ فليحذر الإنسان مغبة تراكم المعاصي.
التسليم والفرح بقضاء الله عز وجل حلوه ومره..!
ومن دروس عاشوراء التسليم لقضاء الله عز وجل. لقد كان مقتل الحسين (ع) وأسر أهل بيته في كفة ومواقفهم النفسية والمعنوية التي أكسبتهم الخلود في كفة أخرى. ولو أمكننا أن نطلع على قلب الحسين (ع) لرأيناه محبا لقضاء الله عز وجل كما كان يوسف الصديق من قبل. إن سر خلود يوسف (ع) لم تكمن في مقاومته لزليخا فقط فليوسف في هذا المجال حتى في يومنا هذا نظراء كثر يجتنبون الوقوع في هذه المعاصي ولكنهم ليسوا كيوسف الذي قال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)[١٢]. لم يقل يوسف (ع) السجن أفضل لي أو أصلح لحالي؛ بل قال إن السجن – والذي يقال أنه كان تحت الأرض كما هو المعروف عن السجن الذي ينسب إليه في مصر – بضيقه ووحشته ومجالسة الهوام في باطن الأرض أحب له من الجلوس مع زليخا في تلك الحال التي لا يرضاها سبحانه. ولقد كان الحسين (ع) صاحب هذا المنطق الذي كان يرى قتل الرضيع وعلي الأكبر والعباس (ع) وسبي نساء النبوة – التي كابدن من الأسر ما لم يكابده أحد ممن تعرض للأسر من نساء الملوك والأمراء – أحب له من المكوث عند قبر جده في المدينة المنورة والعبادة هناك إلى جانب من بقي منهم من أمثال محمد بن الحنفية وغيرهم من بني هاشم.
وهكذا كان منطق السيدة زينب (س) التي كان ترى أن ما أصابها من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة التي اقشعرت لها أظلة العرش (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[١٣]. وينبغي لنا التأسي بالسيدة زينب (س) وأن نفرح بقضاء الله عز وجل وقدره لا أن نصبر ونتحمل فقط.
ومن الدروس التي نستفيدها من واقعة عاشوراء هي أن القلوب بيد الله عز وجل وهو الذي يتصرف بها كيف يشاء فإذا كان المرء يحب أن يشيع الصلاح في مجتمعه وكان صادقا في مسيرته وفي منطقه فإن الله سبحانه يلين له القلوب كما لين سبحانه الجبال لداوود يسبحن معه والطير، أفهل تراه عاجزا أن يلين لك قلب زوجتك وولدك وأصدقائك وأرحامك؟ هذا بالطبع إن كنت أنت الأسوة الصالحة لهم والصادقة معهم. وكم كان عدد النصارى الذين مالت قلوبهم إلى الحسين (ع) وتأثروا بمصيبته؛ بل مالت إلى رأسه الشريف وهم لم يكونوا يعرفوه من قبل؟
ومن دروس عاشوراء العزة الإيمانية التي تجلت أكثر ما تجلت في كلام العقيلة (س) أمام الطاغية ابن زياد عندما قالت له وهي أمرأة أسيرة كسيرة قد أبيد أهلها ونال منها الأسر والسبي ما نال وهي مع ذلك منهكة متعبة بعد أن تجاسر عليها بالكلام: (اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَطَهَّرَنَا مِنَ اَلرِّجْسِ تَطْهِيراً إِنَّمَا يَفْتَضِحُ اَلْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ اَلْفَاجِرُ وَهُوَ غَيْرُنَا)[١٤]، وأما كلامها أمام يزيد الطاغية الجبار وقولها (س): (لَئِنْ جَرَّتْ عَلَيَّ اَلدَّوَاهِي مُخَاطَبَتَكَ إِنِّي لَأَسْتَصْغِرُ قَدْرَكَ وَأَسْتَعْظِمُ تَقْرِيعَكَ وَأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيخَكَ)[١٥] لخير دليل على عزتها وعنفوانها ورباطة جأشها وعلو مقامها وكذلك قولها: (أَلاَ فَالْعَجَبُ كُلُّ اَلْعَجَبِ لِقَتْلِ حِزْبِ اَللَّهِ اَلنُّجَبَاءِ بِحِزْبِ اَلشَّيْطَانِ اَلطُّلَقَاءِ)[١٦].
