• ThePlus Audio
Layer-5-1.png

تدبرٌ في سورة ألهاكم التكاثر

بسم الله الرحمن الرحيم

لا تنشغل بالوهم عن الواقع

لا يسمح المؤمن لنفسه أن ينشغل بغير الأمور الجادة في الحياة؛ فهو لا يتأثر إلا بالأمور الواقعية لا الوهمية الملهية: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ.)[١] والمؤمن بصورة عامة يملك زمام نفسه، ولا ينشغل إلا بما يريد.

ويسألني الكثير من المؤمنين: كيف نخشع في الصلاة؟ وأقول: إنني لو تكلمت يوما كاملا عن الصلاة الخاشعة لا ينتفع بكلامي إلا من كانت له القدرة على السيطرة على نفسه وعلى فكره. وإننا نستطيع أن نشبه العاجز عن امتلاك زمام النفس والفكر بالمشلول؛ هل يطالب أحد المشلول أن يكون رياضياً محترفا؟ إن يأمر أعضائه فلا تستجيب له، وإذا أحاطت به النار لا يستطيع الفرار منها.

لماذا أنت عاجز عن التركيز؟

فمن عجز عن السيطرة على جوانحه؛ فهو عاجز عن التركيز في صلاته وفي غير صلاته كالدراسة مثلا. إن الكثير من الطلاب اليوم، يشتكون من الشرود الذهني في الصف، وما يستتبع هذا الشرود من هبوط في المستوى الدراسي. والمبتلى بالشرود الذهني لا يُفلح حتى في تلاوته للقرآن الكريم، وتدبره. هناك اختبار مجاني لمعرفة مستواك في تدبر القرآن الكريم وهو أن تغلق المصحف أثناء القراءة وأن تتذكر الآية التي كنت تتلوها، فإذا لم تتذكرها فأنت مبتلى بهذا الشرود. فكثير من قراء القرآن يقولون: إننا أذا أغلقنا المصحف لا ندري أ كنا نتلوا سورة البقرة أم سورة المائدة؟!

وبعبارة أخرى: إن الذي لا يمكنه السيطرة على باطنه فكراً وحباً وبغضاً؛ لا يفلح في الدنيا ولا في الآخرة. نعم، قد ينال بعض المكاسب الدنيوية ولكن هيهات أن ينال في الآخرة شيئا.

قوام الحركة التكاملية

واعلم أن التركيز والسيطرة على الفكر، قوام الحركة التكاملية. قد يحاول البعض اكتساب مهارة التركيز من خلال رسم نقطة على الجدار والتركيز فيها مدة من الزمن، وهذه تمارين للبسطاء المبتدأين والتي لا ينتفع بها الإنسان كثيرا. هب أنك سيطرت على نفسك في النظر إلى النقطة، ثم ماذا؟ إننا نريد أن نعلم من نخاطب في صلاتنا وفي سورة الفاتحة؟ نريد أن نتوجه إلى عالم الغيب من التكبير إلى التسليم، ولا نريد أن نركز على نقطة ما.

وليعلم البعض الذي يلتزم بظاهر المستحبات كالنظر إلى موضع السجود عند القيام، أنه ملتزم بجملة من الآداب التي تُعين على الخشوع، ولكن الأهم منها؛ السيطرة على الباطن. إذ أن هذه المستحبات وأمثالها من الأمور الظاهرية لا تُخرجك من عالم التشويش.

لم تلهه الحياة الدنيا عن هذه الساعة…!

ولذا يقول سبحانه: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ.)[٢]؛ أي لقد جعلتم السيطرة على قلوبكم بيد عالم الوهم، فألهكام التكاثر وأصبح همكم من الصباح إلى الليل لقمة عيش تكتسبونها لأنفسكم ولأهلكم وأولادكم. إن أمثال هؤلاء همومهم منصبة على خارج الذات، ولا يحمل هما باطينا. إننا لا نمنع التكسب والكد على العيال، كيف وقد وصفت الروايات الكاد على عياله بمالمجاهد في سبيل الله ووصفت الكاسب بحبيب الله عز وجل. ولكن لا يعني ذلك أن يلتهي الإنسان بهذا الكد والكسب عن التفرغ لما هو أهم. ولذا رأينا بعض العمال والكادحين أصبحوا من أولياء الله عز وجل، بل فاق البعض منهم البعض من العلماء.

