س١/ من المعلوم أنه لابد للسالك من المبالغة في الحرص على حلية المأكل؛ ضمانا لسلامة الروح من آثار الطعام الحرام.. ولكن كيف يمكن للمؤمن أن يوفق بين ذلك الاحتياط، وبين ما جاء في الشريعة من حلية الطعام المشكوك فيه، وجواز تناوله؟..
إن الإيمان على درجات، وطموحات الناس تختلف من فرد إلى فرد.. إن الذي يريد أن يكون بدنه سليما خاليا من الأسقام، فإنه يحتاط احتياطا طبيا، إلى درجة معينة.. ولكن الذي يريد أن يكون من ذوي كمال الأجسام وقوة العضلات، فهذا يحتاج إلى برنامج زيادة عن حفظ الصحة، وهي التمارين، والابتعاد عن ما يأكله عامة الناس، فيحتاج إلى رقابة وحمية غذائية خاصة..
وكذلك في عالم الأرواح، فالبعض يمشي على حافة الشريعة، وعنده كل شيء لك حلال، كل شيء لك طاهر.. ونحن لا ننكر أبدا أن هذا من الشريعة، وأن الذي يتبع هذه الطريقة، يستفيد من المجوزات الشرعية، وصاحبه عادل يصلى خلفه.. ولكن الكلام في من يريد-كما قلنا في مثال حفظ الصحة- تكاملا متميزا، ومن يريد قربا متميزا؛ فمن الطبيعي، أن هذا الإنسان يجتنب عن الشبهات.
إن أمير المؤمنين (ع) عندما أوتي له بطبق من فالوذج لم يأكله، ولم يحرمه.. ولكن كأنه-كما نفهم من الرواية- لا يحب أن يعود نفسه، ما تتوق إليه.. وأراد الإمام بذلك، أن يعلمنا أن المؤمن إذا عرض عليه طعاما شهيا، وهو اشتهى هذا الطعام، فإن مقتضى المجاهدة، أن يرفع يده عن الطعام الشهي..
ولكن هذا في موارد، لا أن الإمام يدعونا لترك الطيبات دائما وأبدا.. فمثلا: إذا إنسان تاقت نفسه إلى قطعة حلوى في مورد، فهنا من المناسب للمؤمن الذي له هدف تكاملي، أن يعود نفسه على ترك بعض ما يشتهيه؛ ولكن من دون عقده في البين، أو وجود ردة فعل، أو انعكاسات سلبية.
وعليه، بالنسبة للمأكل والمشرب، نقول:
إنه بالإضافة إلى الحدود الشرعية، علينا بالاحتياط، وقد ورد (أخوك دينك، فاحتط لدينك)، وخاصة هذه الأيام الذي كثر فيه الحرام.. صحيح، إن سوق المسلمين من أمارات الحلية، ومن موجبات جواز الأكل.. ولكن الإنسان-بعض الأوقات- كأنه يغطي على نفسه الحقائق، فقد تكون له بعض القرائن القطعية على أن هذا مثلا حرام واقعي، أو حتى حرام ظاهري، ولكنه يحاول أن يلبسها بعض العناوين المجوزة!..
إن الذي يريد أن يكون متميزا في سيره إلى ربه، فعليه أن يجتنب الحرام، بشكل أكيد قطعي: الحرام الواقعي، والحرام الظاهري.. أي يحاول أن يجتنب حتى موارد الشبهة، بقدر الإمكان.. ونحن نأتي بقيد (قدر الإمكان)، لئلا نحمل الناس فوق طاقتهم.
س٢/ بقطع النظر عن الطعام الحرام، هل أن الإكثار من الطعام والشراب، أيضا له أثر سلبي على الروح؟..
