- ThePlus Audio
بر الوالدين
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد حث القرآن الكريم في كثير من آياته على احترام الوالدين والاهتمام بهم والإحسان إليهم. ومن هذه الآيات الشريفة قوله سبحانه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[١]، وهي آية تتوجه بالخطاب إلى كل مولود ولد على وجه هذه الأرض؛ فلا يوجد إنسان في هذه الأرض لا والد له. وانتقلت الآية مباشرة بعد الحديث عن التوحيد إلى مسألة أخلاقية. فهي لم تنتقل من أصل من أصول الدين إلى فرع من فروعه؛ بل انتقلت إلى مسألة أخلاقية ليست من الأصول وليست من الفروع. والآية تعبر عن أصل ديني وهو وحدانية الله سبحانه والبر بالوالدين وليس ثمة فصل بينهما.
الحزم والشدة في الأمر بـ بر الوالدين
وقوله سبحانه: (وَقَضَى)؛ تعبير بليغ يدل على الأمر بشدة وجزم فيما أمر به سبحانه. فهو يتحدث عن أمر فصل لا مجال للتراجع فيه أبدا. ومثال ذلك: أن يطلب الملك من الرعية أمرا معينا في الأوقات العادية من دون شدة وحزم ولكن إذا حدث بالبلد شيء وتعرضت الدولة والشعب إلى خطر أو دخلوا في أزمة معينة؛ يأتي الأمر من الملك مصحوبا بشدة وحزم، فيقول: قضينا على الشعب بكذا وكذا وهي قرارات حاسمة لا مجال للنظر فيها ولا التراجع عنها. وقد استخدم سبحانه كلمة: (قضى) تعبيرا لعبادته أولا ولطاعة الوالدين ثانية، وهي عبارة محفزة.
الشرك العملي
لقد بني الإسلام على التوحيد. والفسق بشقيه الفكري والعملي يأتي من عدم الإيمان بوحدانية الله عز وجل. والكافر أو الفاسق لا يؤمنون بوحدانية الله عز وجل. فأما الكافر فلا يعتقد بالتوحيد نظريا ولا عمليا، والفاسق لا يعتقد بالتوحيد عمليا؛ فهو مشرك بتعبير القرآن الكريم لإطاعته هواه واتباعه للشيطان الرجيم، وذلك قوله سبحانه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)[٢] فتراه ينساق خلف الشهوات ويطيعها إطاعة تؤثر على توحيده بالله عز وجل. وهناك فئة من الناس بدل أن يحاربوا الشرك بالمعنى الذي ذكرنا؛ يحاربون المسلمين الذين يتقربون إلى الله عز وجل بحب النبي (ص) وأهل بيته (ع) ويتوجهون بهم إليه سبحانه في قضاء حوائجهم.
هل يمكن للمؤمنين أن يكونوا مشركين؟!
وعبادة غير الله عز وجل تكون على قسمين: إما أن تكون عبادة جلية، كعبادة الجاهليين لأصناهم من قبيل: اللات والعزى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام المعروفة. وإما أن تكون عبادة خفية لا يسلم منها إلا من رحم الله، فقد ورد في الأثر: (مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ فَإِنْ كَانَ اَلنَّاطِقُ عَنِ الله فَقَدْ عَبَدَ الله وَإِنْ كَانَ اَلنَّاطِقُ عَنْ إِبْلِيسَ، فَقَدْ عَبَدَ إِبْلِيسَ)[٣]، وينطبق هذا الحديث على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في يومنا هذا، فهي أصنام قد يعبدها الإنسان من دون الله عز وجل من حيث لا يشعر؛ فإذا جلست أمام التلفاز أو تجولت في منصة من هذه المنصات تذكَّر هذه الرواية، واعلم إن كانت هذه الوسائل تنطق عن الله فأنت على صواب وإن كانت تنطق عن الشيطان فقد عرضت نفسك للشرك وعبادة الشيطان..!
صور الإحسان بالوالدين
ولقد جاءت كلمة الإحسان في هذه الآية الشريفة نكرة؛ إذ أن الإحسان له صور متعددة وللولد أن يختار المناسب من الإحسان لوالده. فعلى سبيل المثال إن كان الوالد مريضا والولد عنه بعيدا؛ فالإحسان يقتضي أن يرسل إليه تكاليف العلاج بالإضافة إلى متابعة وضعه الصحي من خلال الهاتف وما شابه ذلك، وإن كان الولد قريبا من والده أن يتولى بنفسه معالجة والده من الأخذ إلى الطبيب وإحضار الدواء وما شابه ذلك، وإن كان يعاني من أزمة نفسية؛ فالإحسان إليه إخراجه من ضيقه وتفريج همومه.
