• ThePlus Audio
Layer-5-1.png

بهذه الوصايا الست، يمتاز الخطيب عن غيره

بسم الله الرحمن الرحیم

المبلغ يسير على خطى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)

إذا أردنا أن نبحث آية تخص المبلغين وخادمي الشريعة، فهي قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)[١]. إنها تتضمن جميع مواصفات المبلغ الناجح. وقد نزل القرآن بلغة إياك أعني واسمع يا جارة، وهي وإن كانت تخاطب النبي (ص)، إلا أنها تشمل جميع المبلغين. إنها أوصاف لكل من أراد التأسي بالنبي (ص) في دعوته. هناك بعض التوجيهات اللازمة التي ينبغي أن يلتفت إليها كل مبلغ ناجح وهي توجيهات قابلة للتنفيذ.

أولا: التنوع الثقافي في الخطاب. قد يغلب على بعض العلماء الجانب الأخلاقي، فيكتفي بالمواعظ الأخلاقية ويُملي على جلسائه من كتاب جامع السعادات وكأنه الشيخ النراقي. وقد يغلب على البعض الجانب الفلسفي فيتحدث عن أمور لا تناسب الشباب اليوم. لقد استمعت إلى خطيب يتحدث عن الحق وهل هو نسبي أم هو معنى منتزع؟ هل له أصالة؟ وما شابه ذلك من المفاهيم، فقلت في نفسي: وبماذا ينتفع الشاب من هذا الحديث؟ إنه صاحب توجه فلسفي وتُعجبه هذه المفاهيم ولكن ينبغي مراعاة مستوى المستمعين وقدرة استعيابهم لهذه المواضيع. لا يُمكن أن تقرأ بحثا كبحث الحق في حاسية المكاسب للشيخ الأصفهاني مثلا وتُلقيه على الشباب.

هكذا كان الشيخ الوائلي يزين خطابته

إن الخطيب يُنوع في المواضيع التي يطرحها على المنبر، فيأخذ ضغثا من التأريخ وضغثاً من الفلسفة والعقائد وضغثاً من الأدب وضغثا من الأخلاق والفقه وإلى آخر ذلك. وقد كان الشيخ الوائلي رحمه الله يهتم بهذا التنوع وكان يُزين كلامه بالشعر الجاهلي منه وغير الجاهلي وبالقصص والبدائع اللغوية وغيرها من المواضيع التي كان يستعين بها الشيخ في خطاباته وكانت تعطيه نكهة خاصة.

وتارة نرى الخطيب، يستهل منبره بمسألة شرعية هي مورد ابتلاء، وهو أمر حسن لا بأس فيه. لا يقولن قائل: ليس من شأني ذكر المسائل الفقهية على المنبر، فالتنوع الثقافي أمر يُزين الخطيب الناجح لا يشينه.

ثانيا: معرفة سوق الخطابة. إذا أراد تاجر ما فتح محل تجاري لبيع الكتب مثلا ينظر إلى جيرانه في السوق وإلى ما تحتوي عليه محالهم من الكتب، فإذا كان جاره يعرض الكتب الحديثية فلا يعرضها هو أيضا؛ بل يأتي بكتب في مواضيع أخرى يفتقدها السوق فيعرضها في محله إن كان يبحث عن الربح.

احتدام التنافس في سوق الخطابة

لقد أصبح الناس مع انتشار وسائل التواصل وكثرة الفضائيات، يُميزون بين الخطباء وبين ما يعرضونه عليه، فيعلمون أن الخطيب الفلاني مفوق في المجال الفلاني ويُميزون بين الخطباء. لقد اعتاد الناس نمط معينا من الخطباء البارزين في أيامنا هذه من خلال مشاهدتهم عبر الفضائيات ووسائل التواصل ولا يرضون بدونهم. ونعتبر ذلك من سلبيات الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث يقارن الناس بين الخطيب في الفاطمية الأولى وبين صاحبه في الفاطمية الثانيه ويفاضلون بينهما وهلم جرا. ومن أراد دخول سوق الخطابة اليوم، لابد وأن يكون على علم باحتدام هذه المنافسة، وأن تكون له بضاعة مميزة تستطيع المنافسة في هذا السوق. فلا تنتج سلعة يوجد نظيرها في السوق أو لا تجد طلبا عليها. هذا ومن دواعي العمل الخطابي والتبليغي – أثراً لا هدفا – الجانب المعيشي والمكانة الاجتماعية للخطيب. فمن أراد أن يدخل هذا المجال، فلابد أن يكون ناجحاً في جذب هذا السوق قربة إلى الله، لا لأجل القضايا المالية.

