• ThePlus Audio
Layer-5-1.png

خطبة همام وغض البصر

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) في خير ليلتين

ليس من الصدفة أن ترتبط ليلتين من ليالي القدر باسم أمير المؤمنين (ع)؛ ليلة الضربة والتي هي ليلة القدر الأولى وليلة الشهادة والتي هي ليلة القدر الثانية. فيُمكن القول أن ذكر أمير المؤمنين (ع) متداخل مع ليالي القدر. ولهذا يجمع المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها في هذه الليالي بين المناجاة والتوسل والبكاء على أمير المؤمنين (ع).

وإذا أراد أحدنا أن يصل إلى قلب إمام زمانه (عج) ويكسب محبته ودعائه في ليالي القدر، فلابد أن يكثر من البكاء والتفجع على أمير المؤمنين (ع). ولو أن المؤمن لم تجر له دمعة عند قراءة الجوشن وعند رفع المصاحف وبكى عند ذكر أمير المؤمنين (ع)، فلا يستقل تلك الدمعة ولا يظنها دمعة هينة. فلا ينبغي أن تقصر في هاتين الليلتين بحال من الحوال في إظهار التفجع والبكاء على أمير المؤمنين (ع). وإن ما روي: (فَعَلَى مِثْلِ اَلْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ اَلْبَاكُونَ)[١] ينطبق على أبيه أمير المؤمنين (ع) وكذلك ما ورد في دعاء الندبة: (لِمِثْلِهِمْ فَلْتُذْرَفِ اَلدُّمُوعُ وَلْيَصْرُخِ اَلصَّارِخُونَ وَيَضِجَّ اَلضَّاجُّونَ وَيَعِجَّ اَلعَاجُّونَ)[٢]. واعلم أنه من علامات القبول؛ أن تكون من الباكين على أمير المؤمنين (ع) في هاتين الليلتين.

بهذه الطريقة ارتبط بأمير المؤمنين (عليه السلام)

ومن الطرق التي تربطنا بأمير المؤمنين (ع) دراسة خطبه ومواعظه. وإن من أعظم هذه الخطب وأبلغ هذه المواعظ ما تُعرف بخطبة المتقين التي يذكر فيها أمير المؤمنين (ع) قرابة سبع وأربعين صفة وعلامة للمتقين. هل كنت تظن أن خطبة كهذه الخطبة تقرأها في خمس دقائق تحتوي على هذا العدد الكبير من صفات المتقين؟ إذا سنحت لك الفرصة يوما ما، فاكتب هذه الصفات في ورقة بتوجه تام، ثم انظر أي الصفات قد تحققت فيك؟ فإن وجدت صفة متحققة فضع أمامها علامة صح، وإلا فضع علامة الخطأ. إن هذه الخطبة هي مقياس تقيس من خلالها نفسك هل هي من شيعة أمير المؤمنين (ع)؟

نعم، إن البكاء على مصائبهم (ع) وزيارة مشاهدهم من الأمور المستحسنة ولكنها لا تستغرق عدة دقائق أو ساعات؛ ولكن الاتصاف بهذه الصفات التي تلازم الإنسان طول عمره ويكون عليها مدار الشقاء والسعادة لهي من أفضل القربات. لا تكتفي من التدين بالأمور الهينة من إطعام الطعام على حبهم وباسمهم وإنشاد القصائد في مدحهم أو تقديم العزاء لهم وما شابه ذلك من الأمور التي لا تتعدى عالم اللسان والحنجرة وإن كان الدافع من وراء ذلك الحب. إنها أمور لا تكلفك كثيرا كما يُكلفك الاتصفاف بصفات المتقين.

من أي أصحاب الإمام (عجل الله فرجه) تريد أن تكون؟

إننا في زمن الغيبة نطلب من الله سبحانه أن نكون من أنصار إمام زماننا (عج) ومن أعوانه وقد تحقق للبعض هذا المعنى فأصبحوا من الأصحاب والأعوان، ولكن من الموالين من هم في عداد المنتظرين لا الأصحاب والأعوان.  فالناس درجات في نصرة إمام زمانهم (عج). وهكذا كان أصحاب النبي (ص) ففيهم من كان يخفق برأسه في مسجد النبي (ص) فيسأله النبي (ص): (كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا فُلاَنُ فَقَالَ أَصْبَحْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ مُوقِناً فَقَالَ فَعَجِبَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ لَهُ إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ يَقِينِكَ قَالَ إِنَّ يَقِينِي يَا رَسُولَ اَللَّهِ هُوَأَحْزَنَنِي وَأَسْهَرَ لَيْلِي وَأَظْمَأَ هَوَاجِرِي فَعَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ اَلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)[٣] وكان فيهم من هم أدنى درجة. وكذلك كان أصحاب أمير المؤمنين (ع)؛ فكان فيهم أمثال سلمان وعمار والمقداد ورشيد الهجري وفيهم من هو دون ذلك بكثير.

