إن النبي قمة شامخة لا يرقى إليه نبي ولا وصي نبي.. أرقى من خلقه الله في عالم الوجود البشري، هي روح المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).. رب العالمين رسم في لوح النفس الإنسانية، أجمل صورة تتحملها هذه النفس.. جبرائيل (ع) عندما كان مع النبي في سفره المعراجي يقول: (لو تقدمت قيد أنملة لاحترقت)، ولكن النبي وصل إلى ذلك المقام الذي ذكره القرآن الكريم: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}؛ {مَا أَوْحَى} سر لا يعرفه أحد، كان بين النبي (ص) وبين رب العالمين.. ولكن هذا كله لا ينافي أن نكون من المستنين بسنته بمقدار ما يمكن.. إن الذين يتسلقون الجبال، وهدفهم الوصول إلى القمة، يوجد بينهم جماعة يائسة من الوصول، ولكنهم يصلون إلى مرحلة عالية من الجبل؛ لأن هدفهم الوصول إلى القمة.. أما الإنسان الذي يعيش في الوادي، ولا يهمه القمم، ينطبق عليه قول الشاعر:
ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر
فإذن كلنا مطالبون أن نتمنى هذه القمة العالية؛ قمة النبي المصطفى (ص).. لذلك ننقل بعض صور التأسي، وبعض العبر في حياة النبي الأكرم:
أولا: الرحمة.. إن النبي (ص) من مظاهر الرحمة الإلهية الغامرة.. فالنبي بعث بأعظم دين، وبأكمل دين، وبأعظم كتاب.. وهو أعظم شخصية في أسوء أمة في تاريخ البشرية، حتى الذين يؤرخون لحضارات العرب، لا ينكرون أن الجاهلية كانت قمة التسافل في حياة البشرية.. الفراعنة كانوا يقتلون أعداءهم، قتلوا من آل فرعون؛ لأنهم كانوا يخافون من موسى (ع).. ولكن هل سمعت فرعونيا يذبح ابنه، وخاصة البنت، التي هي مظهر العاطفة والحنان؟.. هذه القصة كانت واقعية في زمان الجاهلية، وهي أن الأب يحفر حفرة لدفن ابنته وهي حية، والبنت تنفض الغبار عن لحية أبيها.. ولولا أن القرآن الكريم يثبت ذلك {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}؛ لقلنا: هذا افتراء على أعراب الجاهلية!..
وعليه، فإن النبي بعث في أسوء أمة، وهو في أعلى درجات الكمال.. انظروا إلى الرحمة الإلهية الغامرة، كان بإمكان رب العالمين أن يبعث النبي في مصر، أو في بلاد فارس، أو عند الروم، هؤلاء كان لديهم حضارات.. ولكن بعثه في الجاهلية، وهذه قدرة النبي أن جعل منهم أصحاب بدر وحنين وأحد.. فأصحاب النبي اعترفوا بجاهليتهم، وكانوا يقولون: (كنا رعاة الإبل، والآن صرنا رعاة الشمس)؛ أي ننظر متى تزول الشمس لنصلي صلاة الزوال، ومتى تغرب لنصلي صلاة المغرب.. أعينهم ووجودهم تغير رأسا على عقب!.. كلنا يعرف قصة حنظلة (غسيل الملائكة) شاب تزوج، ليلة الزفاف كان مجنبا، ولكن داعي الجهاد نادى بالجهاد في سبيل الله، خرج وقاتل فقتل؛ فأصبح شهيدا وهو مجنب.. فكان غسيلا للملائكة التي غسلته من جنابته.