هل يستغني الخطيب عن الدروس الحوزية؟

ثالثا: استتثمار العمق الحوزوي في عالم التبليغ. رحم الله الشهيد الصدر الذي كتب كتاب البنك اللا ربوي بناء على طلب قُدم له من الكويت، وكتب كتابي فلسفتنا واقتصادنا إبان المد الشيوعي واحتيج إلى دورة أصولية فكتب الحلقات. إنني أشبه ذهن هذا العالم الكبير وأمثاله من العلماء الأفذاذ بالدريل الذي يحفر في الجص ويحفر الإسمنت ويحفر في الخشب. فأذهانهم حفارة وقادة تدخل في أي حقل ترى الحاجة فيه ماسة وتُبدع فيه.

فإذا أراد الخطيب أن ينجح في مجال عمله، فلا ينتقص من الدروس الحوزية. إننا نرى بعض الطلاب ممن لم يستفد كثيرا من الدروس الحوزية، ينتقد المنهج الدراسي وبعض الكتب التي تُدرس فيها ويقول: ما جدوى الرسائل والمكاسب؟ وماذا ننتفع من مبحث الترتب؟ ما هي آثار هذه الأبحاث وقيمتها؟ والحال أن آثارها تظهر في النذر مثلا. ثم لماذا لا نعتبر هذه الدروس كالرياضيات البحتة التي يُبدع متقنها في شتى المجالات؟ إن الفلسفة والمنطق والأصول هي مقدمات نظرية، تجعلك أكثر إتقانا في أبحاثك. ولذا نرى الطالب المتقن لهذه العلوم، يُبدع في أي بحث من الأبحاث لأنه يمتلك ذهنا متوقدا. بعبارة أخرى: من أراد أن يكون خطيبا ناجحا، فلابد من أن يُتقن الدروس الحوزوية ولو بإنهاء السطوح. ويكفي أن يفهم الأبحاث التي وردت في الكتب التي تُدرس كالكفاية والمكاسب والرسائل وإن كان عاجزا عن تدريسها.

رحم الله الشيخ المبرور بهجت، فقد كان يأتيه الطالب للتعمم فيقول له: درست اللمعة؟ فإذا كان قد درس اللمعة قال له: الآن وقت التعمم؛ أي لا مجال للتعمم قبل دراسة اللمعة. فكيف بالطالب الذي أكمل اللمعة وما بعد اللمعة ودخل البحث الخارج؟ هذا وقد دخل بعض الطلبة إلى الجامعات ورأوا ما يُدرس في الجامعة من البلاغة والأدب والأصول والشريعة لا يُدرس بالعمق الذي يتم تدريسه في الحوزات العلمية وبحسب قولهم: إنها أشبه بالمزحة قياسا بدروسنا.

فن الخطابة لـ ديل كارنيجي

رابعا: تعلم العلوم الحديثة. إنني إلى حد ما أشعر بارتياح لهذه البرمجة اللغوية العصبية. أحيانا تكون لي جلسات مع بعض المدربين وقد ألقيت خطبة في تقييم هذا العلم الذي هو كما يقال: سلاح ذو حدين. وإن كان فيه شيء من المبالغة أيضا؛ فهم يُكثرون من الألفاظ والمصطلحات التي إن ضغتها لا يخرج منها إلا قطرات ليس إلا، ولكنه إجمالاً يتضمن نقاطا إيجابية على الخطيب الاستفادة منها. وقد قال عز من قائل في وصف أولي الألباب: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)[٢]. فأحيانا أجد لهؤلاء المدربين لفتات، تفتح بابا من أبواب التأثير على الآخرين وخاصة في المجال الأسري. فقد تُنقذ توصية واحدة، الأسرة من التفكك والانهيار. وهناك كتاب لـ ديل كارنيجي يتحدث فيه عن فن الخطابة وإن كنت لا أؤيد كل ما ورد في هذا الكتاب، إلا أنه فن من الفنون لا بأس أن يطلع عليه الخطيب؛ فيأخذ منه الصحيح ويدع السقيم.

