- ThePlus Audio
ثمرة صيام شهر رمضان المبارك
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة وأتم السلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين
إنَّ شهر رمضان الكريم هو شهر الله عز وجل بحقيقة المعنى؛ كما أن الكعبة بيت الله والقرآن كتاب الله، وإنَّ الشيء إذا انتسب إلى الله عز وجل اكتسب العظمة والخلود، لأنه قد انتسب إلى عظيم أزلي ابدي يضفي على الشيء أنوار رحمته وبركاته، وقد وصف القرآن الكريم هذا الشهر بآيات نقرأها بصورة رتيبة دونما تفقه وتدبر.
يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)[١]، والقرآن الكريم لم يذكر كلمة (كتب) إلا في مواضع مهمة منها قوله سبحانه: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)[٢]، وهي كلمة صادرة عن مقام الملك والملكوت والعظمة، وقد استعمل كلمة (كُتِبَ) في الصيام كما استعملها في تلك الآية، ولو كان الصيام أمراً هامشياً في حياة الإنسان لما قال عز وجل: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)[٣].
ولا ريب أنَّ الإسلام لو لم يكن من تشريعاته الصيام؛ لكان ديناً ناقصاً بحجه وزكاته وخمسه، ولما أعطى الثمار المطلوبة، والصيام أداة تربية للأمم جميعاً فلم يقتصر الأمر على المسلمين دون غيرهم، وإنما أمر الجميع بالصيام لقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[٤].
ما هي ثمرة صيام شهر رمضان المبارك؟
إنَّ الإنسان لا يشتري البستان لأجل الأوراق التالفة الزائلة، أو لأجل الجذور المختفية في الأرض، أو لأجل الحشيش الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وإنما يشتري البستان لثمره، ولو أعطي الإنسان بستاناً بأرخص الأثمان وعلم أنَّ أشجار هذا البستان هي أشجار سقيمة مبتلية بديدان الأرض، وأنها لا تثمر في جميع الأحوال، فهل كان يسقيها قطرة من الماء أو ينفق درهماً من أمواله عليها؟ وكذلك الأمر في الصيام؛ إذ على الإنسان أن يعلم أن هل بستان شهر رمضان بستان مثمر أم لا؟ وإن كان له ثمر فما هي هذه الأثمار؟ هل ثمرة الشهر الفضيل الكف عن الطعام والشراب؟ ليس لأحد أن يقول: أنَّني وفقت بحمد الله أن أكمل صيام هذا الشهر وهو لم يحصل على الثمرة وهي التقوى كما قال سبحانه: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[٥]، وليس المراد حصول التقوى في شهر رمضان فحسب؛ بل التقوى حالة في وجود الإنسان؛ من التعالي والتقدس والطهارة تستمر معه إلى آخر أيام السنة.
وعلينا أن ننظر في بداية كل شهر رمضان إلى مدى قربنا من الله عز وجل في العام الماضي إن كنا قد رفعنا في الشهر الكريم منه شعار التقوى، وليست ثمرة شهر رمضان الماضي هو بكاءنا وحنينا ودعواتنا في ليلة القدر وإمسكانا عن الطعام والشراب في شهر رمضاننا الحالي الذي يقف المؤمن على أعتابه، بل أن ثمرة التقوى تتبين على امتداد أيام السنة فأنت تشعر بها قبل دخولك الشهر الجديد، وإن كنت قد زدت درجة في التقوى فاعلم أن شهر رمضان قد أعطى ثماره، وإذا رأيت أن أيامك متشابهة، فأنت كما قال الإمام علي (ع): (مَنِ اِعْتَدَلَ يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ)[٦]؛ فكيف بمن اعتدلت سنتاه فهو مغبون بغبن أعظم وأشد، وإذا كان أمسي كيومي، فكيف إذا كانت سنتي الماضية كسنتي هذه، وهذا هو الغبن الذي يميت الإنسان حسرة في يوم التغابن و(يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ)[٧].