إن علمائنا الأبرار بالطبع هم على رأس القائمة ولكن بعض من نحتقرهم ولا تقيم لهم وزنا، ينتظر الفراغ من عمل النهار وملاعبة الأطفال وحلول السحر، ليقوم لله والناس نيام. إن ساعة السحر هذه ساعة يهدأ فيها المرض وينام فيها الأرق ويقوم فيها أولياء الله الصالحون. فلا ينبغي أن يلهينا شيء عن ذكر الله عز وجل.

حلال وباطل في الوقت نفسه…!

هذا والملهي قد يكون جائزا الالتهاء به وباطلا في الوقت نفسه. إننا نرى الرجل قد بلغ من العمر ما بلغ وله مكانة في المجتمع، فقد يكون أستاذا جامعيا ولكنه يجلس مع أولاده ويلعب الألعاب الإلكترونية. إننا لا نحرم ما لم يحرمه الله عز وجل؛ ولكنه مشغول ببطال. بخلاف الباطل المحرم كألعاب القمار المشهورة في المدن الكبرى في العالم؛ حيث يدخل الإنسان في تلك النوادي ثريا ويخرج فقيرا. يا له من أمر سخيف أن يحرق الإنسان ماله للتسلي واللهو.

وقد يكون المستحب ملهيا لبعض الخواص؛ إذ يشغله المستحب عن المستحب الأعظم أجرا أو عن الواجب. وقد نضع  البعض منها في خانة الانحراف؛ كالذي يترك الحج الواجب ويذهب إلى الزيارة بدل ذلك. أي زيارة هذه؟ وقد يُطلب من الرجل زيارة أمه المريضة التي تسكن في مكان بعيد في شهر رمضان المبارك، فيقول: إنني مشغول بتلاوة القرآن الكريم…! وقد تجد زوجته إلى جانبه تئن من المرض، وتطلب منه أخذها إلى الطبيب، فيقول لها: سآخذك عند انتهاء هذا الجزء…!

إذا وضع المؤمن التكليف نُصب عينيه؛ فسيتغير مجرى حياته. ابحث عن التكليف وعما يرضي رب العالمين. لا تجعل لنفسك منهجاً ثابتا لا تحيد عنه في جميع الأحوال. لا تكن كالذي اعتاد الصلاة في الصف الأول في المسجد، فإذا جاء ذات يوم متأخرا ولم يجد مكانا في الصف الأول، يشعر بأن عزته ومكانته قد تزلزت. بل قد يُفحش في القول إذا رأى مكانه قد أخذه غيره. ابحث في كل لحظة عن التكليف وعما يريد منك ربك فعله في تلك اللحظة بغض النظر عن أن الأمر يعجبك أو لا يعجبك.

ترك صلاة الليل لزيل عن أخيه الهم

لقد سمعت عن أحد أولياء الله الصالحين، أنه علم ذات ليلة بأن أخاه مبتلى بالهم والغم، فزاره في تلك الليلة وجلس معه حتى الصباح، ولعل الصلاة فاتته في تلك الليلة. ولم يكن يكترث بعدما علم أن رضا الله سبحانه في الجلوس مع ذلك المؤمن إزالة لهمومه وغمومه ولو على حساب صلاة الليل. فقدم الجلوس مع أخيه المؤمن الذي فيه رضا الله عز وجل على الصلاة التي فيها رغبته ورضاه. وهنا نفهم ما روي عن أمير المؤمنين (ع): (اَلْجَلْسَةُ فِي اَلْجَامِعِ خَيْرٌ لِي مِنَ اَلْجَلْسَةِ فِي اَلْجَنَّةِ فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ فِيهَا رِضَا نَفْسِي وَ اَلْجَامِعَ فِيهَا رِضَا رَبِّي.)[٣]