الحرص على عدم جرح الوالدين أو إظهار الانزجار والانزعاج منهم
ولا يجد الأولاد كثير معاناة في معاملة الوالد الشاب الذي يتولى أمره بنفسه؛ بل يكد على عياله وينفق عليهم ويوفر لهم ملزومات الحياة، وهم بحاجته في هذه الحالة أكثر من حاجته إليهم؛ إلا أن المعاناة والجهد يكون في التعامل مع الوالد الذي امتدت به الحياة وأصبح بتعبير القرآن: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ)[٤]، في أرذل فترة من عمره، وهنا يأتي الأمر الإلهي بتوخي الدقة في التعامل وعدم استعمال التعابير الجارحة، وهو قوله سبحانه: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)[٥]، وقد يحسن الولد خدمة والديه إلا أنه يتمنى رحيلهم ويتأفف في باطنه عشرات المرات وفي ذلك مخالفة للنص القرآني بعدم التأفف ظاهرا كان التأفف أو باطنا..!
ما المراد من جناح الذل؟
ثم يأمر سبحانه بالمبالغة في إكرام الوالدين في قوله سبحانه: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)[٦]. وإن كان الذل هو خلاف طبيعة المؤمن، فقد قال سبحانه: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[٧]، وقد ورد في الأثر: (إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوَّضَ إِلَى اَلْمُؤْمِنِ أُمُورَهُ كُلَّهَا وَلَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)[٨]؛ إلا أنه سبحانه ندب إلى التذلل أمام الوالدين وهي ذلة مطلوبة.
ويشبه المفسرون خفض الجناح في قوله سبحانه: بفرخ الطائر الذي يخفض جناحه لوالدته عندما تأتي له بالطعام ويتذلل لها ويخضع طمعا لما في فمها في حالة من الاستعطاف والاسترحام. وينبغي للمؤمن أن يكون حاله حال هذا الفرخ في إظهار الذل والتواضع والخضوع لهما وإن كان شابا قويا متمكنا ذا منصب اجتماعي مرموق أو عالما من علماء الأمة أو سائر ذلك من الصفات. وليس خفض الجناح هذا من الضعف أو الاستكانة أو من هزيمة نفسية؛ بل يكون التذلل لهما رحمة بهما، وتقرباً الى الله بهما. ثم تحث الآية على البر المعنوي كما تحث على البر المادي في قوله سبحانه: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) ، فالآية تطلب أن يشملهم المؤمن بدعائه. وقد يدعو المؤمن في صلاته لأربعين مؤمنا وينسى والديه.
لماذا عطف الإحسان للوالدين على التوحيد؟
ذلك لأن الأب يقوم بدور الله في الأسرة..! فالله عز وجل هو الرزاق المربي لهذه الأسرة ولكن من خلال الوالدين. فهو يرزقهم بما يكد هذا الأب المسكين من الصبح حتى المساء. والله سبحانه هو الذي يخرجهم إلى الوجود ولكن بواسطة هذه الأم التي تتحمل من الآلام ما تنوء بها أفذاذ الرجال بدءا بآلام الحمل وانتهاء بآلام المخاض وما يتخلههما من صنوف الإرهاق والتعب، وذلك قوله عز وجل: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ)[٩].
وكأن للوالدين حق على الله عز وجل في إيجاد وتربية الأولاد. وقد قال سبحانه في نهاية هذه الآيات: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا)[١٠]؛ فثم مجال للتعويض إن كان الإنسان مقصراً في ماضيه إن كان صادقاً في التعويض، ورجع عن الإساءة للإصلاح، فإن الله تعالى يغفر للتائبين.
خلاصة المحاضرة
- لقد حث القرآن الكريم في كثير من آياته على احترام الوالدين والاهتمام بهم والإحسان إليهم. ومن هذه الآيات الشريفة قوله سبحانه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ، وهي آية تتوجه بالخطاب إلى كل مولود ولد على وجه هذه الأرض.
- لقد بني الإسلام على التوحيد. والفسق بشقيه الفكري والعملي يأتي من عدم الإيمان بوحدانية الله. والكافر أو الفاسق لا يؤمنون بوحدانية الله. فأما الكافر فلا يعتقد بالتوحيد نظريا ولا عمليا، والفاسق لا يعتقد بالتوحيد عمليا؛ فهو مشرك بتعبير القرآن لإطاعته هواه واتباعه للشيطان الرجيم.
- لماذا عطف سبحانه الإحسان بالوالدين على التوحيد؟ لأن الأب يقوم بدور الله في الأسرة. فهو الرزاق المربي لهذه الأسرة ولكن من خلالهما. فهو يرزقهم بما يكد هذا الأب من الصبح حتى المساء وهو الذي يخرجهم إلى الوجود ولكن بواسطة هذه الأم التي تتحمل من الآلام ما تنوء بها أفذاذ الرجال.