س١/ ما هو تقييمكم إجمالا على عرض الوصايا الأربعين في قناة المعارف المباركة؟..
كان البناء على ختم الحلقات الأربعين بالحلقة الأخيرة: (هداية الآخرين).. ولكن هذا اقتراح في محله، وذلك بأن نأخذ جولة سريعة، فيما مضى من هذه الحلقات الأربعين، التي تحدثنا فيها عن معالم الطريق إلى الله تعالى.
لأن المشكلة ليست في النوايا الطيبة والهمة؛ فالبعض له همة، ولكنه في مقام العمل لا يعلم أين الطريق.. وكما يقول أحد كبار العلماء: إن الإنسان الضال عن الطريق، بمجرد أن يرى بلدته قريبة، ولو على مسافة أيام وليال مثلا، فإنه يهدأ ويرتاح قليلا، وكأنه وصل إلى غايته.. فلابد من وجود خطة في هذا المجال؛ وخاصة في هذا العصر الذي كثر فيه المستغلون، ممن يسيئون الاستفادة من هذه الرغبة الفطرية عند الكثيرين، ويحرفونهم عن الطريق.. فالبعض عندما يرى بعض السلبيات في هذه المجال، فإنه ينصرف عن أصل الحركة.
ونحن دائما نقول: لا ينبغي الخلط بين الإسلام والمسلمين، بل وحتى بين الإسلام وعلماء الإسلام.. فإن الإسلام والإيمان عبارة عن حقائق، وهذه الحقائق تارة تكون في قلوب الرجال بشكل كامل، كالمعصومين (ع)؛ وقد يكون جزءا منها في قلوب البعض.. فليس هنالك من يمثل الإسلام، تمثيلا كاملا إلا النبي (ص) والأئمة (ع) من بعده.
وأما بالنسبة إلى التقييم، فكما يقال: (لا تنظر إلى من قال، بل انظر إلى ما قيل).. وإن ما قيل-بحمد الله تعالى- أرى له انعكاسا طيبا؛ فمن خلال سفراتنا لبعض البلدان والمشاهد المشرفة، نلاحظ أن البعض كأنه تلمس بعض المعالم، وروى شيئا من عطشه.. كنا قبل فترة في زيارة لبعض مشاهد الأئمة، والبعض كان يقول لي شخصيا: أنه عندما يستمع لهذه الحلقات، كان يحرص على أن يهدأ الجميع من أولاده وزوجته، لأنه يريد أن يسمع بشكل مركز ودقيق.. فيبدو أن النفوس-بحمد الله تعالى- طيبة ومتعطشة.. وإن هذا ليس بالأمر الغريب، فالإنسان خلق على الفطرة، ورب العالمين له عناية بخلقه: (إن لله في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها).
أنا أشكر الله تعالى على أن هناك طبقة كبيرة من الأخوة نساء ورجالا، استثمروا هذه الحلقات، وتجلى لهم التأثير من خلال صلواتهم الخاشعة.. والبعض يقول: إن أول مرآة انعكس فيها تأثير هذه الحلقات، هي مرآة الحديث مع رب العالمين، المتمثلة بالصلاة لرب الأرباب.
س٢/ ما هي أهم الوصايا التي تنصحون بالتركيز عليها؟..
إن من بين أربعين وصية قد يكون من الصعب أن نذكر الأهم فالأهم، ولكن إجمالا نقول:
أولا: اتخاذ السبيل:
أن يحرص الإنسان على أن يكون له هم السير إلى الله تعالى.. وفي حلقة سابقة قلنا: إن هناك فرقا بين الرياضي المحترف في النادي، والرياضي الهاوي في المنزل.. فلو أن إنسانا مثلا يستهوي أن يقوي عضلاته، فذهب للطبيب، وقال له: احذر السمنة، واحذر ارتفاع نسبة الدهون في الدم، واحذر كذا وكذا.. فتأثر بكلام الطبيب، واشترى جهازا للرياضة ليمارس الرياضة في المنزل، ولكنه بعد أيام نسي ما قاله الطبيب، وترك الرياضة، أو يمارس يوما ويترك أشهرا.. فهل هذا يؤمَل منه أن يصبح رياضيا محترفا في يوم ما؟!.. بخلاف البعض من عشاق النوادي والبطولات، الذي قد يظل عشرين سنة وهو يقضي وقته في الملاعب، وهمه في هذا الأمر.. ولهذا فإنه يُرجى له بعد هذا الجهد المتواصل، والممارسة المستمرة المنتظمة لسنوات، أن يصبح بطلا-مثلا- في رياضة كمال الأجسام يوما ما..