وقد كان من هؤلاء الأصحاب المميزون همام الذي كان عابدا ولم يُقتل مع أمير المؤمنين (ع) في حروبه وإنما قتلته هذه الخطبة. فهو عندما استمع إلى هذه الخطبة وما ورد فيها من الصفات العظيمة، شهق شهقة كانت نفسه فيها. ولا ريب أنه مع الشهداء، فكيف لا يكون معهم وهو الذي مات تحت منبر أمير المؤمنين (ع) شوقا إلى هذه المقامات؟ ولو لم يكن همام من المتقين لم تكن هذه ميتته.

 

لقد كان علي (ع) إمام المتقين وقد طلب منه همام أن يصف المتقين حتى كأنه ينظر إليهم؛ أي لم يكن يريد وصفا عابرا وإنما وصفا مجسما موصفا مبيناً. فقال له (ع): (يَا هَمَّامُ اِتَّقِ اَللَّهَ وَأَحْسِنْ فَ إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[٤]. إنه (ع) أمير البلاغة ولكنه ذكرها بقول الله تعالى؛ فلم يقنع وعزم على الإمام (ع) وطلب منه التفصيل.

التقوى والإحسان يجمعان لك كل خير

والحق أن التقوى محله القلب والإحسان محله الجوارح ومن استطاع أن يكون متقيا محسنا، فقد جمع الخير كله. إن التثوى أن تكون خائفا حذرا كما قال الشاعر:

خلِ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر

ونستطيع أن نشبه المتقي اليوم بالذي يمشي في حقل ألغام والألغام هي الذنوب الموبقة؛ فهو يخشى من اقتراف الذنب وارتكاب المعاصي. المتقي يذهب إلى مجالس البطالين فتكون عينه على البطالين لأنه يخاف أن ينفجر فيه لغم الغيبة أو لغم البهتان والنميمة. ولذا نرى لبعض المؤمنين عادة طيبة، وهي أنه عندما يدعى إلى الإفطار في شهر رمضان يسأل صاحب المنزل عن المدعوين غيره، فإذا رأى فيهم من ليس من أصحاب الورع اعتذر عن الحضور. ومن الأدب أن يطلع الإنسان ضيوفه عن سائر الضيوف، فلعل فيهم من هو عدو لضيف آخر أو فيهم من لا يرتاجح البعض إليه فيبقى مضطربا طوال المجلس. حاول أن تدعو المتجانسين فلا تدعو التجار والزهاد في وقت واحد على سبيل المثال، إذ لا تجد اشتراكا بين من همه التجارة وبين من همه الآخرة.

لا يتسوق إلا في ساعات فراغ السوق

ولذا يختار المؤمن للتسوف الوقت الذي يكون فيه السوق فارغا عادة، لئلا يبتلى بالنظر إلى النساء. وإذا كانت له حاجة يجدها في محل متواضع يشتريها من هناك ولا يذهب إلى المولات التجارية التي يخرج منها بعشرات المعاصي. فتراه يبحث في تلك المولات عن ثوب يشتريه، وإذا به يخرج منها وقد نزع ثوب التقوى…!

إن هذه الأسواق الجميلة زاهية الألوان وكثيرة الأنوار والإضاءات والمحلات الفاخرة التي تعرض الماركات العالمية، إنما مثلها مثل سوق الفحم؛ فإذا دخلت سوق الفحم تساقط عليك غبار الفحم، فتخرج وعلى وجهك وثيابك آثار هذا الغبار الأسود. إنك تخرج كذلك من تلك المولات وقد علاك غبار الآثام التي ارتكبتها. فقد يقول قائل: إنني لم أرتكب ذنبا ولم أحدق في إحداهن، فأقول له: قد تلمح في تلك الأسواق جميلة تنطبع صورتها في ذهنك لا تتخلق منها بسهولة. فتريد أن تقف بين يدي ربك وإذا بهذه الحسناء ماثلة أمام عينيك تمنعك من الخشوع، أو تريد زيارة الحسين (ع) فتزور وأنت غارق في التفكير في هذه الصورة التي لا زالت عالقة في مخيلتك. فلا ينبغي أن تلوم في مثل هذه الحالات إلا نفسك التي ورطتك بالحضور في هذه الأماكن. ولذا نجد من صفات المتقين التي ذكرها أمير المؤمنين (ع) في هذه الخطبة: (غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ)[٥].

مثال من أيام جائحة كورونا على التقوى…!