وتعبير القرآن الكريم: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[٨]، هو تعبير جميل؛ إذ يقول الله عز وجل: أرجو لكم ذلك، وليس التقوى أمر تلقائي يحصل عليه كل من صام هذا الشهر؛ بل إنَّ الذي يريد أن يحوز على ثمرة التقوى ينبغي له أن يقوم بأمور غير الصيام المتعارف، وهل رأيتم من اكتفى بالكف عن الطعام والشراب وخرج من الشهر بثمرة التقوى؟ ولطالما رأينا صائمين يفحشون في القول في نهار شهر رمضان ويأكلون الحرام، وإذا جن عليهم الليل يكثرون فيه الفساد بدلاً من القيام وتلاوة القرآن، والأمثل على ذلك؛ تسابق أجهزة الإعلام فيما بينهم في شتى البلاد في شهر رمضان ببث الأغاني والمسابقات وما شابه ذلك مما يجر الإنسان إلى الانحراف عن أجواء هذا الشهر الفضيل؛ ناهيك عن الخيم الرمضانية التي يتصاعد منها أصوات الرقص والغناء والطرب، فأي صيام يكون هذا، وأية ثمرة تقوى يرجى منه؟
لا تخرج من شهر رمضان كما دخلت فيه..!
إنَّ القرآن الكريم لا يقول أنَّ شهر رمضان هو النهاية؛ بل هو البداية، وكما يقول العلماء: هو المقتضي وليس بعلة تامة، إنما يهيئ الصوم أجواء الضيافة، فبإمكان الشخص أن يدخل قصر السلطام ويتنعم بأنواع الطعام أو يجلس في زاوية من زوايا القصر ويخرج من دون أن يأكل لقمة واحدة من أطعمة السلطان، ويا لغرابة هذا الحديث: (كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ اَلظَّمَأُ وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ اَلْعَنَاءُ)[٩]، يظمأ كما يظمأ الطفل الصغير ويتعب في قيام الليل وهو لم يدخل بحر هذا الشهر خطوة واحدة، ويا له من حديث مخيف.
لمن نرجع في معرفة ما علينا من الأعمال في شهر رمضان المبارك؟
ولذلك ينبغي لنا الرجوع إلى نبي الرحمة وقائد الأمة محمد المصطفى (ص) في معرفة ما يجب علينا في هذا الشهر وفي كيفية الصيام. إنَّ النبي (ص) قد خطب هذه الخطبة قبل أن يدخل في شهر رمضان، أو على مشارف الشهر بالأمة وقد كانوا قلة من أهل المدينة، وفي مسجد متواضع مبني بسعف النخل، ولكن الله عز وجل أراد أن يرفع من ذكر المصطفى، فنحن نجلس على مائدة النبي (ص) لنستمع إلى خطبته تلك، ولا بأس أن يعتبر المستمع لخطب النبي (ع) والإمام أمير المؤمنين (ع) والأئمة (ع) نفسه هو المعني بكلامهم، وفي بعض الروايات يوصي المعصوم الراوي أن يقرء الشيعة عن الإمام السلام، وإذا قرأت رواية بهذا المضمون لا بأس أن تقول: وعليك السلام يا رسول الله أو يا أمير المؤمنين.
شهر رمضان والجوائز العظيمة
يقول النبي (ص): (أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اَللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَاَلرَّحْمَةِ وَاَلْمَغْفِرَةِ)[١٠]، وكأن هذا الشهر قافلة محملة بالبضائع جاء ليعطيك ما عنده مجاناً، فما قيمة العمل مقابل ما يعطيه شهر رمضان، نحن نعطي الشهر كف عن الطعام والشراب أياماً معدودة – والتنكير في اللغة العربية للتصغير – وأياماً قليلة، فلا يمن أحد على الله عز وجل بصايمه؛ إذ كان بإمكان الله عز وجل أن يجعل الصيام مدى الدهر، وهو خالق النفس وخالق الطعام، ولكنه سبحانه بلطفه جعله أياماً معدودة كالحج، وجعل الخمس والزكاة مبلغ محدود وكذلك أمره في جميع الأشياء وكل شيء عنده بقدر ومقدار، وأيام الصيام معدودة تكتسب بها ثمار الأبد.
إنَّ ثمار شهر رمضان ليست لشهر رمضان فحسب؛ بل هي ثمار للأبد، وإن الذي وفقه الله لصيامه يحمل معه الثمرات إلى أبد الآبدين؛ حيث جنة الخلد ونعيم الله عز وجل؛ إذ يمسك الإنسان عن الطعام والشراب وبعض المحرمات المعروفة كالغمس في الماء والكذب على الله ورسوله وسائر الأمور التي هي بمنتهى السهولة لساعات محدودة، وإذا به يحصل على ثمرة عظيمة وهي: (قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اَللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَاَلرَّحْمَةِ وَاَلْمَغْفِرَةِ)[١١].