الخلود وبقاء الذكر
ومن دروس عاشوراء الخلود وبقاء الذكر. وهو ما تنبأت به السيدة زينب (س) عندما قالت مخاطبة الطاغية يزيد: (فَكِدْ كَيْدَكَ وَاِسْعَ سَعْيَكَ وَنَاصِبْ جُهْدَكَ فَوَ اَللَّهِ لاَ تَمْحُو ذِكْرَنَا وَلاَ تُمِيتُ وَحْيَنَا وَلاَ تُدْرِكُ أَمَدَنَا)[١٧]، وخير شاهد على ذلك حديثنا عنها بعد تلك السنين المتطاولة. وكلما كان الإنسان مخلصا في عمله ودعوته يكتسب مثلهم الخلود والذكر الجميل. لقد كان الشيخ الأنصاري من كبار فقهائنا وعلمائنا وقد بقي ذكره خالدا من خلال ابنته فقد حرم من الذرية الذكور وكثير من علمائنا الذين لم يكونوا من عوائل مرموقة فقد كان كثير من آبائهم إما مزارعين أو تجارا أو ما شابه ذلك ولقد كان الشيخ الأصفهاني المعروف بـ الكمباني أباه تاجرا من التجار وبإمكاننا أن ندعوا الله عز وجل ونقول: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[١٨] عسى أن يرزقنا الله عز وجل من تقر به عيوننا من الأولاد والأزواج.
وينبغي للمؤمن أن يذكر الركب الحسيني وما ألم به إذا أراد النوم على فراشه الوثير أو أراد أن يستظل بمكان بارد أو يشرب شربة سائغة هنيئة، ذلك الركب الحسيني الذي اجتمعت عليه ثلاث مصائب كبيرة؛ المصيبة الأولى فقدهم للحسين (ع) وعظم هذه المصيبة على السيدة زينب (س) خصوصا، تلك السيدة التي كان شرطا من شروط زواجها بعبدالله بن جعفر أن لا يفرق بينها وبين أخيها الحسين (ع) وكأنها أرادت أن تأخذ إذنا عاما للخروج من المنزل متى ما أرادت للنظر إلى جمال الحسين (ع) والتزود منه فقد فقدت جدها وأبيها وأمها وأخيها الحسن ولم يبقى إلا الحسين بقية الطاهرين من أهل البيت (ع) وهي التي رأت كلما جرى في كربلاء بخلاف بعض النسوة التي كان يمكثن في الخيام.