إننا شهدنا في أيام كورونا كيف كان الإنسان يتقي المرض والوباء من خلال ارتداء الكمامات. إن الناس كلهم كانوا ملتزمين بارتداء هذه الكمامات مع أنها كانت تضيق النفس ولا يتعرف الناس بعضهم إلى بعض من خلال هذه الكمامات التي كانوا يرتدونها منذ الصباح إلى الليل، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك بمحض إرادتهم اتقاء لهذا الوباء.

إذن لابد وأن يكون التقوى ملازما للإحسان؛ إذ ما فائدة التقوى وأنت غير محسن، بل مسيء؟ إن الإحسان على رأس صفات المتقين. فإننا نجد من أفضل الأعمال في شهر رمضان المبارك الذي هو شهر التقوى، أن يمد الإنسان يده بالإطعام إلى إخوانه الفقراء لا الأغنياء تصل أيديهم إلى أفواههم.

ثواب الإفطار في ليالي القدر

إنني سمعت عن أحد المؤمنين أنه يُفطر في ليالي القدر الثلاث عشرة آلاف صائم. فهو يجمع أمواله لكي يُطعم بها المساكين في هذه الليالي التي تتضاعف فيها أجور الأعمال. إن هذا المؤمن لو لم يقم بعمل في هذه الليالي غير هذا الأطعام لكفاه ذلك. إن الإطعام في ليلة القدر كالإطعام في أكثر من ثمانين سنة. ولا يستطيع كل واحد منا أم يُطعم من المساكين هذا العدد الكبير بالطبع ولكن ليدعو المساكين إلى بيته بالمقدار الذي يستطيعه وليقدم لهم طعاما ليكون من المحسنين في هذا الشهر الكريم.

واعلم أن على رأس الإحسان، أن ترد آبقاً إلى باب الله عز وجل. فإذا ما نويت يوما ما زيارة الحسين (ع) من أرض بغداد أو من أرض البصرة أو من أي البلدان كنت، وأنت تعرف أحدا قد يكون ولدك، فيه بوادر الانحراف كأن تكون قد وجدت في جهازه صورا محرمة، فاصطحبه معك في هذه الزيارة وقل: يا أبا عبدالله، التفت إلى ولدي أو إلى أخي أو إلى زوجتي أو إلى المؤمن الذي اصطحبته معي رجاء رحمتك وطلب نائلك. إن من أعظم صور الإحسان، إنقاذ الإنسان من مقطعات النيران. نعم إن وضع الطعام في بطونهم عمل له عظيم الأجر ولكن أن تأخذ يد مؤمن قد أحاطت به الشياطين وتصطحبه معك إلى إمامه (ع)، لهو من أعظم الأعمال.

كبار العاصين عادوا من الأولياء هنا

إن من كبار العاصين من أتى الحسين (ع) وتاب إلى الأبد. إن هذه الزيارة والوقفة أمام الضريح لا تكلفك شيء في مقابل تلك النظرة الولائية إذا من بها عليك الحسين (ع) وأرجعك كما أرجع الحر إلى سواء الصراط. إن هذا المقام لا يُقاس به أعظم الجامعات؛ فهي تصعق وتُكهرب الطالب فيها وتغير الإنسان في لحظة ما تستطيع أن تغير منه الجامعات في عشرات السنوات. كم استغرق جلوس الحسين (ع) عند الحر؟ إنه أتاه قبل الظهيرة بساعات وإذا به يصبح من الشهداء العظام في كربلاء. فلا تفوتك زيارته خاصة لطلب التوبة عنده. للطلب المقامات عليك الذهاب إلى حبيب بن مظاهر شيخ الأنصار، وإذا أردت التوبة فلا تعدو قبر الحر. إذا طلب الحر من المولى أن يعينك على نفسك فقد أتيت طلبتك من بابها. وإذا أردت كل شيء فعليك باب الحسين (ع)، أبي الفضل العباس (ع).

[١] المناقب  ج٤ ص٨٦.
[٢] مفاتيح الجنان.
[٣] المحاسن  ج١ ص٢٥٠.
[٤] نهج البلاغة  ج١ ص٣٠٣.
[٥] نهج البلاغة  ج١ ص٣٠٣.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • ليس من الصدفة أن ترتبط ليلتين من ليالي القدر باسم أمير المؤمنين (ع). فيُمكن القول أن ذكر أمير المؤمنين (ع) متداخل مع ليالي القدر. ولهذا يجمع المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها في هذه الليالي بين المناجاة والتوسل والبكاء على أمير المؤمنين (ع).
  • إن من كبار العاصين من أتى الحسين (ع) وتاب إلى الأبد. إن هذه الزيارة والوقفة أمام الضريح لا تكلفك شيء في مقابل تلك النظرة الولائية إذا من بها عليك الحسين (ع) وأرجعك كما أرجع الحر إلى سواء الصراط. إن هذا المقام لا يُقاس به أعظم الجامعات؛ فهي تصعق وتُكهرب الطالب فيها.
Layer-5.png