إنَّ الله عز وجل قد جعل للإنسان محطات يخفف فيها من ذنوبه من حيث لا يشعر، كالإنسان المبتلى بأنواع الكدر والقذر فيدخل الحمام وهو لا يعلم ما عليه من الأوساخ وإذا به يخرج نقياً نظيفاً طاهرا، وأحدنا يدخل شهر رمضان وقد ارتكب من الذنوب ما لا يعلمها إلا الله عز وجل وهو القائل: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[١٢]، وكم من ذنب ارتكبه الإنسان بقوله وفعله وسمعه وقلبه على امتداد السنة وقد نسيه ولكن الله أحصاه: (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ)[١٣]، أو قوله سبحانه عن لسان المجرمين: (مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)[١٤]، إنما يأتي هذا الشهر ليعفو الله عنك وإن لم تكن تتذكرها أنت، وهذه هي البركة والرحمة والمغفرة.
ثم يكمل النبي (ص): (شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ أَفْضَلُ اَلشُّهُورِ وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ اَلْأَيَّامِ)[١٥]، ومن كرامة الله عز وجل أن يحول نوم النائم – والنائم والميت والمغمى عليه والمجنون لا يمكنهم العمل – إلى عبادة، وما أكثر ما ينام الصائم في الليل والنهار، وعبادته هذه عبادة مقبولة قطعاً؛ لأن الإنسان لا يرائي في نومه، بخلاف الحج والعمرة وما شابه من الأعمال التي يمكن أن يرائي فيها الإنسان، وكذلك النفس الذي هو عبارة عن شهيق وزفير – وفي خروج الزفير خروج مادة سامة من البدن؛ فلو زفر الإنسان في فم أحد لمات اختناقاً – ولا قيمة له وفيه تلك الرائحة الكريهة يتحول إلى تسبيح في شهر رمضان.
إنَّ الذي يعرف حجم نفسه ووزن أعماله وقبح أفعاله، كيف يمكنه أن يرفع يده بالدعاء؟ وهو مع ذلك ليس له جهاد قولي ولا عملي ولا مالي ولا نفسي، وأحدنا قد يدعو الله عز وجل وهو خجل من وجوده، ويقول: يا رب إن وجودي معصية لا تدانيها معصية؛ إذ أنَّ وجود العاصي معصية فكيف بأعماله، ولذلك يأتي شهر رمضان ليصالح العبد مع مولاه.
إن شهر رمضان هو الشهر التقرب إلى الله عز وجل؛ ولكن النبي (ص) مع ذلك يمزج القلب بالقلب والباطن بالظاهر، وعلى الرغم من كون الشهر شهر إنابة ومغفرة إلا أنه يذكرنا بأن لا ننسى واجبنا الاجتماعي؛ فيدعو لإفطار الصائمين والتحنن على الأيتام والفقراء والمساكين، ويريد بذلك أن يكون الصائم متكاملا في جميع أبعاد وجوده، والإسلام يريد من الإنسان بالإضافة إلى صيامه، أن يكون عابدا زاهداً كافلاً للأيتام مساعداً للفقراء مجاهداً في سبيل الله عز وجل، والذي لا يلتزم بهذه الأعمال هو كالإنسان الناقص في خلقته؛ كالمرأة الجميلة التي في يديها ورجليها قصر أو جميلة ملامح الوجه قبيحة العينين، فعلى المؤمن أن يكون جميلاً في جميع الأبعاد.
ويقول (ص): (أَيُّهَا اَلنَّاسُ مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا اَلشَّهْرِ خُلُقَهُ كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى اَلصِّرَاطِ)[١٦]، وليس حسن الخلق البشاشة فحسب؛ إذ أنَّ هناك خطأ عرفي حول حسن الخلق؛ فيعتبرون الإنسان البشوش وكثير المزاح والذي يكثر من التهريج واللغو في القول والدخول في ما لا يعنيه حَسَنَ الخُلُق، وإنما حُسن الخُلق هو مقابل حُسن الخَلق؛ إذ يقول سبحانه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[١٧]؛ أي نحن من جهتنا خلقناك في أحسن تقويم وأنت مأمور أن تجعل خُلُقُك في أحسن تقويم، وقد تركتك لنفسك بعدما قمت بما علي من فعل؛ فقد صيرتك من نطفة قذرة ومني يمنى إلى مخلوق متكامل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[١٨]، وقد جعلت أمر الروح بيدك، ولو أراد الله سبحانه أن يحسن الأرواح كما الأجسام، لانتفى الأجر وبطل الثواب بل كما قال عز من قائل: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[١٩].