بلا شك أن الطعام الزائد عن الحاجة، مؤثر على الروح!.. وهذا المضمون يتردد كثيرا في الروايات، فإن الذي يملأ جوفه من الطعام، لا يعطى الحكمة.. وكأن هنالك ندية أو اثنينية بين الحكمة، والإكثار من الطعام والشراب.. فالحكمة التي هي ضالة المؤمن، الحكمة التي أوتيت للقمان، كثيرا ما نرى أن الموجب لها، هو الصمت والجوع.. وكأن الصمت والجوع، سبيلان أساسيان من سبل حيازة الرتب الكمالية العالية.
وبالمعنى الدقيق، إن الذي يأكل فوق الشبع-لا نقول إن هذا المعنى الدقيق حقيقة، فرب العالمين أكرم الأكرمين.. وإنما بمنظار أخلاقي، بمنظار فيه شيء من المراقبة والمحاسبة- كأن هذه الزيادة، يأكلها من دون إذن صاحبها.. فرب العالمين أذن له أن يأكل هذا الطبق، ولكن الزيادة عن هذا الطبق، كأن الله تعالى لا يرضى بذلك..
فالأكل على الشبع منهي عنه، لا بنحو الحرام البين، بل بمعنى النهي العام.. والمؤمن كما أنه يتحسس من الحرام البين، أيضا يتحسس مما لا يرضي الله تعالى، ولو كان في قالب المكروه، ولو كان في قالب ما لا يرضى به الشارع.. هكذا مستوى المؤمن المتميز.
س٣/ ما هي صفة المؤمن المتميز، في طعامه وشرابه؟..
القاعدة العامة: (لا تأكل حتى تجوع، وإذا أكلت لا تشبع).. وأغلب الناس يعرفون هذا المعنى، ولكن في مقام العمل يتقاعسون!.. إن الإنسان المؤمن المتميز، لا يأكل إلا وهو يشتهي الطعام، ولا يقوم إلا وهو يشتهي الطعام.. فهناك اشتهاء للطعام قبل الأكل، من باب الجوع؛ وهناك اشتهاء للطعام بعد الأكل، من باب عدم الشبع، أي عدم التخمة.. فالمؤمن وهو لا زال يشتهي الطعام، يرفع يده من الطعام، فيأكل فقط ما يسد رمقه، ويقيم بدنه، ويذهب عنه ألم الجوع..
بل إن المؤمن لأنه لا يعلم تحديدا المقدار المفروض تناوله، والذي يكفيه، فهو كان يحتاج إلى خمس عشرة لقمة مثلا، وزاد على ذلك، فلأنه لا يعلم المقدار المطلوب، احتياطا يعوض بالالتزام بآداب ومستحبات الطعام، قبل وأثناء وبعد، كالتسمية والحمد والشكر..
والبعض فترة ما بعد الوجبة الشهية، تمثل له لحظة عبادية متميزة، لأنه يعيش مشاعر إنعام المولى تعالى، مما يجعله يطيل في الدعاء والحمد والثناء والشكر..
ومن هنا من المناسب أن المؤمن يستغل فرصة الاجتماع على الطعام، سواء مع العائلة أو الضيوف، فإن من موارد استجابة الدعاء، هو ما بعد المائدة.. إن رب العالمين أنعم عليك بهذا الطعام والشراب المادي، وأكلته هنيئا مريئا؛ ولكن مع ذلك أيضا، هو يحب أن تدعوه، وتطلب منه طعاما معنويا، حتى يكمل عليك النعمة؛ يحب أن تطلب منه أمورا أخرى، تطلب الرزق الحلال، التوفيق، العبادة، الخشوع..
ولهذا فإن بعض المؤمنين بعد المائدة، له محطة عبادية من الدعاء الحثيث، دقيقتان أو ثلاث دقائق، وخاصة إذا كان في موسم عبادي؛ فالمؤمن لما يأكل مع الحجاج أو مع المعتمرين أو مع الزائرين، وهو في هذه الأجواء العبادية المباركة، لا يفوت هذه الفرصة أيضا.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.