ويُقال: أن رؤساء الجمهورية في أميركا وغيرها، يدخلون دورة في الخطابة قبل تنفيذ الرئاسة. ولذا ترى أحدهم عند الخطابة له حركات تمثيلية وهي حركات مدروسة بالتأكيد. فيُقال لأحدهم مثلا: اليوم حالتك حالة فرح فتحدث فرحا مستبشرا أو اليوم تحدث بحزن أو بغضب وهكذا.

ومن أصول علم هذه البرمجة اللغوية، ما روي عن أمير المؤمنين (ع): (فَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ اُبْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اَللَّحْظَةِ وَ اَلنَّظْرَةِ)[٣]. قد نرى الخطيب من باب التيامن لا ينظر إلا إلى يمين المجلس وهذا خطأ منه. لابد من توازن في النظرات وتقسيمها بين الناس، حتى يشعر كل واحد منهم أنه هو المخاطب دون غيره، وهنا يكن سر من أسرار النجاح في التبليغ.

كتاب لغة الجسد

ومن الكتب النافعة في هذا المجال كتاب لغة الجسد. إن بعض الخطباء يحرك يديه بشكل رتيب وتلقائي وكأنه جهاز يتحرك، والحال أن لحركة الرأس معنى ولحركة اليد اليمنى معنى، ولحركة اليد اليسرى معنى، ولحركة الأصابع مجتمعة معنى غير حركة الإصبعين وإلى آخر ذلك. إن الله عز وجل لم يعطنا هذه القوى اعتباطا وإنما لكل هذه الحركات معاني ودلالات. ويُمكن الاستفادة من هذا العلم ف التأثير الخطابي؛ فالواعظ بإمكانه القيام ببعض الحركات التي تعزز ترسيخ الموعظة في نفوس المتلقين.

خامسا: ومن التوصيات التي أعتبرها على رأس كل التوصيات التي ينبغي أن ينتبه إليها المبلغ؛  أن الذي يتحدث هو القلب لا اللسان. ليست الخطابة حركة فكين والحنك وإخراج الصوت من الخيشوم وإنشاء الألفاظ وإنما الخطابة كلام القلب، وكما أورد صاحب الكفاية البيت الوحيد في كتابه:

إنّ الكلام لفي الفؤاد و إنّما
جعل اللّسان على الفؤاد دليلا

التأثير الروحي أبلغ من الخطابة

لا ينفك التأثير الخطابي عن التأثير الروحي؛ فالروح هي التي تؤثر في الأرواح والنفوس. والروح غير الصادقة، لا تؤثر في نفوس الآخرين شيئا. فإذا لك يكن الإنسان مقيم الليل، لا تؤثر مواعظه التي يحث فيها على قيام الليل، كذا لا تنفع موعظة الغضوب عن الحلم والتحلم، بل يُفتضح أمره. بعبارة أخرى: الخطابة نقل طاقة من روح وإدخالها في روح أخرى، والخطيب الناجح هو الذي ينقل هذه الطاقية الإيجابية إلى قلوب المتلقين، وقد يتم ذلك من دون كلام. إن رسول الله (ص) كان إذا لم يعجبه شيء أعرض بوجهه، وكان ذلك كافيا لكي يُغير الرجل من سلوكه.

لقد رأى أحدهم قد بنا بيتا له شرفة في الطريق فلم يعجبه ذلك، فأعرض بوجهه عنه، فما لبث صاحب البناء أن هدم البناء. فلا يدور الأمر مدار الصراخ والصياح والزجر في الخطاب، بقدر ما يدور حول الروح السليمة التي لها تأثير على الأرواح، وعلى النظرة التي تغير من مجرى حياة الكثير إن كانت قد صدرت من مؤمن صادق.

