ان مشكلة الغفلة لهى من المشاكل المشغلة لبال الكثيرين ممن يعيشون حقيقة : ان الغفلة عن مبدا الوجود ، تحيل الانسان الى موجود فارغ لا قوام له ، فان الانقطاع عن مبدا الفيض فى الوجود ، لهو انقطاع عن مصدر كل بركة وتسديد .. فلنتصور جهازا انقطع عنه التيار – وهو سالم فى كل خصوصياته – اوهل له اثر وجودى فى الحالة تلك ؟!
لا بد من استيعاب مجموعه من المفاهيم فى هذا المجال .. فهناك الجاحد الخارج عن دائرة الايمان ، وهنالك الناسى لذكر ربه ، وهناك الغافل الذى يذكر ربه بشكل متقطع ، وهنالك الساهى الذى تنتابه حالات من السهو، الا انه سرعان ما يعود منها .. ومن الواضح ان عكس كل هذه الصفات السلبية هى : صفة الايمان ، والذكر ، واليقظة ، والاستحضار .. فاذا اجتمعت هذه الامور فى الفرد صار قريبا من درجة الانسان الكامل .
ليس فى الغفلة دائما عنصر التعمد والاصرار، فان العدو المتمثل بالشيطان يريد منا آثار الغفلة ولو حصلت من غير عمد!! .. والشاهد على ذلك قوله تعالى : { ود الذين كفروا لو تغفلون عن اسلحتكم وامتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } وذلك فى خطاب الغازين ، حيث يدعوهم الى عدم الغفلة عن الاسلحة ، والحال ان الغازى فى المعركة لا يغفل عن سلاحه عمدا ، وذلك لان الغفلة عن السلاح ، تؤدى الى تضرر المقاتل ، قبل تضرر مجموع المقاتلين .
ان النسيان الذى هو رافد من روافد الغفلة ، ياتى من الشيطان كما فى قوله تعالى : { وما انسانيه الا الشيطان ان اذكره } ومن الواضح ان نسيان بعض الامور قد تفوت على الانسان كثيرا من المنافع .. الا ان الاعظم من ذلك ، هو حينما يقرر الخالق ان يصرف العبد عن آياته ، فيلقى عليه الادبار ، ويختم على قلبه وبصره .. ومن المعلوم ان الغفلة التى يوجبها الشيطان ، من الممكن الخروج عنها بالتوبة ، ولكن الله تعالى لا يختم على القلب الا بعد بلوغه اعلى درجات القسوة ، وفقدان قابلية الهداية ، وهى مرحلة مخيفة حقا ، لا بد من ان نستجير بالله تعالى منها .
من روافد الغفلة هو : العيش مع الغافلين والانس بهم ، والحال ان القرآن يامرنا ان لا نقعد بعد الذكرى مع القوم الغافلين .. ولا بد من ان ننوه فى هذا المجال : ان على العبد المؤمن ان يبلغ درجة من النضج الباطنى ، بحيث يكون له شاغل من نفسه ، فيسيح فى عالمه الباطنى : تاملا فى مسيرته فى هذا الوجود تارة ، ومناجاة مع واهب الوجود تارة اخرى ، وبذلك يخرج عن كل وحشة ووحدة ، وهذا امر ميسور له متى ما اراد .. والحال ان انس اهل الدنيا بالدنيا ، يحتاج الى مقدمات كثيرة ، لا يوفق لها صاحبها دائما ، ومن هنا يعيشون الانتكاسة تلو الانتكاسة !! .
لو اتقن الانسان الاتيان بالمحطات العبادية الخمسة : من الوقوف بين يدى الله تعالى ، بظاهرها وباطنها ، فانه يسهل عليه ملء الفراغات المتخللة بينها .. وبعبارة اخرى : يحاول من غشيه شيء من جلال الله تعالى ، ان يعمل فى سريان ذلك النور المكتسب ، الى الساعات المتخللة بين تلك المحطات .. واذا بعد فترة من الزمان ، تتحول حالة التذكر المتقطع : الى رتبة الملكة الثابتة ، بحيث يكون الالتفات الى غير مصدر النور ، من موجبات الوحشة والكآبة .
ان هنالك فرقا واضحا بين الاستحضار القلبى للمحبوب المطلق ، وبين الاستحضار الذهنى له ، فان الكثير منا لو راجع فؤاده ، لراى شعاع ذلك النور متوهجا فى قلبه ، الا ان المشكلة فى انه لا يستحضر وجود مولاه فى ذهنه ، وذلك لكثرة وجود المشغلات التى تذهل الانسان عن التفكير فى حالة المعية التكوينية .. ومن الآليات العملية لتجاوز هذه الحالة هو : الالتزام بالتسمية قدر الامكان – كما دعت اليها الشريعة قبل كل امر ذى بال – وبالتالى يتوزع الذكر الالهى – ولو فى مرحلة الالفاظ – على نشاطه اليومى .. وهذا بدوره مقدمة للذكر القلبى الدائم ، رزقنا الله تعالى شرف تحققه .
ما من شك فى ان جهد العبد ومجاهدته بين يدى الله تعالى ، من موجبات انفتاح باب القرب على العبد … الا ان العنصر الحاسم فى هذا المجال : ارتضاء المولى لجهد عبده ، وترشيحه لدائرة الجذب التى من دخلها كان آمنا .. وخير ما يعكس لنا هذه الهبة التى هى من انفس هبات هذا الوجود هو قول على ( عليه السلام) : ( ان ربى وهب لى قلبا عقولا ولسانا سؤولا ).. وفى فقرة أخرى يصف تلك الطائفة المتميزة من الخلق بوصف غريب حقا وذلك عندما يصفهم قائلا : ( ان الله سبحانه و تعالى جعل الذكر جلاء للقلوب ، تسمع به بعد الوقرة ، و تبصر به بعد العشوة ، و تنقاد به بعد المعاندة ، و ما برح الله عزت آلاؤه فى البرهة بعد البرهة ، و فى ازمان الفترات عباد ناجاهم فى فكرهم و كلمهم فى ذات عقولهم).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.