وأما المصيبة الثانية فهي الضغوط النفسية التي تعرض لها الأسراء؛ فكيف يكون حال امرأة تدخل إلى عاصمة أبيها أمير المؤمنين (ع) وهي أسيرة كسيرة وهي حالة عظمت على الله ورسوله؟ يقول الراوي عن تفاصيل هذا الدخول: (فَبَيْنَمَا أَنَا وَاقِفٌ وَاَلنَّاسُ يَتَوَقَّعُونَ وَصُولَ اَلسَّبَايَا وَاَلرُّءُوسِ إِذْ قَدْ أَقْبَلَتْ نَحْوَ أَرْبَعِينَ شُقَّةً تُحْمَلُ عَلَى أَرْبَعِينَ جَمَلاً فِيهَا اَلْحُرَمُ وَاَلنِّسَاءُ وَأَوْلاَدُ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ وَإِذَا بِعَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى بَعِيرٍ بِغَيْرِ وِطَاءٍ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَماً وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَبْكِي… صَارَ أَهْلُ اَلْكُوفَةِ يُنَاوِلُونَ اَلْأَطْفَالَ اَلَّذِينَ عَلَى اَلْمَحَامِلِ بَعْضَ اَلتَّمْرِ وَ اَلْخُبْزِ وَ اَلْجَوْزِ فَصَاحَتْ بِهِمْ أُمُّ كُلْثُومٍ وَ قَالَتْ يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ إِنَّ اَلصَّدَقَةَ عَلَيْنَا حَرَامٌ وَ صَارَتْ تَأْخُذُ ذَلِكَ مِنَ أَيْدِي اَلْأَطْفَالِ وَ أَفْوَاهِهِمْ وَ تَرْمِي بِهِ إِلَى اَلْأَرْضِ قَالَ كُلُّ ذَلِكَ وَ اَلنَّاسُ يَبْكُونَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ أَطْلَعَتْ رَأْسَهَا مِنَ اَلْمَحْمِلِ وَ قَالَتْ لَهُمْ صَهْ يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ تَقْتُلُنَا رِجَالُكُمْ وَ تَبْكِينَا نِسَاؤُكُمْ فَالْحَاكِمُ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ اَللَّهُ يَوْمَ فَصْلِ اَلْقَضَاءِ فَبَيْنَمَا هِيَ تُخَاطِبُهُنَّ إِذَا بِضَجَّةٍ قَدِ اِرْتَفَعَتْ فَإِذَا هُمْ أَتَوْا بِالرُّءُوسِ يَقْدُمُهُمْ رَأْسُ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ هُوَ رَأْسٌ زُهْرِيٌّ قَمَرِيٌّ أَشْبَهُ اَلْخَلْقِ بِرَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ لِحْيَتُهُ كَسَوَادِ اَلسَّبَجِ قَدِ اِنْتَصَلَ مِنْهَا اَلْخِضَابُ وَ وَجْهُهُ دَارَةُ قَمَرٍ طَالِعٍ وَ اَلرُّمْحُ تَلْعَبُ بِهَا يَمِيناً وَ شِمَالاً فَالْتَفَتَتْ زَيْنَبُ فَرَأَتْ رَأْسَ أَخِيهَا فَنَطَحَتْ جَبِينَهَا بِمُقَدَّمِ اَلْمَحْمِلِ حَتَّى رَأَيْنَا اَلدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ قِنَاعِهَا)[١٩]
ومن صور العذاب النفسي أن يكون حرم رسول الله (ص) محط أنظار القريب والبعيد، فقد روي عن أحد أصحاب النبي (ص) أنه رأى الركب الحسيني فقال لأحد النسوة: (يَا جَارِيَةُ مَنْ أَنْتِ فَقَالَتْ أَنَا سُكَيْنَةُ بِنْتُ اَلْحُسَيْنِ فَقُلْتُ لَهَا أَ لَكِ حَاجَةٌ إِلَيَّ فَأَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ مِمَّنْ رَأَى جَدَّكِ وَسَمِعْتُ حَدِيثَهُ قَالَتْ يَا سَعْدُ قُلْ لِصَاحِبِ هَذَا اَلرَّأْسِ أَنْ يُقَدِّمَ اَلرَّأْسَ أَمَامَنَا حَتَّى يَشْتَغِلَ اَلنَّاسُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَلاَ يَنْظُرُوا إِلَى حَرَمِ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)[٢٠].