وقياسا على ذلك نقول: إذا كانت تربية العضلات تحتاج إلى سنوات من الجهد، مع أن العضلات-كما نعلم- مآلها إلى الديدان والتراب، فكيف بمن يريد أن يربي باطنه!.. لا شك أن النفس أعقد بكثير من هذا البدن، وأن الأمر يحتاج إلى هم متميز، أو على الأقل أن يعطى من الوقت بنفس المقدار الذي يعطى للنوادي الرياضية.. فإن الذين يحملون الأثقال هذه الأيام، لهم في اليوم ساعتين أو ثلاث ساعات، وهم يتدربون في النوادي الرياضية.. فكيف بإنسان يحب أن يتكامل، وهو لا يقرأ جزءا أو نصف جزء في اليوم، ولا يصلي النوافل، ولا يقوم لصلاة الليل؟!..
إن من الأمور اللازمة لمن يريد السلوك في الطريق إلى الله تعالى، أن يحمل هم القرب إلى الله تعالى، كما يحمل هم الرزق، والزوجة والأولاد، والعمل.. وأن يجعل هذا الهم هما كبيرا في حياته، بل يجعله هو سيد الهموم، بأن يكون كما في وصف علي (ع) للمتقين: قد ( تخلى من الهموم، إلا هما واحدا انفرد به)..
ثانيا: هداية الآخرين:
إن من سبل التقرب العظمى إلى الله تعالى، الأخذ بيد الغير.. ولكن-مع الأسف- الملاحظ بأن البعض يتقاعس عن هذا السبيل، بدعوى عدم التميز، فقد يقول: أنا لست مؤهلا لنصيحة الناس بصلاة الليل، فلماذا أدعوهم لصلاة الليل؟!.. والحال بأن الإنسان ما عليه إلا أن يسعى ويعمل بتكليفه في إرشاد الناس، وإنقاذهم من حيرة الجهل والضلالة.. وليقل: يا رب!.. أنا أحاول التصدي لهداية الناس ووعظهم، وأدعوهم لصلاة الليل، وأنصحهم بعمل الصالحات، وأربي من يمكنني.. ولكن يا رب!.. أنت خذ بيدي، ولا تفضحني لا في الدنيا ولا في الآخرة..
ولهذا يقال عن بعض العلماء أنه إذا كان لديه ولد طالب علم، وأراد له أن يكون متميزا في الالتزام والاستقامة، فإنه يجعله إماما في المسجد بين وقت وآخر، حتى أنه عندما يؤم المصلين يستحي من نفسه، بأنه يؤم الناس، فيطور نفسه.. أو إذا كان إنسان ليست له مهارة كافية في الخطابة، فلما تزجه زجا في هذا الميدان، فإنه يعمل على تطوير قدراته.. وهذا معنى النص الشريف الذي يقول: (إذا هبت أمرا فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه)!..
فإذن، إن الذي يتصدى لهداية الآخرين من خلال مؤسسة، أو تأليف كتب، أو إنشاء مجلس وعظي حسيني، أو غيرها من مجالات الدعوة إلى الله تعالى؛ فإن رب العالمين أيضا يعينه، في هذه المجال.
ثالثا: العمل بالواجبات وترك المحرمات:
لو أردنا أن نلخص الوصايا الأربعين في كلمة واحدة، فإننا نقول:
(ترك المعاصي والذنوب، وأداء الواجبات، وخصوصا الصلاة في أول الوقت)..
أما المحرمات، فمجمل الحرام متركز في الوجه-المثلث المشؤوم والمبارك-: العين، والأذن، والفم.. من تجنب النظر الحرام، واستماع الغناء الحرام، والكلام الحرام، والتحرز من الشهوات المحرمة..
وأما الواجبات، فأداء الواجبات: الحج واجب في العمر مرة واحدة، والصوم واجب في السنة مرة واحدة، والصلوات الخمس بشرط أدائها في أول الوقت، بما فيها صلاة الفجر..
فإذن، إن هذه تقريبا هي الأساسيات، ويبقى: المراقبة المستمرة، والتحرز من أكل الشبهات، وصلاة الليل، والكلمة الطيبة، وقضاء حوائج المؤمنين، وإدخال السرور على الغير.. وهذه-كما يقال- مزينات المنزل؛ وإلا فالمنزل الإيماني يبنى-بما ذكرناه- بترك الحرام وأداء الواجبات، وخصوصا التركيز على صلاة أول الوقت.
س٣/ نريد من سماحتكم كلمة ختامية أخيرة في نهاية هذه الحلقة؟..
احتراما وتوقيرا لمقام إمامنا صاحب الأمر (عج)، أحب أن أجعل الختام الحقيقي لهذه الوصايا الأربعين، مسألة الالتفات التفصيلي والعاطفي والولائي والذوباني، لمن بيمنه رزق الورى..
إن الإمام عينه على الخِلقة، من المجرات والأفلاك وما تحته.. وعينه على خصوص المستضعفين من الناس، ولو كانوا كافرين.. كالنبي (ص) الذي كانت له التفاتة حتى لغير المسلمين، وعلى رأس غير المسلمين كفار مكة، ومن المعلوم كيف عاملهم.. وله التفاتة لخصوص المسلمين الذين يتشهدون الشهادتين، وله التفاتة لخصوص المؤمنين..