كيف تنتقل الطاقة الإيجابية؟

إننا نرى الغربيين يعتمدون على اليوغا والتأمل وما شابه ذلك من الأباطيل؛ إلا أنني أعتقد أن للسان والعين منفذان لإيصال الطاقة الإيجابية إلى الآخر. ولهذا تجلس في محضر عالم أو مرجع تقليد، فتخرج من عنده مشحونا بالطاقة الإيجابية من دون أن يحدثك حتى.

وتجد قمة هذه الطاقة الإيجابية تحت قبة الحسين (ع) وقباب الأئمة (ع). قد جربت أن تزور أحد الأئمة (ع) زيارة سريعة، فتخرج وقلبك مشحون بالطاقة الإيجابية وترى في نفسك تغييرا لم تكن تجده قبل الزيارة. فإذا أثبتنا إمكان انتقال الطاقة من الخطيب، فكيف لا تثبت للأئمة (ع)؟

سادسا: معرفة حاجة المجتمع. لا يمكن أن يصف الطبيب علاجا للضغط لمريض يعاني من مرض السكر؛ كذا لا يُمكن أن يتحدث الخطيب عن أمراض لا يعاني منها المجتمع ويدع الأمراض التي تفشت فيه. إن هذا الشاب الذي تذكر له فضائل أمير المؤمنين (ع) كحديث الغدير وحديث المنزلة يعاني من مشاكل تربوية وأخلاقية، فلا أقول لك: دع الحديث عن الفضائل، ولكن لا تخصص عشرة كاملة للحديث عنها وتدع التطرق إلى تلك المشاكل.

استبيان الخطيب وإفساح المجال للجمهور

هذا ومن اللطيف أننا نسمع ببعض الخطباء يطلب استبيان من أهل القرية أو المدينة التي يخطب فيها؛ خاصة إذا كانت الأجواء شبابية وفيهم جامعيون ومثقفون. فهو يذهب إليهم ويطلب منهم أن يقترحوا عليه المواضيع التي يودن الحديث عنها. ولقد دعيت إلى مكان كان الخطيب فيه من النوع العصري، فقلت للهم: ضعوا صندوقا على باب الحسينية وليكتب كل واحد ما يريده من الخطيب وانتقاداته لأدائه في الليالي السابقة في ورقة ويلقيها في ذلك الصندوق. وقد شارك الجميع وكان أكثر المشاركين النساء وقلت للشيخ: اقرأ، هذه الأوراق وقرأ لنا الأوراق وكانت بين مؤيد ومنتقد ومقترح وكانت المحصلة نافعة لي؛ فقد استفدت كثيرا من الانتقادات التي وجهت إلي وكانت صحيحة. وهذه حركة إيجابية جدا في مجال تطوير الخطابة. لا ينبغي أن يتحدث الخطيب من عالمه فقط؛ فالمستمع إنسان له عالمه ولابد من مراعاة ذلك.

[١] سورة الأحزاب: ٤٥-٤٦.
[٢] سورة زمر: ١٨.
[٣] نهج البلاغة  ج١ ص٣٨٣.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • قد يغلب على بعض العلماء الجانب الأخلاقي، فيكتفي بالمواعظ الأخلاقية ويُملي على جلسائه من كتاب جامع السعادات وكأنه الشيخ النراقي. وقد يغلب على البعض الجانب الفلسفي فيتحدث عن أمور لا تناسب الشباب اليوم. لابد أن يكون الخطيب جامعا معالجا لجميع المشاكل في المجتمع.
  • لا يمكن أن يصف الطبيب علاجا للضغط لمريض يعاني من مرض السكر؛ كذا لا يُمكن أن يتحدث الخطيب عن أمراض لا يعاني منها المجتمع ويدع الأمراض التي تفشت فيه. إن من تذكر له فضائل أمير المؤمنين (ع) قد يعاني من مشاكل تربوية وأخلاقية، فلا أقول لك: دع الحديث عن الفضائل، بل عالج همومه ومشاكله.
Layer-5.png