س١/ ذكر في الوصية أن توزيع الاهتمام والانشغال بالأمور الحياتية، من العقبات المؤخرة للسالك في طريقه إلى الله تعالى.. فكيف يمكن أن يوحد العبد همه في المولى تعالى أو في العقبى-الدار الآخرة- مع اختلاف أصناف العباد، والانشغال القهري بالأمور الحياتية؟..
إن الذين يعبدون الله تعالى، ينقسمون إلى قسمين: فمنهم من يعبد الله تعالى لذاته، حبا له.. ومنهم من يعبده للأخرى، أي العقبى، طلبا لجائزته.. ولولا المسامحة واللطف الإلهي، لكان رب العالمين له الحق أن يقول: إن الذي عبدني لا لذاتي بل لجوائزي، فإنه ما عبدني حقا، فلا أعطيه حتى الجائزة!..
وإن البعض قد يقول: هل أن هناك من يعبد الله تعالى لذاته، حبا له؟!..
فأقول: إن هذا المعنى متعارف في حياتنا لغير الله تعالى!.. فإنك ترى حب الأم وحنانها، واهتمامها بابنها المعاق، والذي لا يُرجى منه الخير مستقبلا، وأن يكون عونا للأبوين في يوم من الأيام.. وإنك ترى بعض الأولاد البارين، يخدمون الأبوين، رغم انتفاء أي فائدة وانتفاع منهما، بل أحيانا حتى الإرث المادي منتف منه.. فنحن في عالم التعامل الدنيوي نرى هذا الحب الصادق، من الحب للذات، لا للانتفاع.. أما عندما يصل الأمر إلى مسبب الأسباب ورب العالمين، فالبعض يقول: لا، إن هذا لا يمكن، إلا أن نحبه لجنته وللحور وللقصور!..
أما بالنسبة لتوزيع الاهتمام، فإن الإنسان الذي يعيش الهواجس المتضاربة المختلفة، فهذا الإنسان لا يمكنه التركيز فكريا ولا شعوريا، وذلك في علاقته مع المولى تعالى.. فالذي له هم الوظيفة، وهم الدراسة، وهم الزوجة، وله مع هذه الهموم هم إلهي، فإن هذا من الطبيعي أن يكون إنسانا موزع الهموم، وقليل التركيز، ومن الصعب أن يحقق التميز.. ولهذا يقال إن طالب العلم الذي له شؤونات مختلفة من تدبير شؤون العائلة، أو بناء بيت وغيرها من الأمور الشاغلة؛ فإن هذا لا يصبح عالما متميزا، لأنه لم يجعل طلب العلم همه الأوحد..
إن الإنسان الذي له هم المولى تعالى، ولكن في جانب الهموم الأخرى، كهم الولد والزوجة، فهذا الإنسان سوف لن يصل إلى درجات متميزة، وإن كان هو خير من غيره الذي لا يحمل هم المولى أبدا.
الطريق إلى توحد الهم:
أولا: الإحساس بعظمة المولى تعالى، من نحمل همه:
إن الذي يعتقد بحقيقة واجب الوجود، وإن كل البركات في عالم الخلقة رشحة من رشحاته، وإن هذا الجمال سواء كان جمالا بشريا، أو في الطبيعة، يعود إليه في آخر الأمر.. إن الذي يعتقد بترشح أصل الوجود، وبركات الوجود، من هذا الوجود العظيم، فسوف يجعل همه منحصرا به.
ثانيا: معرفة أن الثمار المرجوة من كل أمر، هي بيده تعالى:
نحن لماذا نوزع الهموم؟.. إننا نوزع الهموم، لكي نقطف الثمار في مختلف الحقول؛ فالذي يتزوج يريد أن يقطف ثمرة الولد الصالح؛ والزارع الذي يزرع الأرض، يريد أن يقطف ثمار ما يزرعه من الأشجار؛ وكذلك التاجر وهكذا.. فالذي يعلم أن هذه الثمار بيد رب العالمين-إن شاء وجودها أوجدها، وإلا فلا وجود لها- كيف يوزع نظرته هنا هناك، بدلا عن النظر إلى من بيده مقاليد الأمور كلها؟..
وإن رب العالمين يريد منا أن نلتفت إلى هذه الحقيقة، فيقول تعالى في سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}.. فالزارع ما كان دوره إلا أنه بذر البذور، وتعهدها بالسقاية والرعاية، وشذب الأوراق.. ولكن رب العالمين هو الذي فلق الحبة، ونحن عندما نناجي رب العالمين نقول: (يا فالق الحب والنوى!)..
فعليه، إن معرفة أن كل الثمار التي يسعى الإنسان لتحقيقها، بيد الله تعالى؛ يوجب توحد الهم.
س٢/ هل يمكن إعطاء معادلة للقضاء على المشاكل الحياتية، أو على الأقل للتخفيف منها؟..