صوم الخواص
إنَّ حسن الخلق هو عبارة عن تنوير الباطن وتجميل ملكات النفس والقضاء على الرذائل الباطنية؛ فكم من صائم يصوم ظاهره ولا يصوم باطنه، وثمرة الصيام التقوى، وهي ثمرة متناسبة مع الشجرة، والكف عن الطعام والشراب أمر بدني مادي مرتبط بالفم والأمعاء، والتقوى أمر معنوي، فكيف يعقل أن يأتي اللب من القشر والقلب من القالب؟ فلابد من أن يكون الصيام معنويا في مقابل هذه الثمرة المعنوية؛ فنضيف إلى الكف عن الطعام والشراب؛ الكف عن محارم الله عز وجل، وهذا هو صوم الخواص.
الورع عن محارم الله عز وجل في شهر رمضان
لا فرق بين الطعام والشراب في نهار شهر رمضان وبين الطعام والشراب المحرم في ليل هذا الشهر؛ إذ أنَّ كليهما محرم على الإنسان، ومال الذي لا يخمس واللحم الذي لا يذكى كذلك محرم على الإنسان كما أنَّ الأكل والشرب محرم على الإنسان في شهر رمضان، فالذي يكف عن الطعام والشراب في شهر رمضان ولا يكف عن المحرم من المال واللحم وما شابه ذلك؛ لا يمكن أن نعتبره صائماً، وكذلك الإنسان الذي يكف عن الطعام والشراب ولا يكف عن غيبة المسلمين وما أكثر المجالس والدواوين في شهر رمضان والأسمار التي تكون مشبعة باللغو والغيبة والبهتان والنميمة والفحش تحت عنوان السهرات الرمضانية، وهذا كله يخالف ثمرة شهر رمضان.
ضرورة التأكد من حلية الطعام والشراب في شهر رمضان
إنَّ الناس في أيام شهر رمضان يتوجهون إلى الأسواق لشراء الطعام والشراب ولا بأس بذلك، وهي حركة مشكورة مباركة، ولكن يجب الالتفات إلى حلية المأكل والمشرب؛ إذ أن أكثر الأطعمة والأشربة تأتي من بلاد الشرق والغرب، وقسم منها مقطوع الحرم لنجاستها أو كونها ميتة أو أنها تتشكل من مواد لا يجوز أكلها واستعمالها وكذلك يجب التأكد من اللحم وغير ذلك، فهذا الطعام الذي سنتناوله على الفطور والسحور؛ سيكون قوتنا للمناجاة بين يدي الله عز وجل؛ فلنحرص حرصاً مضاعفاً على أن يكون حلالاً وإن كان لابد من التأكد من حلية الطعام في شهر رمضان وفي غيره من الشهور إلا أن الطعام في هذا الشهر قد يؤثر على إحياء ليالي القدر والمناجاة بين يدي الله عز وجل في جوف الليل، والذي يتغذى من السحت والحرام هو كمن يأكل أموال اليتامى ظلماً فقد نبتلع ناراً من حيث لا نشعر.
بادر إلى الاستحلال قبل الاستهلال في شهر رمضان..!
والأمر الآخر الذي ينبغي للمؤمنين الالتفات إليه في شهر رمضان المبارك هو تبعات العباد؛ فالقاطع للرحم والمقاطع لبعض الإخوان والمستنكف عن أداء الحقوق المالية المترتبة عليه؛ عليه أن يبادر للاستحلال في شهر رمضان، وإن كان يخاف من الذل والفضيحة ومن العار، فلا يخاف ذلك في شهر رمضان؛ إذ لا يحمل ذلك على الذل وإنما يحمل على سماحة هذا الشهر المبارك، فعندما تأتي لأخيك الذي ماطلته في تسديد ديونك في أول الشهر وتطلب من السماح والتأجيل؛ سيشكر لك ذلك، ولا نكتفي في مستهل الشهر بالاتصال بالإخوان وبالتهنئة؛ وإنما علينا أن نقدم عملاً ونري الآخرين آثار وعلامات بركة شهر رمضان.