وله التفاتة لخصوص السالكين إلى الله تعالى، فالإمام (ع) عينه على هذه الثلة القليلة، بمعنى العناية المركزة.. فإذا رأى في عبد التفاتة إلى الله تعالى، وله في جوف الليل مناجاة مع رب العالمين، وله ولاء لأهل البيت (ع): يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم.. وله التفاتة لولي أمره: يدعو لفرجه في كل صبيحة، ولو في كذا أربعينية من أربعينيات العهد؛ ولا يفوّت في اليوم والليلة في صلواته إلا وقد ذكر دعاء الفرج في قنوته؛ وفي صبيحة يوم الجمعة والأعياد الأربعة، يندب إمامه باكيا عليه…؛ فإن الإمام (ع) يجعله في رعايته الخاصة..
وحينئذ أيحتاج هذا الإنسان إلى المربي لزوما؟!.. إن هذه أزمة من أزمات هذه الأيام!.. فالبعض يتقاعس، ولا يتحرك في طريق القرب إلى الله تعالى، على أمل أن يأتيه إنسان من جزيرة نائية ويأخذ بيده!.. لماذا أنت متقاعس؟!.. أنت الآن ابدأ الخطوات الأولى، وكن على الطريق!.. إن القطار إذا كان في الصحراء على التراب، فإنه لا يُرجى منه الحركة.. ولكن أنت إذا جعلت القطار على السكة، فقد تأتي عربة وتدفعك إلى الأمام.. إن رب العالمين يقسم الأرزاق، ومنها الأرزاق المعنوية..
وقد تسأل أن الإمام (ع) كيف يأخذ بيدك؟..
إن الإمام (ع) ليس من شأنه أن يأتيك إلى باب المنزل، ويزورك ويشرب معك ما يشرب، ثم يتكلم معك.. فالإمام (ع) له طرقه، ومن طرقه: التصرف القلبي، أو الدعاء لك، أو تيسير أستاذ من عامة الخلق.. ولهذا نلاحظ أن بعض الناس يقول: إن العالم المعين إمام المسجد، له علاقة متميزة بي، ويحبني كثيرا.. فمن الذي جعل حبك في قلب هذا العالم؟.. ولماذا اختارك هذا العالم من بين المؤمنين جميعا، بأن يخصك بالرعاية؟.. وقد يزوجك من ابنته مثلا، ويأخذ بيدك في السفرات هنا وهناك.. إن هذه عناية موجهة للإنسان الصادق، للأخذ بيده في هذا الطريق.
فإذن، ينبغي علينا الالتفاتة إلى الإمام (ع) بشكل مركز، وأن نعيش حالة الحزن على غيبته.. لنسأل أنفسنا: هل مرة عشنا هذه الحالة: أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء؟.. أين باب الله الذي منه يؤتى؟.. فلو أنك في الشهر مرة، أو في الأسبوع مرة، بكيت لفراقه، وبكيت حزنا على قلبه الذي يحمل الأحزان الكبرى!.. فالإمام (ع) من الصباح إلى الليل، كم يسمع من الأخبار المؤلمة، وخاصة هذه الأيام مع وضع الأمة الذي لا يحسد عليه؟!.. وكم يحترق قلبه؟!.. وكم تجري دمعته؟!.. والإمام الكاظم (ع) في رواية يشير إلى هذه الناحية، عندما قال (ع) في وصفه (ع): (يعتوره مع سمرته صفرة من سهر الليل).. حيث جمع بين السمرة والصفرة: فالسمرة كما في أوصاف شمائله المباركة؛ والصفرة لسهره في إحياء الليالي في عبادة ربه، والبكاء على وضع الأمة فعلا..
وإن الذي يدعو لفرجه بحرقة، وخاصة في مواطن الاستجابة: فلما يستيقظ في جوف الليل، يدعو لفرج إمامه بلهفة.. ولما يصل للحجر الأسود في ازدحام الحج، ويضع رأسه في الحجر لثوان، فأول ما يدعو، يدعو لفرج إمامه.. ولما يصل لباب الكعبة، يدعو لفرجه.. ولما يصل إلى الحائر الحسيني، يدعو لفرجه.. فهنيئا لمثل هذا الإنسان!.. وبلا شك إن هذا الإنسان الذي يحمل هذا الود المهدوي، وهو في مقام العمل له التزام بأحكام الله تعالى، سيصل إلى المراد بإذن الله تعالى إن عاجلا أو آجلا.
ونحن أيضا نطلب من الإخوة الأعزاء والأخوات المؤمنات، إذا فتح لهم بابا من أبواب التوفيق والمعرفة أن يدعوا لكل من له دور في نشر ثقافة أهل البيت (ع).. وأن يدعوا لنا جميعا-المتكلم والمستمع- على إنجاز المهمة، والوصول إلى الرضوان الإلهي في الدنيا قبل الآخرة، والذي عبرنا عنه برحيق الجنة.. وهنيئا لمن وصل إلى هذا الرحيق قبل أوانه!.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.