إن نبي الله لوط، قد لاقى الأمـرَّين من قومـه.. فهذا النبي الذي ابتلي بمجموعةٍ بشرية، يمكن أن يقال عنها: بأنها من أسخف الأمـم التي عاشت في الأزمنة الغـابرة.. إن هؤلاء تميزوا بارتكاب الفاحشة، وإتيان الذكران دون النسـاء.. ويبدو أن هذه الحالة كانت حالة شاذة في حياة الأمـم السابقة، ولو كانت هناك ظاهرة متحققة في باقي الأمم، لذكرها القرآن الكريم.. ولكن يبدو أن التميز بهذه المعصية، جعل الله سبحانه وتعالى يميزهم بالعذاب.
وعجباً لحلم الله جل جلاله!.. ففي الأزمنة الغابرة، وفي زاوية من زوايا الأرض، وجدت طائفة تمارس هذا العمل القبيـح.. ولكن في زاوية محدودة، وبلا دعوةٍ لباقي الأمـم، فعجّل الله عز وجل لهم العقوبة.. ولكن في زماننا هذا، فإن رب العالمين أخّر انتقامه إلى يوم الوقت المعلوم.. رغم أننا نرى بأن هذا العمل أصبح مفلسفاً، وله دعاة، وله أحزاب، وله جماعات، يتبجّحون بذلك من دون أدنى درجةٍ من درجاتِ الخجل.
إن الذي يحيي آمال الأنبياء والمرسلين، والذي يحقق الشريعة، بعد أفولها ولو تطبيقاً، هو الإمام صلواتُ الله وسلامه عليه.. فلا أمل في الذين رفعوا شعار الدفاع عن الإنسان والمُثُل.. فإن هؤلاء هم الذين ضحوا بالمثلِ والقيم، وعليه، فلا بد من يدٍ غيبية، ألا وهي المهدي الذي سينزل مع ذلك النبي الصالح المسيح -روح الله- ليعيد النصاب إلى الأرض بين المسلمين وبين غيرهم.
{وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}.. أنظروا إلى حسن الضيافة!.. {فَمَا لَبِثَ}.. أي أنه سريعاً جاء بعجلٍ مشوي.. ولكن {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}.. إن الضيف إذا لم يأكل من طعام صاحب المنزل، فهذا يعني أن هنالك شيئا في الأفق، وإلا فلماذا لا يأكل من طعام وزاد المضيف؟!.. فهذا الذي يترائى في ذهن كل إنسان.
{قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}.. هنا أيضاً إشارة سريعة بأن علوم الأنبياء مستندة إلى تعليم الله عز وجـل.. فإذا علّمهم الأمر يعلمون، وإذا حجب عنهم لا يعلمون.. فالملائكة تنزل في بيت إبراهيم، وهو لا يعلم بأن هؤلاء ملائكة.. فقد كانوا في زي بني آدم، فحق لإبراهيم ألا يعرف ماهيتهم، إلا بتعليم من الله عز وجل.. ولو كان يعلم أن هؤلاء ملائكة، لا تأكل ولا تشرب، لما كلف نفسه بعجلٍ حنيذ.. وهكذا بالنسبة لنبي الله يعقوب، فولده في البئر، وفي معرض الهلاك: جوعاً، وعطشاً، وهو لا يراه في البئر.. ولكن عن مسافة بعيدة وإذا به يقول: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}.. فهنا يُفتَحُ له المجال ليشم قميص يوسف من مسافات، وحتى هذا القول من يعقوب صار مستنكراً من قبل أولاده.. فإذن، هنالك إخبارٌ غيبي، فيعقوب لم يعلم، ولم يَطَّلع على هذا النبأ السار، إلا حينما أراد اللهُ عز وجل.. وكذلك بالنسبة لإبراهيم.
لماذا قالوا: {بِالْبُـشْرَى} مع أن هؤلاء جاؤوا لهلاك القوم؟.. على كلٍّ -والعلم عند الله عز وجل- من الواضح أن إزاحة العناصر الفاسدة في المجتمع، واستئصالهم، هو لصالح الحركة الإيمانية.. فالإنسان له قيمته، ما دام لم يقف أمام مد الهُـدَى، وأما إذا وقف أمام الهدى، فلا قيمة له.. كما نرى في حياة النبي أرأف الخلق، ولكن عندما يصل الأمر إلى أن تكون جماعة كيهود المدينة عقبة أمام تقدم الإسـلام، فإنه يقف منهم ذلك الموقف، ويقول: {وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}.. كما نلاحظ في الآية الكريمـة.
{وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ}.. يقال: هنا {ضَحِكَتْ} ضحكت من الضحك بفتح الضاد أي حاضت، واعتراها ما يعتري النساء، وليس المراد ضحكت مما يقابل البكاء.. {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ}.. لأنها اعترتها حالة النساء الطبيعية، وهذه الحالة تدل على استقامة بدن المرأة وقابليتها للحمل.
{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}.. فإنها لما سمعت بشارة الملائكة، تمثل لها الحال بتولد ولد من عجوز عقيم وشيخ هرم بالغين في الكبر، لا يعهد من مثلهما الاستيلاد، فهو أمر عجيب على ما فيه من العار والشين عند الناس؛ فيضحكون منهما، ويهزءون بهما.. وذلك فضيحة.
{قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ}.. أي إذا أراد الله عز وجل أن يبارك في إبراهيم على كِبَرِ سنه، فإنه يبارك في زوجته على كِبَرِ سنها، ويعطي لهم هذه الذرية المباركة في مقتبل أعمارهم.. نعم، إذا أراد الله عز وجل أن يبارك في شخصٍ، أو في أمرٍ.. فهو الذي يختار الوقت المناسب حتى لو لم يكن مناسباً بنظر القوم.
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}.. إن هذا النبي نبيٌّ غريبٌ عجيب!.. فهذه السماحة، وهذا الحنان، وهذا العطف، وهذه الإنسانية.. لا تدل إلا على نعته بالجميل، فلم يكن جداله إلا حرصا منه في نجاة عباد الله؛ رجاء أن يهتدوا إلى صراط الإيمان.. ولهذا تقول الآية: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}.. نعم، هذا هو الحلم الإبراهيمي.. أوّاه، كثير التأوّه.. فإن الذي يتبادر إلى الذهن أن (الأواه) يعني كثير التأوّه في المناجاة مع رب العالمين، والذي يخاف من عذاب جهنم –مثلاً- أو يذكر عذاب رب العالمين.. ولكن هنا التفاتة جميلة لبعض المفسرين: أن أواه، أي كثير التأفف، وكثير الألم لكل ما لا يستسيغ، حتى لو كان انحرافاً في المجتمع.. فإبراهيم يتأوه، لا لمسائل القيامة والنار والجحيم فقط -طبعاً لأمته- وإنما لما يرى من الانحرافٍ الاجتماعي، فهو يتأوه.. فكم من الجميل أن يبكي الإنسان في جوف الليل، لا لذنوبه، ولا لآخرته.. وإنما لأمته، ولمن يعيش فيما بينهم.. فعندما يرى منكراً جلياً فاضحاً في النهار، فإنه في جوف الليل يبكي أمام رب العالمين.. نعم، هذا عملٌ إبراهيمي.
أنظروا إلى العلاقة الجامعة: فهو مع رب العالمين منيب، ومع نفسه حليم، ومع المجتمع أوَّاه.. إنها صورٌ مختلفة من التكامل، مجتمعة في هذا النبي الذي يستحق بحـق لقب (خليل الرحمن).
{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}.. إن رب العالمين يأمر إبراهيم بعدم الحلم، فيقول: يا إبراهيم!.. لا تجادلنا في قوم لوط، قد جاء أمر الله.. وهنا علينا أن نحذر هذه النقطة {قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ}.. إن رب العالمين يمهل الإنسان، ويتجاوز عنه، ويعفو، ويؤخّر العذاب.. ولكن يصل إلى درجة من الدرجات، حتى لو جاء إبراهيم الخليل، لا يستجيب لدعوته ولا لشفاعته.
{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}.. فقد جاءت الملائكة على شكل شباب وغلمانٍ، لهم جمالهم الأخـاذ.. فلما رأى الغلمان قد دخلوا في منزله {َقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}.. لأن القوم سيهجمون على دار لوط، طلباً لذلك المنكر.
{وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}.. ما الذي جرى على أنبياء الله طوال التأريخ؟.. كم صبروا في طاعة الله!.. كم تحملوا الأذى في ترويـج شريعته!.. ونحن ما الذي أصابنا في الله عز وجـل؟.. لـوط وهو يدعو الناس ليلاً ونهـاراً، لارتباطه بالسمـاء بما أوتيَ من مَلَكَات -ملكات النبوة- وإذا به يُبْتَلى بقومٍ هجموا على داره، لأجل ارتكاب الفاحشة مع المـلائكة.
{قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ}.. أي: يا قوم إن أردتم تفريغ الغريزة فهؤلاء بناتي -طبعاً يقصد بذلك الزواج من بناته- فالحركة الطبيعية لمن له شهوة، ولمن له غريزة أن يتزوج، لا أن يقترن أو يهجم على الرجال الذين جاؤوا إلى بيت لوط، فهو نبيٌ محترمٌ.. فيقول: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}.. أي إما أن تتقوا الله عز وجـل، وإما أن تراعوا الأعـراف، فهؤلاء ضيوفي.. كيف تطاوعكم أنفسكم دخول منزلي، وارتكاب ما يوجب الخزي أمام الضيف؟.. {لَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ}.
ولكن انظروا إلى وقاحة القوم -وقد حق للملائكة أن تقول عندما خلق آدم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}- {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ}.. أتعرض علينا بناتك؟.. فنحنُ لا حاجةَ لنا في بناتكَ يا نبي الله {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}.. هنا تذكرنا هذه العبارة بعبارة سيد الشهداء صلوات الله عليه في يوم عاشوراء، عندما كان يستغيث فلا من مغيث.
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}.. أي أتمنى أن يكون لي منعة وقدرة وجماعة، أتقوى بها عليكم؛ فأدفعكم عن أضيافي.. {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}.. أو أني أجد عشيرةً خارج هذه الدائرة، فأستند إليها في دفع المنكر عن ضيوفي، وعمَّا لا يرضي رب العالمين.
{قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ}.. إن هذا الارتباك الذي عاشه نبي الله لوط، يناسب عدم معرفته بأن هؤلاء من الملائكة -كقضية إبراهيم عليه السلام-.
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}.. هؤلاء القوم كانوا يرتكبون هذه الفاحشة الشنيعة.. وهذه المرأة في مقام العمل ألحقت بهم في العذاب.. فلم يقل: أنها مرتكبةٌ ما ارتكبوا، بل {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}.. لأنها لم تكن على منهج نبي الله لوط.
{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.. إن رب العالمين يُمهل ولا يهمل.. إن فرج هذه الأمة -وهو خروج ولينا وصاحبنا صلوات الله وسلامه عليه- بالنسبة لله عز وجل، كالصبح بالنسبة إلى ليلنا، بل أقرب من ذلك.
{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}.. إنه عذاب متميِّز، فلم يكتفِ بأن ينزل الله عليهم الصاعقة، كما في بعض الأمم، أو يحولهم إلى قردة وخنازير.. فعلى ما يبدو أن هذه البقعة بقعة مبغوضة لله عز وجل، فقد جعل عاليها سافلها.
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ، مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.. فرب العالمين إذا اشتد غضبه على قومٍ، هكذا يمحوهم من الوجود.. كم من الدول الظالمة، جاءت واندثرت!.. عندما أراد الله سبحانه أن لا يبقي لهم أثراً.. كما كان الأمر كذلك بعد استشهاد إمامنا وسيدنا الحسين صلوات الله وسلامه عليه، فلم يبق لهؤلاء الذين حكموا المسلمين باسم الإسلام، إلا الخزيَ في التأريخ.. إن سياسة رب العالمين هكذا: إما الخسف الظاهري، وإما الخسف التأريخي.. صحيح أن بنو أمية لم تقلب بهم الأرض، ولكن التأريخ قلبهم.. ورأينا كيف أنه في سنواتٍ بسيطة، وإذا أحدهم يتبرأ من انتسابه إلى أمية، حفظاً لدمه، ولئلا يصيبه ما أصاب الذين تزعموهم طوال هذا التأريخ، الذي يعبّر عنه بأنه من أظلم الأيام التي مرت على المسلمين، ويكفي أنه في هذه الفترة، وقعت معركة الطَّف بمآسيها وبآلامها.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.