وهناك رواية أخرى تدل على مبالغة أعداء الدين في تعذيب الأسر نفسيا فقد روي: (..فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ دِمَشْقَ دَنَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ مِنْ شِمْرٍ وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فَقَالَتْ لَهُ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ فَقَالَ مَا حَاجَتُكِ قَالَتْ إِذَا دَخَلْتَ بِنَا اَلْبَلَدَ فَاحْمِلْنَا فِي دَرْبٍ قَلِيلِ اَلنَّظَّارَةِ وَتَقَدَّمْ إِلَيْهِمْ أَنْ يُخْرِجُوا هَذِهِ اَلرُّءُوسَ مِنْ بَيْنِ اَلْمَحَامِلِ وَيُنَحُّونَا عَنْهَا فَقَدْ خُزِينَا مِنْ كَثْرَةِ اَلنَّظَرِ إِلَيْنَا وَنَحْنُ فِي هَذِهِ اَلْحَالِ فَأَمَرَ فِي جَوَابِ سُؤَالِهَا أَنْ يُجْعَلَ اَلرُّءُوسُ عَلَى اَلرِّمَاحِ فِي أَوْسَاطِ اَلْمَحَامِلِ بَغْياً مِنْهُ وَكُفْراً وَسَلَكَ بِهِمْ بَيْنَ اَلنُّظَّارِ عَلَى تِلْكَ اَلصِّفَةِ حَتَّى أَتَى بِهِمْ بَابَ دِمَشْقَ فَوَقَفُوا عَلَى دَرَجِ بَابِ اَلْمَسْجِدِ اَلْجَامِعِ حَيْثُ يُقَامُ اَلسَّبْيُ)[٢١]، وقد جعل الرماح في أوساط المحامل وفيهم الأطفال الصغار وأيتام الحسين، وكم أثرت الشمس على وجوههم الشريفة حتى تغيرت ألوانها صلوات الله عليهم أجمعين.
[٢] سورة التغابن: ١٦.
[٣] سورة التوبة: ٣٨.
[٤] الصحيفة السجادية: مناجاة الذاكرين.
[٥] بحار الأنوار ج٤٤ ص٣٢٤.
[٦] شرح الأخبار ج٣ ص١٥٠.
[٧] أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم الشابي. شاعر تونسي.
[٨] نهج البلاغة ج١ ص١٤١.
[٩] الأمالي (للطوسي) ج١ ص٩١.
[١٠] سورة الروم: ١٠.
[١١] الأمالي (للطوسي) ج١ ص٩١.
[١٢] سورة يوسف: ٣٣.
[١٣] سورة الحديد: ٢٢-٢٣.
[١٤] كشف الغمة ج٢ ص٦٣.
[١٥] اللهوف ج١ ص١٧٤.
[١٦] اللهوف ج١ ص١٧٤.
[١٧] اللهوف ج١ ص١٧٤.
[١٨] سورة الفرقان: ٧٤.
[١٩] بحار الأنوار ج٤٥ ص١١٤.
[٢٠] بحار الأنوار ج٤٥ ص١٢٧.
[٢١] اللهوف ج١ ص١٧٤.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- إن سر خلود يوسف (ع) لم تكمن في مقاومته لزليخا فقط فليوسف في هذا المجال حتى في يومنا هذا نظراء كثر يجتنبون الوقوع في هذه المعاصي ولكنهم ليسوا كيوسف الذي قال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) . لم يقل يوسف (ع) السجن أفضل لي أو أصلح لحالي؛ بل قال أحب.
- من الدروس التي نستفيدها من واقعة عاشوراء هي أن القلوب بيد الله عز وجل وهو الذي يتصرف بها كيف يشاء؛ فقد رأينا كيف كان يهوي الناس إلى الحسين (ع) من المسلمين وغيرهم؛ بل كانوا يتفاعلون من الرأس الشريف وهم لم يعرفوه من قبل..!
- من دروس عاشوراء الخلود وبقاء الذكر. وهو ما تنبأت به السيدة زينب (س) عندما قالت مخاطبة الطاغية يزيد: (فَكِد كَيدَك وَاسعَ سَعيكَ وَناصِب جُهدكَ فَو اَللهِ لا تَمحُو ذِكرَنَا وَلاَ تُميتُ وَحيَنا وَلاَ تُدرِكُ أَمدَنَا) ، وخير شاهد على ذلك حديثنا عنها بعد تلك السنين المتطاولة.