فإذن، إن الدرس الأول هو الرحمة التي شملت الأمة الجاهلية.. هذه الرحمة موجودة أيضا في حياتك.. فالبعض يائس من ذريته، أو من زوجته، أو من أقاربه؛ لماذا اليأس؟!.. رب العالمين بعث الرحمة في الجاهلية، فقلبهم رأسا على عقب!.. قل: (يا مقلب القلوب والأبصار!.. يا مدبر الليل والنهار!.. يا محول الحول والأحوال!.. حول حالنا إلى أحسن الحال)؛ حيث أن (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء).. إذا أردت أن تدخل على وزير أو وكيل وزير -مثلا- وأنت لا تثق بقضاء الحاجة، صلّ ركعتين وقل: (يا رب، قلب قلبه)!.. ورد عن الإمام الرضا (ع): (إذا أراد الله أمراً، سلب العباد عقولهم، فأنفذ أمره وتمت إرادته.. فإذا أنفذ أمره؛ رد إلى كل ذي عقل عقله، فيقول: كيف ذا؟.. ومن أين ذا).. حاول في مثل هذه المواقف، أن تلتجئ إلى مقلب القلوب والأبصار، لتيسير الأمر الذي تخاف عسره.
ثانيا: شكر النعمة.. إن هناك الكثيرين ممن قاتلوا النبي (ص)، ولكن لم تنزل بحقهم سورة أو آية.. لم تنزل سورة حول فعلة ذلك الوحشي الذي شق قلب سيدنا حمزة، وأخذ كبده، والذي أورث النبي حزنا.. فالروايات تقول: (ما من يوم أشد على رسول الله -صلى الله عليه وآله- من يوم أحد، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله…).. ولكن القرآن الكريم أهمل ذكره.. أما أبو لهب هذا الإنسان السفيه هو وامرأته، فقد نزلت سورة في حقهم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، وذلك لأنه كفر بالنعمة، فهو عم النبي (ص)، وقد تمت عليه الحجة.. ولهذا قتل شر قتلة في معركة بدر، كان السهم ينطلق من يد المسلم، فيمشي يمينا وشمالا إلى أن يصيب الكافر، والقرآن الكريم يصرح بهذه الحقيقة: {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.. رب العالمين بهذه العصي والأقواس والسهام، قضى على الكفار وعلى المنافقين.. فإذن، لنحذر الانتقام الإلهي في حق من تمت عليهم الحجة.. فالنعم لها ضريبة، ولها حجة على العباد.. والذي يعرف أكثر؛ الحجة قد تمت عليه بدرجة أعظم.
ثالثا: تربية النفس.. لسنا من دعاة الاعتكاف، ولا الاعتزال، ولا الصومعة.. ولكن المؤمن يحتاج إلى فترة، يعيش فيها مع نفسه قليلا.. فهو في الناس ومع الناس؛ يداوم ويعمل ويعاشر زوجته؛ ولكنْ في نفس الوقت مهتم بتربية نفسه، إلى أن يصل إلى مستوى الثبات.. إذا غفل عن ذكر الله -عز وجل- يعيش الألم، وإذا عصى الله يعيش الألم الباطني.. النبي الأعظم (ص) أمضى ثلثي عمره، وهو في حركة خفيفة بين غار حراء، وعبادة المسجد الحرام.. وبُعث نبيا في سن الأربعين، ودعا إلى الله -عز وجل- في ثلاث وعشرين سنة.. ثلثا العمر في تربية لنفسه ولذاته، والثلث الأخير انطلق لتبليغ الدعوة.. ويا له من ثلث مبارك: صلاتنا عليه، أذاننا، إقامتنا، وحجنا؛ كلها من بركات الثلثين!.. البعض يعمل في وزارة لمدة خمس وعشرين سنة ثم يتقاعد، بعد أن يتقاعد وفي اليوم الأول وهو جالس في البيت، يضع رأسه بين ركبتيه ويعيش الألم ويقول: خمس وعشرون سنة مضى من عمري، وحصيلة ذلك راتب تقاعدي!.. والنبي الأكرم في ثلاث وعشرين سنة، قلب الأمة، وقلب البشرية.. ليس معنى ذلك أن المتقاعدين يعيشون الألم، إذا كان يعمل من أجل الكد لعياله، والاستغناء عن شرار الناس؛ فكلها عبادة.. لا يفهم الكلام خطأ، فالكلام فيمن لا نية له.
