Search
Close this search box.
  • ThePlus Audio
Layer-5-1.png
عناوين المحاضرة
عناوين المحاضرة
Layer-5.png
Layer-5-1.png

حياة المعصوم بعد هذه الحياة

بسم الله الرحمن الرحیم

لا فرق بين المعصوم قبل الشهادة وبعدها

لا يختلف المعصوم بعد الشهادة عن المعصوم قبل الشهادة؛ وإنما الفرق بينهما فرق الراكب والراجل. فالمعصوم كان في هذه النشأة راكبا هذا الجسد المادي، ثم انتقل إلى عالم البرزخ بعد أن ترجل عن هذا الجسد. بل ذهب البعض من علمائنا كالشيخ البهاري؛ أن يد الإمام في تلك النشأة مبسوطة أكثر أو على أقل التقادير هي كما كانت عليه في هذه الدنيا. إننا عندما نتحرر من هذا البدن؛ نعيش السعة والحرية والانطلاق؛ حيث تنطلق أرواحنا في عالم البرزخة بسرعة النور. ولكن روح المعصوم تمتلك هذه الخاصية في الدنيا، وانتقاله إلى ذلك العالم لا يقيد ما يملكه من قدرات واختيارات كما أشرنا آنفا إلى ما ورد عن الشيخ البهاري.

هكذا تحدث مع المعصومين (عليهم السلام)

وهذه المعاني ينبغي أن يستحضرها المؤمن في كل زيارة. وقد لخص أحد علمائنا الماضين آداب الزيارة كلها في كلمة: أن تعيش حياة المعصوم. لقد رأيت ذات يوم زائرا يناجي الإمام (ع) بصوت مرتفع وكان يتكلم مع الإمام (ع) وكأنه واقف أمامه، فكان مما قال: يا مولاي، لدي حاجة أريد منك قضائها إن كنت ترى فيها مصلحة، وإلا فلا أريد ولا تنحرج مني، فليست لدي مشكلة إذا منعتنيها لمصلحة لا أعرفها وبحسب تعبيره العرفي: ما أزعل.

وكان الرجل يتحدث مع الإمام (ع) بكل أريحية وكأنه يتحدث إلى صديقه الحميم، فشعرت أنه قد وصل إلى هذا اليقين؛ أنه يخاطب حيا مرزوقا. وهذا ما أجده كثيرا في بعض عوام الزائرين الذين لا يمتلكون ثقافة دينية كبيرة، فهم يخاطبون الإمام (ع) بهذه العفوية التي ينبغي أن نتأسى بهم فيها. ومنهم من يتكلم مع الإمام (ع) بكلمات الحب والود، فقد سمعت عن إحداهن عندما تزور الإمام (ع) لها زيارته المختصرة بعد الزيارات المأثورة طبعا، إذ تقول للإمام (ع) عندما يلح عليها الشوق: إني أحبك يا مولاي، ولا أملك غير هذا الحب. لا بأس بهذه المشاعر التي تخرج من أعماق القلب بصدق.

ولو تأملنا في تائية دعبل الخزاعي التي اكتسب بها الخلود حتى أتاه من اليمن من يطلب منه سماعها منه، لوجدنا أنه أشار إلى هذه المعاني وبيَّن لواعج الحب في أبيات من قصيدته. فهو يذكر هذا البيت قبل أن يقول: أ فاطم، وإنني لأجله كثيرا من أجل هذا البيت:

أحب قصي الرحم من أجل حبكم
وأهجر فيكم زوجتي وبناتي

إن الإمام (ع) ينظر إلى القلوب وما تحتويه. ترى الرجل في الموكب يحب الإمام (ع) حبا جما ويخدم زائريه وله فضله ولكن تجد من يُحب الإمام (ع) أكثر من زوجته وأولاده؛ فهذا مقدم على ذلك. وهذا ما أشار إليه دعبل وقد قال فيما قال:

ألم تراني مذ ثلاثين حجة
أروح وأغدو دائم الحسرات

ما هو المستوى المطلوب في العلاقة بالله وبأهل البيت (عليهم السلام)؟

إن ما ينبغي أن نصل إليه في علاقتنا بأهل البيت (ع)؛ بل في علاقتنا بالله عز وجل، أن يكون الحب هو المحور في هذه العلاقة لا الخوف من جهنم والتعذيب والزقوم والضريع وما شابه ذلك. فأين قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ)[١]؟ هل قال: سألك عني أم عن حوائجي؟ أي أن المطلوب قرب الله سبحانه. ولذلك لم يقل سبحانه: فإني مجيب، وإنا قال: فإني قريب. نعم إنه مجيب في قوله تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ)[٢]. لقد قرأنا الآية آلاف المرات؛ لكننا لم نلتفت إلى ما يريده الله سبحانه منا. إنه يقول: دعوا حوائجكم مبدئياً واطلبوني واطلبوا القرب مني فإني قريب. لا تطلب مني زوجة أو سكنا أو مالا فقط؛ وارتق بالطلبات إلى ما هو أعلى منها.