إن نظرة الإنسان للأمور هي الأساس، فإن صغرها صغرت، وإن عظمها عظمت.. فمثلا: إن الذي يعجب بناطحات السحاب، ويراها عظيمة، عندما يستقل طائرة، وتحلق الطائرة على ارتفاع ثلاثين ألف قدم مثلا، كم يراها صغيرة، حتى تكاد لا ترى أصلا!.. ولكنه وهو في الطائرة رآها بعينه صغيرة-لا في قلبه- ولما ينزل على الأرض يراها بعظمتها!..
ولكن المؤمن من صفاته، أنه ممن (عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم)، فإن هذه هي نظرته للأشياء، ولا يحتاج إلى أن يصعد الطائرة، ويراها من الطائرة صغيرة!.. إن المؤمن له هذا الهم الأوحد، ولا يكاد يرى شيئا في هذا الوجود سواه يلفت نظره!.. فإن كل ما في الوجود يراه صغيرا، إلى جنب عظمته!.. بل-وإن الوصول إلى هذه الحقيقة يحتاج إلى توفيق رباني- إن حقيقة التوحيد، هي (أن لا ترى في الوجود أحدا سواه!).. لا أن يرى الشيء صغيرا، بل لا يراه أصلا!.. إن المؤمن يصل إلى هذه الدرجة، لأنه يجعل المحدود بجوار اللامحدود.. ولا تفاضل بين المحدود واللامحدود، فالتفاضل بين الممكنات بين المحدودات.. ولهذا عندما نقول: (الله أكبر)، ليس المعنى أن الله أكبر من زيد وعمر، فرب العالمين لا يجعل بجانب غيره، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}..
فإذن، إن الحل لتوحد الهموم، هو هذه الحالة، من تقوية التوحيد بكل أبعاده.
س٣/ ذكر في الوصية عدم الانشغال الشديد بالمشاكل الحياتية، وتفويض الأمر لله تعالى، فهو الذي يجعل المخرج لعبده.. ولكن البعض قد يقول: إننا طالما دعونا الله تعالى، فلم نر المخرج.. فما تعليقكم في هذا المجال؟..
إن من المستحيلات أن يدعو الإنسان ربه في طلب حاجة، ولا يعطاها!.. وإن البعض قد يستغرب ويقول: أي مستحيل هذا، ونحن في حياتنا معظم الحوائج لا نحصل عليها بالدعاء؟!..
فنقول: إن المشكلة أن الإنسان لم يعمل بقاعدة الدعاء!.. لو أن إنسانا أراد أن يركب جزيء ماء، وأتى بذرة أوكسجين وذرة هيدروجين، فهذا لا يحصل على مطلوبه، فالماء يحتاج إلى ذرتين أوكسجين وذرة هيدروجين..
شروط استجابة الدعاء:
لو تأملنا في هذه الآية الكريمة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْْ}؛ لوجدنا ضالتنا المنشودة الموجبة للتحقق الدعاء، ومن ثم الاستجابة القطعية.. فإن الآية تشير إلى شرطين أساسيين، وهما:
أولا: معرفة من ندعو:
إن الدعاء يحتاج إلى توجه والتفات، إلى الجهة المدعوة.. والتوجه فرع معرفة المتوجَه إليه، فالذي ندعوه، وهو الله تعالى لابد وأن نعرفه.. فالذي لا يعرف الله تعالى بعظمته وبجلاله، ولا يستشعر حالة الحب له، فإنه في الحقيقة -وإن دعا، ورفع يديه إلى السماء- لم يحقق شرط الدعاء، بل إن دعاءه حديث مع مجهول.. فكيف للإنسان أن يدعو من هو مجهولا عنده؟!..
ثانيا: استشعار حالة الطلب:
إن الدعاء طلب، وحالة في القلب، وليس مجرد لقلقة باللسان.. فهناك فرق بين الدعاء، وبين قراءة الدعاء!.. إن البعض في ليالي الجمع (يقرأ) دعاء كميل، وفي ليالي شهر رمضان (يقرأ) دعاء أبي حمزة، لا أنه (يدعو)، فالدعاء لم يتحقق، لأن القراءة غير الدعاء..
فإذا تحقق الشرطان، أي أن الإنسان كان عارفا بربه، محبا له، وعاش حالة الدعاء؛ يتحقق الطرف الآخر من المعادلة، وهو الاستجابة.. وإن من المستحيل أن يخلف رب العالمين وعده، لأن خلف الوعد صفة قبيحة، ورب العالمين منزه عن كل قبيح..
فالاستجابة محققة قطعا مع تحقق الشرطين، ولكن بحسب حكمة الله تعالى، فقد تكون في الدنيا عاجلا أو آجلا، أو في الآخرة في عرصات القيامة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.