لماذا لم يبعث الله -عز وجل- النبي في سن العشرين؟.. إمامنا الجواد (ع) تصدى للإمامة في سن التاسعة، لو أن النبي بعث في سن العشرين، لبقي في الأمة ثلاث وأربعين سنة.. البركات تزداد والكلام يزداد، ولعله دخل المدينة فاتحا منذ سنوات، ولكن الله -عز وجل- بحكمته رسم تاريخ النبوة في سن الأربعين، وهذا سن الكمال والرشد.. قال رسول الله (ص): (إن الله ليكرم أبناء السبعين، ويستحي من أبناء الثمانين أن يعذبهم.. وقال: الشيخ في أهله كالنبي في أمته.. وقال: إذا بلغ الرجل أربعين سنة، ولم يغلب خيره شره، قبّل الشيطان بين عينيه، وقال: هذا وجه لا يفلح).. قال الصادق (ع): (من روى على مؤمن رواية، يريد بها شينه، وهدم مروته ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله -تعالى- من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان).. حتى الشيطان يزهد فيه، وفي وجوده.
رابعا: الجمع بين التدبير والدعاء.. نحن لا نعلم قواعد التأييد والنصر الإلهي في معركة بدر.. النبي هو النبي، والإمام علي (عليه السلام) كان في زمرة المجاهدين والمقاتلين، شاء الله أن ينزل عليهم الملائكة المسومة.. ولكن في فترة قصيرة، في معركة أحد تنقلب الموازين، وإذا بالمسلمين يبلون بتلك الهزيمة، ثم النصر، ثم الهزيمة، ثم الأزمات.. نحن لا نعلم متى يأتي التأييد الإلهي، فإذن ماذا يعمل الإنسان لاستنزال النصر والتأييد؟.. عليه أن يلتجئ إلى ربه.. نحن لا ندري واقع الأمور، ربما في معركة بدر الله -عز وجل- أنزل النصر على نبيه، لدعوة دعاها المصطفى (ص).. ولكن بعد أن هيأ الأمور، حيث: جيّش الجيش، وقسمهم ميمنة وميسرة، فالحرب لها قواعد.. وناجى ربه: (اللهم!.. إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبداً).. لو كان النبي في المدينة، ويدعو الله بالنصر؛ لما جاءت الملائكة المسومة.. إنما نزلت الملائكة؛ لأن المسلمين جمعوا بين التدبير، وبين الدعاء.
شاء الله -عز وجل- أن يجعل في اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول مولد النبي الأكرم: مفجر الإسلام، وداعي الرسالة.. وكذلك ولد ذلك الوجود المبارك الذي أحيا الدين؛ الإمام جعفر الصادق (ع).. الأئمة (ع) كلهم نور واحد، وكلهم في الفضل سواء، ولعلي (ع) عليهم فضل.. الحسين والصادق (ع) كلاهما أحيا معالم الدين: ذلك بالسيف، وهذا بالقلم.. ذلك بالدم، وهذا بالكلم.. الحسين (ع) باستشهاده عمل على إيقاظ الأمة من سباتها.. الحسين (ع) يوم عاشوراء وفي السنة (٦١) من الهجرة عمل بدمه الطاهر على إيقاظ الأمة من سباتها، ليأتي دور الإمامين: الصادق والباقر (ع) لبثّ العلوم في هذه الأمة.