ماذا تطلب الزهراء (سلام الله عليها) من الله في يوم القيامة؟

ولهذا عندما تدخل الصديقة (س) يوم القيامة وتخاطب رب العالمين يأتيها النداء: (يَا فَاطِمَةُ سَلِينِي أُعْطِكِ وَ تَمَنَّيْ عَلَيَّ أُرْضِكِ فَتَقُولُ إِلَهِي أَنْتَ اَلْمُنَى وَ فَوْقَ اَلْمُنَى)[٣]. إنه يقول لها: ماذا تريدين منا الآن بعد هذه الدنيا العصيبة؟ وهي لا تذكر ظلامتها ولا تذكر من آذى بعلها ولا قتلة أولادها وإنما تقول: أنت المنى وقد حصلت على منيتي. إنني أعتقد بأن كرامات ومناقب الزهراء (س) كلها في كفة؛ وهذه الجملة في كفة أخرى. وهذه المنقبة وأمثالها لا يُنكرها مسلم يحب الله وإن كان ممن يُشكك في ظلامتها؛ فقد بلغت هذه السيدة أعلى درجات القرب من الله عز وجل وهي سيدة نساء العالمين؛ بل سيدة الرجال أيضا.

لماذا تاب الحر؟

ولا ينبغي أن نتعب أنفسنا في إقناع من لا يعتقد بهذه المضامين؛ فالذي لا يريد الاعتقاد لا تنفع معه عشرات الكتب والمحاضرات. وفي المقابل نرى من يمشي في مسيرة الأربعين نحو الحسين (ع) فيتكهرب بالحسين (ع) ويتغير تغيرا كبيرا. لقد كان لموقفين صدرا من الحر الدور الأهم في رجوعه إلى الحسين (ع) وإعلان توبته؛ أحدهما: تأدبه مع الحسين (ع) عندما قال له (ع): ثكلتك أمك. الموقف الآخر: تقدمته الإمام (ع) للصلاة بهم؛ فلا يُعقل أن يصلي المقاتل خلف عدوه وهذا يعني أنه لم يكن يرى الحسين (ع) عدوا. فعندما رأى الحسين (ع) هذه المواقف منه ورأى فيه القابلية جذبه إليه وكهربه إن جاز التعبير.

وكأن الإمام (ع) كان ينتظر قدوم الحر ويبحث عن ذريعة لكي يجذبه نحوه؛ فعندما أتى الحر تائبا وقال: هل لي من توبة؟ سرعان ما احتضنه الإمام (ع) وقبل منه توبته. إنني أعتقد أن من الأسباب التي رزق الله سبحانه من أجلها العباس (ع) لأم البنين (ع) أدبها مع أبناء الزهراء (س). لقد طلبت من أمير المؤمنين (ع) ألا يناديها فاطمة، لكي لا تهيج الحزن في قلوب أبناء الزهراء (ع). ولهذا عندما جاء البشير وقال: يا أهل يثرب لا مقام لكم بها، والتقى بها وأخبرها عن مقتل أبنائها لم تكترث وقالت: أخبرني عن الحسين (ع) وفي هذا أعظم دليل على الحب العميق لهذه السيدة (س) تجاه الحسين (ع).

الرياح الموسمية والرياح المعاكسة

إن ايماننا إيمان متزلزل غير صلب، والسبب هو أننا ننطلق ونندفع نحو الأعمال عاطفيا. إن إيماننا وتفاعلنا يشبه السيارة الخالية من الوقود والتي يدفعها عدة من الناس؛ فمتى ما توقفوا توقفت. إن هذه المواسم العبادية والأجواء التي نعيشها في شهري محرم وصفر هي الدافع الذي نفقده بانتهائها. ولابد من شراء الوقود لكي تعمل السيارة من دون دفع، ونسير بها طوال السنة من دون حاجة إلى الناس والأجواء المساعدة. إن للسفينة محرك ذاتي ولكن الرياح تزيد من سرعتها وكذلك الأمر في الطائرة. قد تصل الطائرة أحيانا أسرع من الوقت المعتاد لأن الرياح تكون خلفها وتدفعها بقوة وإن كانت لها محركها ولكن قد تأتي رياح معاكسة فتصل متأخرة أحيانا وتهتز في الجو. إننا لابد لنا من محرك طوال العام بالإضافة إلى المواسم العبادية كشهر رمضان وشهري محرم وصفر التي تزيد من سرعتنا؛ فإذا ما اهتز الإنسان؛ فلابد أن يبحث عن الرياح المعاكسة.