ويقول عز وجل في سورة التكاثر: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[٤]. ما هو هذا النعيم؟ اختلف العلماء في تفسير هذه الآية، فذهب البعض إلى أن النعيم هو جميع النعم الإلهية من طعام وشراب وما شابه ذلك. فتُسئل يوم القيامة على سبيل المثال: هل سميت عند تناول طعامك؟ هل حمدت الله عليه؟ هل أكلت حلالا؟

هل يسألنا الله عن طعام طعمناه؟

ولكن بالرجوع إلى أهل البيت (ع) وهم أصدق الناس قيلا، نجد أنه روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (اَللَّهُ أَكْرَمُ وَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُطْعِمَكُمْ طَعَاماً فَيُسَوِّغَكُمُوهُ ثُمَّ يَسْأَلَكُمْ عَنْهُ وَ لَكِنَّهُ يَسْأَلُكُمْ عَمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.)[٥] تصور أن يدعوك إلى منزله أحدهم، فيسألك عند الخروج من منزله: هل سميت عند تناول طعامك؟ هل حمدت الله عليه؟ هل أكلت زيادة عن الشبع؟ هل شربت الكثير من الماء؟ ألا تقول له: عهدناك كريما، فلماذا هذه الأسئلة؟! لقد أطعمتنا فجزاك الله خيرا، فلماذا تدقق في ما طعمنا؟ فكيف الأمر بأكرم الأكرمين؟

من يُسئل محمد وآل محمد (ص)؟

ولله العالم، يُسئل كل مسلم لم يكن على نهجهم، فيسئل: أما آمنت بالنبي (ص)؟ ألم تسمع حديث الغدير مع كثرة وسائل التواصل ومصادر الثقافة من حولك؟ إنني أعتقد أنه لم يبقى من المسلمين أحد لم يسمع بحديث الغدير، ولم يسمع بالنص على ولاية الأمير (ع) ولم يسمع حديث الاثني عشر (ع). ولو كان من المصرين على مذهبه في الدنيا، لقيل له: أما كنت تحتمل أن يكون الحق في اتباعهم؟

نعم، إن القلم مرفوع عن المستضعف، ولكن من هو المستضعف؟ المسلم المستضعف اليوم من يعيش في الأدغال أو في أعالي الجبال أو غابات الأمزون، هذا إن وجد ثمة مسلم. فهو محق إذا قال: يا رب، أنا عبدك ولم أدري ثمة مذهب غير الذي أعتقد به. وهؤلاء مرجون لأمر الله إما يتوب عليهم وإما يعذبهم. ولله عز وجل أكرم من أن يحاسب إنساناً لا يحتمل الخلاف. فإن كنت تحتمل الخلاف، فإن هذا الاحتمال حجة عليك، ولابد أن تبحث في الدنيا عن الحق. لم يسألك في الدنيا أحد عن عقائدك ولكن ستُسئل أول ما تنزل في قبرك.

نفرح لموالاتنا ونحزن

والمؤمن يحق له الفرح بمولاته النبي وآل النبي (ص). ولكن ينبغي أن يحزن كذلك ويجمه بين هذا الحزن وذلك الفرح. إنك تفرح بولاية أمير المؤمنين (ع) عندما تقول: يا رب، إنني في الدنيا قد توليت عليا (ع)، وإنني لأرجو ألا تمنعني شربة هنيئة من حوضه. وتحزن لأنك تخشى أن تُسئل عن اتباعهم فتكون مقصرا. ألم يُروى عنهم: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ)[٦]؛ أي ليس من شيعتنا أو من خواصنا، وإن كان محبا لنا ومواليا. ما عذرك وأنت تلهج بذكرهم وتعرف منهجهم وتراثهم عندما تُسئل عنهم وقد قصرت في اتباعهم والتأسي بهم؟ إن سائر المسلمين لهم ما قال النبي (ص) ولك ما قال النبي (ص) وما قال علي (ع) وما قال أولاده إلى المهدي (عج)؛ فتراثك أشمل وأجمع، وحسابك أكبر.