ولنبدأ بمن حولنا من الآباء والأمهات والزوجة والأولاد، وقد يعلم الكثير أن حسب بعض الفتاوى لا يجوز غيبة الصبي المميز ولو كان ابناً لك، فلا يجوز لك أن تجلس وأمه وتتحدثون عنه بصورة غير هادفة ومن دون غرض تربوي، وهذا حال الطفل الذي لم يبلغ الحلم فكيف بالولد البالغ؟ وكيف بمن يغتاب جاره وصديقه؟ فليبدأ الإنسان حركة استحلالية كما يبدأ حركته الاستهلالية في شهررمضان؛ فيستحل لذوي الحقوق حتى الموتى منهم ويذكرهم بخير في هذا الشهر المبارك.
الترصد لشهر رمضان المبارك قبل مجيئه..!
ومن الأمور المهمة في هذا الشهر هو الانضباط من أول ليلة، فينبغي للمؤمن أن يطلع على أعمال الليلة الأولى من شهر رمضان المبارك المذكورة في كتاب مفاتيح الجنان أو غيره من الكتب، وينظر إلى الأعمال المشتركة في سائر الأيام والليالي من هذا الشهر؛ سواء صلاة الألف ركعة أو سائر الأعمال، وإذا لم يلتزم بها من أول ليلة تكون الفرصة قد ضاعت وسحبت منه، ولن ينفعه ذلك لو أتى بالأعمال من الليلة الثانية حتى الليلة الثلاثين ذلك النفع المرجو، وإنما يعطى الأجر ذلك لمن أتى بالأعمال من أول ليلة، وحاول أن تبرمج نفسك قبل حلول الشهر فتكون على استعداد تام له، وليكن شعارك في كل عام أن يكون شهرك هذا خير من سائر الشهور التي مرت عليك، وإن قصرت في شهر من الشهور حاول أن تتدارك ذلك في الشهور الآتية إن طال بك العمر وأدركته، وعليكم باليوم الأول من شهر رمضان فادعوا الله فيه أن يهندس حياتكم في السنة المقبلة ويجنبكم كل آفة من آفاتها.
اعتذر إلى القرآن الكريم واطلب منه العفو على ما فرطت..!
إنَّ القرآن الكريم كتاب مظلوم في الحقيقة، وعلى المؤمن أن يقف وقفة عاطفية مع القرآن الكريم قبل أن يبدأ بالجزء الأول منه في شهر رمضان؛ بأن يختلي بالقرآن ويفتحه على مصراعيه ويجعله على صدره ويتكلم معه؛ فيقول: يا قرآن ويا كتاب ربي معذرة إليك، لقد أهملتك سنة كاملة – البعض منا لم يختم القرآن في السنة مرة واحدة ولعل الكثيرون لم يقرءوا من القرآن جزءاً واحداً، وقد يختم أحدنا القرآن في شهر رمضان مرة ومرتين وثلاث ولكنه لا يقرأ جزءا واحداً منه من شوال حتى آخر شعبان – فتتح القرآن في شهر رمضان بالبكاء والاعتذار، وما المانع من أن تخاطب القرآن والحال أن الإمام زين العابدين (ع) كان يخاطب الهلال ويقول: (أَيُّهَا الْخَلْقُ الْمُطِيعُ، الدَّائِبُ السَّرِيعُ)[٢٠]، والإمام يخاطب هلال شهر رمضان وأنت لا تخاطب القرآن الكريم وهو الشاهد عليك يوم القيامة؛ بل اعتذر منه وقل: يا كتاب ربي سأتلوك في هذه السنة حق تلاوتك.
وختم القرآن الكريم أمر مطلوب في شهر رمضان واختم من القرآن ما استطعت الختمة والختمتين والثلاث والأربع والخمس؛ ولكن اجعل لنفسك ختمة واحدة تضع فيها إلى جانبك مصحفاً مفسراً متوسطاً أو ثقيلاً كالميزان وغيرها من كتب التفسير وحاول أن تتدبر في القرآن الكريم ولو من خلال ما كتب على هامش بعض المصاحف الشريفة.
لا تغفل عن إفطار الصائمين وخصوصاً أهل الفقر والمسكنة
وينبغي للمؤمن أن يهتم بإفطار الصائمين وليحذر من أن تكون دوافعه غير إلهية، وناشئة عن عادة متعارفة؛ فليس الفرق بين العبادة والعادة إلا حرف الباء، فقد يقيم الإنسان الجلسات القرآنية ويفطر الصائمين بناء على عادة اجتماعية؛ فيحرم من الأجر العظيم، والأمر الآخر هو أن لا يكتفي بدعوة الصنف الواد من التجار والأغنياء والمترفين؛ بل يذهب إلى المسجد ويأخذ بيد جماعة من الفقراء والمساكين ويدعوهم إلى بيته، أو أن يدعو كل يوم إلى منزله أخاً مؤمناً غريباً في هذه البلاد، أو أخاً أعزباً يعيش الهموم والآلام النفسية ولو اكتفى بهؤلاء لكان خيراً له من أن يدعو العشرات ممن لا يستفيدوا شيئا من الحضور عنده، وليعلم أنَّ الإفطار له بعد نفسي واجتماعي؛ فكما فيه إطعام فيه كذلك قضاء حاجة وتنفيس كربة.