تأس بالعباس (عليه السلام) في صلابة إيمانه

ولابد من أن يبني الإنسان لنفسه أساسا صلبا وبإمكانه الاعتماد على كتابين أخوين هما تذكرة المتقين وكتاب الطريق إلى الله عز وجل للشيخ البحراني؛ فأحدهما فكري والثاني ذكري أو عشقي إن جاز التعبير. لا بأس أن يشحذ الإنسان نفسه دائما فكرياً تارة وتارة شعورياً. فمن أراد أن يتأسى بالعباس (ع) لابد وأن يكون مثله صلب الإيمان. وإننا نعتقد أن صلابة الإيمان هذه التي كانت عند العباس (ع) لخلواته مع أمير المؤمنين (ع) والحسنين (ع) تدريسا وتفسيرا وتعليما.

ألم يكن ملازما للحسين طول حياته خاصة في آخر أيامه عندما توجه من المدينة إلى كربلاء في الخيمة وفي الطريق وعند المبيت؟ ألم يكن يدور بينه وبين أخيه الحسين (ع) حديث طويل؟ لقد ترى العباس (ع) على يد أمير المؤمنين (ع) والحسنين (ع) وكذلك إمامنا زين العابدين (ع)؛ بل حتى من السيدة زينب (س) الفهمة غير المفهمة؛ فهي أكبر سناً من العباس (ع)، وهي التي ربته. فلا ينبغي أن يستغني الإنسان عن المعرفة أو يحتقر شيئا منها، وهي متاحة اليوم للجميع. وهذان الكتابان اللذان ذكرتهما بإمكان كل واحد منا في دقائق معدودة تنزيلهما من الإنترنت والوصول إلى المعلومات القيمة التي يحتويانها.

أين أنت عن المشاية؟

وإن من الروافد الحضور في مسيرة الحسين (ع) أو المشاية في يوم الأربعين. إن هذه المسيرة ظاهرها أكل وشرب واستراحة ولكن باطنها توقير للحسين (ع) وإحياء لشعائر الله سبحانه. لماذا يرجع الحاج بالجوائز العظيمة؟ هل كل الحجاج مثقفون أو واعون أو عاشقون؟ إن منهم من يأتي من أدغال أفريقيا قبل الموسم بأشهر ويعيشون حياة المتسللين الخائفين على أمل أن يدركوا موسم الحج، والحال أن فيهم من لا يعرف الصلاة حتى. ولذلك يكرمهم الله عز وجل لأنهم جائوا موقرين البيت الحرام. لا تنظر إلى الظواهر وإلى هذا المشي والضحك والأكل والشرب في الطريق، فباطنه إعظام لأمر المعصوم (ع)، وهم يردون الجميل بأضعافه.

الوفاء عادة النبي وآله (عليهم السلام)

كان النبي (ص) يذبح الذبيحة ويوزع اللحم على الفقراء وكان يخص بعض النساء بسهم فيُسئل عن ذلك، فيقول: إنها صديقة خديجة (س)؛ فهو يُكرم صديقتها حبا لها وإكراما لمقامها. إن النبي الأكرم (ص) مظهر اللطف ومظهر الكرم والحسين (ع) كجده النبي (ص). إنه يعتق جارية لأنها أهدته طاقة ريحان، فكيف بمن يشارك في مسيرة يقوى بها الإيمان؟

ولهذا نرى غيض الأعداء الذي يظهر في مواقع التواصل وهو غيض ليس ورائه غيض؛ فهم يحاولون احتقار الزائرين والسخرية منهم ونشر ما يشينهم ولكنهم لن يصلوا إلى ما يريدون. كم ييأس الأعداء عندما يرون المشاركين في هذه المسيرة من الطفل الصغير إلى الشيخ الكبير؟ ولذلك مما أغري به المؤمنين الذين يعيشون في بلاد الغرب وجود هذه المشاهد المشرفة في العراق. إنني أقول لهم: ما إن يشتهي أحدكم زيارة الحسين (ع) يحرك سيارته وإذا به يصل إلى مولاه في غضون ساعة أو أقل، ولكنك بدل ذلك تعيش مثلا في غابة من غابة البرازيل لا تحصل فيها على أي شيء مما ذكرناه.

[١] سورة البقرة: ١٨٦.
[٢] سورة النمل: ٦٢.
[٣] بحار الأنوار  ج٢٧ ص١٣٩.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • لا يختلف المعصوم بعد الشهادة عن المعصوم قبل الشهادة؛ وإنما الفرق بينهما فرق الراكب والراجل. فالمعصوم كان في هذه النشأة راكبا هذا الجسد المادي، ثم انتقل إلى عالم البرزخ بعد أن ترجل عن هذا الجسد. بل ذهب البعض من علمائنا كالشيخ البهاري؛ أن يد الإمام في تلك النشأة مبسوطة أكثر.
  • لابد من أن يبني الإنسان لنفسه أساسا صلبا وبإمكانه الاعتماد على كتابين أخوين هما تذكرة المتقين وكتاب الطريق إلى الله عز وجل للشيخ البحراني؛ فأحدهما فكري والثاني ذكري أو عشقي إن جاز التعبير. لا بأس أن يشحذ الإنسان نفسه دائما فكرياً تارة وشعورياً تارة أخرى.
Layer-5.png