ما الفرق بين حق اليقين وعلم اليقين؟

وقد ورد في هذه السورة حق اليقين وعلم اليقين، وذهب كبار المفسرون إلى أن الرؤية الأولى رؤية القلب، والثانية رؤية العين. بمعنى أنك تستطيع في دار الدنيا أن تصل إلى مرحلة اليقين بالآخرة، كما أنت متيقن بوجود زوجتك وأولادك. فالإنسان يصل إلى درجة من الكمال الباطني يرى نار جهنم بقلبه، فكما ورد في وصف المتقين: (فَهُمْ وَ اَلْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَ هُمْ وَ اَلنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ.)[٧]

يرى نار جهنم من زاويتين

بعبارة أخرى: ترى نار جهنم من زاويتين؛ زاوية علم اليقين، وزاوية عين اليقين. أما علم اليقين في الدنيا، وأما عين اليقين في الآخرة. فكلاهما يقين، ولكن الذي في الدنيا علمٌ وفي الآخرة عينٌ. واليقين اذا استقر في القلب كفى صاحبه. إننا وإن كنا نرى النار بأعيننا يوم القيامة؛ إلا أنه من المؤمنين من يراها بعين قلبه في دار الدنيا. فهو عندما يرى أحداً يأكل مال اليتيم، فهو يراه حقيقة يبتلع نارا، ويرى المغتاب يأكل لحم أخيه ميتا حقيقةً.

يستحيل ان تعصي الله في هذه الحالة

ويستحيل أن يعصي ربه من وصل إلى مرحلة اليقين. فالذي يعتقد بأن النظرة إلى المرأة الأجنبية سهم من سهام إبليس، هل ينظر إليها؟ لو كانت بيد إحداهن جهاز ليزر أو غيره وقالت لك: لو نظر إلي لسلطت عليك هذا الجهاز ليحرق شبكية عينك، فهل كنت تنظر إليها؟ بل هل تنظر عندها إلى ملكة جمال العالم؟ إن الرواية تصف النظرة على أنها سهم من سهام إبليس، والذي يعتقد بحقيقة هذا السهم، هل تبقى عنده شهوة إلى الحرام؟ والذي يرى اللحم غير المذكى شرعاً على أنه عفن ونتن وجيفة، هل يتناول منه شيئا ولو كان مطهيا بأفخر المطاعم والفنادق العالمية؟ إن الحل الجامع للقضاء على كل سلبيات الحياة؛ أن نصل إلى مرحلة علم اليقين. وهو ما وصل إليه أمير المؤمنين (ع) في دار الدنيا، فقال: (لَوْ كُشِفَ اَلْغِطَاءُ مَا اِزْدَدْتُ يَقِيناً)[٨]

[١] سورة التكاثر: ١.
[٢] سورة التكاثر: ١.
[٣] عدة الداعي  ج١ ص٢٠٨.
[٤] سورة التكاثر: ٨.
[٥] بحار الأنوار  ج٢٤ ص٥٣.
[٦] محاسبة النفس  ج١ ص١٣.
[٧] نهج البلاغة  ج١ ص٣٠٣.
[٨] بحار الأنوار  ج٦٦ ص٢٠٩.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • لا يسمح المؤمن لنفسه أن ينشغل بغير الأمور الجادة في الحياة؛ فهو لا يتأثر إلا بالأمور الواقعية لا الوهمية الملهية: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ.) والمؤمن بصورة عامة يملك زمام نفسه، ولا ينشغل إلا بما يريد.
  • ويستحيل أن يعصي ربه من وصل إلى مرحلة اليقين. فالذي يعتقد بأن النظرة إلى المرأة الأجنبية سهم من سهام إبليس، هل ينظر إليها؟ لو كانت بيد إحداهن جهاز ليزر أو غيره وقالت لك: لو نظر إلي لسلطت عليك هذا الجهاز ليحرق شبكية عينك، فهل كنت تنظر إليها؟ بل هل تنظر عندها إلى ملكة جمال العالم؟
  • لقد سمعت عن أحد أولياء الله الصالحين، أنه علم ذات ليلة بأن أخاه مبتلى بالهم والغم، فزاره في تلك الليلة وجلس معه حتى الصباح، ولعل الصلاة فاتته في تلك الليلة. ولم يكن يكترث بعدما علم أن رضا الله سبحانه في الجلوس مع ذلك المؤمن إزالة لهمومه وغمومه ولو على حساب صلاة الليل.
Layer-5.png