انظروا إلى حياة الإمام زين العابدين (ع)، وإلى حياة الصادقين أو الباقرين!.. لماذا أربعة آلاف تلميذ يتتلمذون على يد الإمام الصادق (ع)؟.. لماذا التراث الفقهي معظمه عن الإمامين الباقر والصادق (ع)؟.. ولماذا قلّ الحديث عن الإمام زين العابدين (ع)، والإمام الجواد أو الإمام الهادي والعسكري؟.. حيث أن لهم روايات قليلة نادرة؛ قياسا بالإمام الصادق (ع)؟.. رب العالمين أراد أن يقول: إذا ثنيت الوسادة لهم، وإذا فتح المجال لهم، وإذا أقبلت الأمة عليهم؛ سيكون هذا عطاؤهم.. ولكن أنتم أغلقتم الأبواب، أنتم من جعل الإمامين الهادي والعسكري في خان الصعاليك، وجعلتموهم في سامراء في النفي الإجباري.. أنتم من جعل موسى بن جعفر في غياهب السجون ١٤ أو ١٥ سنة، وهو في ظلم المطامير.. أنتم من حبستم هذه الأنوار الطاهرة، وإلا لو فتح الباب لهم؛ هذا عطاؤهم.. حتى أن أبا حنيفة يقول: (لولا السنتان، لهلك النعمان).. ذلك لأن الإمامين الصادق والباقر عاشا فترة انتقالية من الحكومة الأموية إلى العباسية.. لو أن إماما واحدا عاش ستين سنة، وهو حاكم في الأمة؛ لكان للتاريخ وجه آخر.. ولكن رب العالمين ادخر وليه، فلولا فكرة المهدوية لعاش الإنسان الإحباط واليأس ولقال: يارب أهكذا خاتمة الأمور؟!.. بعد كل هذه الأنبياء الذين يبلغ عددهم (١٢٤) ألف نبي، واثني عشر إماما، ثم تختم الأمور بخاتمة سيئة ثم تقوم القيامة؟.. أين آمال الأنبياء؟.. أين جهود الأنبياء والأولياء؟.. رب العالمين يريد أن يجلل تاريخ البشرية، ويزين ختام البشرية، يريد أن يجعل ختام الأرض والحضارات والنبوات والوصايات، بدولة إمامنا المهدي (ع)؛ ليأتي المسيح (ع) ويصلي خلفه.
يقول الشاعر:
طـالت ليالي الانتظار فهــل *** يا ابن الزكي لليل الانتظار غدُ
أدرك بطلعتك الغــر لنا مقلاً *** يكاد يأتي على إنسانها الرمـد
وقال الشاعر بيتين من أجمل ما قيل في حقه (صلوات الله وسلامه عليه):
يا غائباً عنــا ولست بغائــب *** لا زلت مثل الشمس بين سحائب
ألطــاف جودك لـم تزل ما بيننا *** يا خير ماش في الوجود وراكب
الخلاصة:
١- إن النبي قمة شامخة لا يرقى إليه نبي ولا وصي، وهذا لا يتنافى مع أن نكون من المستنين بسنته صلوات الله عليه وآله بل كلنا مطالبون بأن نتمنى هذه القمة العالية .
٢- أن النبي (ص) من مظاهر الرحمة الإلهية الغامرة فهو بعث في أسوء أمة فقلبهم رأساً على عقب، وهذه الرحمة موجودة في حياتنا أيضا لذا علينا أن لا نيأس من الصلاح والإصلاح.
٣- لنحذر الانتقام الإلهي في حق من تمت عليه الحجة، فللنعم ضريبة، ولها حجة على العباد، والذي يعرف أكثر فإن الحجة عليه أعظم.
٤- إن المؤمن يحتاج إلى فترة يعيش فيها مع نفسه قليلا، فهو في الناس ومع الناس،ولكنه في الوقت ذاته مهتم بتربية نفسه حتى يصل إلى مستوى من الثبات.
٥- في معركة بدر جمع المسلمين بين التدبير والدعاء فكان ذلك سببا لنزول التأييد الإلهي.
٦- رب العالمين يريد أن يجعل ختام الأرض والحضارات والنبوات والوصايات، بدولة إمامنا المهدي ( عج)، ولولا فكرة المهدوية لعاش الإنسان الإحباط واليأس.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.