وليختلي الصائم بربه في الليلة خمس دقائق بتركيز، وليقرأ فقرات من دعاء أبي حمزة ويتكلم مع الله عز وجل، فإنه قريب من الله في شهر رمضان، فإن كانت الذنوب قد أسقطته من عين الله عز وجل في غير هذا الشهر؛ فهذا الشهر هو شهر المصالحة والقرب والتودد، وحشا أن يدعوك الله عز وجل إلى ضيافته ولا يعاملك معاملة الضيف، وفي هذا ذكرى لأولي الألباب.
[٢] سورة المجادلة: ٢١.
[٣] سورة البقرة: ١٨٣.
[٤] سورة البقرة: ١٨٣.
[٥] سورة البقرة: ١٨٣.
[٦] من لا یحضره الفقیه ج٤ ص٣٨١.
[٧] سورة مريم: ٣٩.
[٨] سورة البقرة: ١٨٣.
[٩] وسائل الشیعة ج١ ص٧٢.
[١٠] فضائل الأشهُر الثلاثة ج١ ص٧٧.
[١١] فضائل الأشهُر الثلاثة ج١ ص٧٧.
[١٢] سورة غافر: ١٩.
[١٣] سورة المجادلة: ٦.
[١٤] سورة الكهف: ٤٩.
[١٥] فضائل الأشهُر الثلاثة ج١ ص٧٧.
[١٦] فضائل الأشهُر الثلاثة ج١ ص٧٧.
[١٧] سورة التين: ٤.
[١٨] سورة الإسراء: ٧٠.
[١٩] سورة الانشقاق: ٦.
[٢٠] الصحيفة السجادية: الدعاء الثالث والأربعون.
خلاصة المحاضرة
- إنَّ القرآن الكريم يبين لنا أنَّ شهر رمضان هو مجرد بداية وليس النهاية، وإنما يهيئ هذا الشهر لك أجواء الضيافة ويبقى عليك الاغتنام والاستفادة، فبإمكان الشخص أن يدخل قصر السلطان ويتنعم بأنواع الطعام أو يجلس في زاوية من زوايا القصر ويخرج من دون أن يأكل لقمة واحدة من أطعمة السلطان.
- يقول النبي (ص): (أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اَللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَاَلرَّحْمَةِ وَاَلْمَغْفِرَةِ) ، وكأن هذا الشهر قافلة محملة بالبضائع جاء ليعطيك ما عنده مجاناً، فما قيمة العمل مقابل ما يعطيه شهر رمضان؟
- إنَّ الله عز وجل قد جعل للإنسان محطات يخفف فيها من ذنوبه، كالإنسان المبتلى بأنواع الكدر والقذر، يدخل الحمام وهو لا يعلم ما عليه من الأوساخ وإذا به يخرج نقياً طاهرا، وأحدنا يدخل شهر رمضان وقد ارتكب من الذنوب ما لا يعلمها إلا الله عز وجل وإذا به قد خرج من الذنوب بانمحاق هلاله..!
- ومن كرامة الله عز وجل أن يحول نوم النائم إلى عبادة، وما أكثر ما ينام الصائم في الليل والنهار، وكذلك النفس الذي هو عبارة عن شهيق وزفير لا قيمة له وفيه تلك الرائحة الكريهة يتحول إلى تسبيح في شهر رمضان.
- إن الإسلام يريد من الإنسان بالإضافة إلى صيامه، أن يكون عابدا زاهداً كافلاً للأيتام مساعداً للفقراء مجاهداً في سبيل الله عز وجل، والذي لا يلتزم بهذه الأعمال هو كالإنسان الناقص في خلقته؛ كالمرأة الجميلة التي في يديها ورجليها قصر.
- إنَّ المؤمن كما يحرص على الستهلال والتأكد من دخول الشهر الفضل؛ عليه أن يبادر إلى الاستحلال أيضا! فيخرج من حقوق إخوانه ومن تبعات العباد ويبادر إلى الاعتذار وطلب العفو منهم.