السفر الدنيوي والسفر الأبدي:
إن هنالك فرقاً بين السفر الأخروي والسفر الدنيوي:
أولاً: السفر الدنيوي يكون لمدة قصيرة، أما السفر الأبدي فهو سفر طويل المدى.
ثانياً: السفر الدنيوي يحتاج إلى عدة بسيطة بحسب المدة الزمنية، أما سفر الآخرة فإنه يحتاج إلى زاد بحسبه.
ثالثاً: سفر الدنيا يحتاج إلى رفقة في السفر، أما مشكلة السفر الأبدي؛ أنه سفر موحش لا رفقة فيه، حيث يكون الإنسان وحيداً في عالم البرزخ.
رابعاً: أهوال السفر الدنيوي محدودة، ولكن أهوال ذلك السفر أهوال كما وصفها الإمام علي (عليه السلام): (فغير موصوف ما نزل بهم).
الاستعداد للسفر الأبدي:
إن الإنسان المؤمن إنسان واقعي، لا يتهرب من ذكر الموت، ولا يخاف من هذا السفر، بل يعد له العدة.. هنالك حالات قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت، وفي البرزخ، وعند النفخ في الصور، وعند العرض، وعند الحساب، وعند الميزان.. فمن بركات تذكر الحياة الآخرة: الإحساس بالجدية في الحياة.. ولكن هنالك ذكراً للموت، يدخل في باب المرض النفسي.. حيث أن البعض يبتلى بالاكتئاب نتيجة الخوف من المستقبل، فهؤلاء دائماً يعيشون الارتباك؛ لأنهم يفكرون في المستقبل، وفي الجانب السلبي منه.. والذي يتذكر الموت من دون وعي، ومن دون إطار مدروس، فكأنه يدفن نفسه وهو حي: يعيش حالة الخوف والقلق، لا يبتسم، ولا يتعامل في الحياة بجدية، ولا يستثمر أمواله، حتى أن البعض لا يتزوج، بحجة أن هذا زمان الظهور، فإذا تزوج معنى ذلك أنه سيرتبط بأسرة، وعندها قد لا يوفق للخروج مع الإمام!.. هذا المنطق غير سليم، فهنالك رواية عن النبي (صلی الله عليه) تقول: (إذا قامت القيامة، وبيد أحدكم فسيلة؛ فليغرسها).
بركات تذكر الموت:
أولاً: التفاؤل.. إن المؤمن إنسان جاد، متفائل في الحياة، في أحلك الظروف يعيش حالة التفاؤل، وهذا الذي سمعناه أيام العزاء الحسيني في المقاتل: أنه كلما اشتد البلاء على سيد الشهداء، أشرق لونه الشريف؛ لأنه يعلم أن هذه خطوات متسارعة للذهاب إلى لقاء الله عز وجل.. في ليلة عاشوراء نصبت خيمة، وكان هنالك جفنة فيها مسك، كان الأصحاب يتعطرون بهذا المسك استعداداً للقتال في يوم عاشوراء، يريدون أن يبرزوا للميدان وهم متطيبون.. بينما التطيب عادة يكون في الأعراس وفي المناسبات السارة، فهؤلاء كأنهم مقدمون على عرس عظيم، وكان البعض منهم يمزح ويضحك!.. (فجعل برُير يضاحك عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن: يا بُرير أتضحك؟.. ما هذه ساعة باطل، فقال برير: لقد علم قومي أنني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا، وإنما أفعل ذلك استبشارا بما نصير إليه.. فو الله ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم ساعة، ثم نعانق الحور العين).. إذن، تذكر الموت لا بالنحو المرضي، أو التشاؤمي؛ أمر مبارك.
ثانياً: النمو المتوازن.. رأى الزهري علي بن الحسين (عليه السلام) ليلة باردة مطيرة، وعلى ظهره دقيق وهو يمشي، فقال: يا بن رسول الله ما هذا؟.. قال: (أريد سفراً أعدّ له زاداً، أحمله إلى موضع حريز)، فقال الزهري: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبى.. قال: أنا أحمله عنك، فإني أرفعك عن حمله.. فقال علي بن الحسين (عليه السلام): (لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه.. أسألك بحق الله، لما مضيت لحاجتك وتركتني).. فانصرف عنه، فلما كان بعد أيام قال له: يا بن رسول الله!.. لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً.. قال: (بلى يا زهري!.. ليس ما ظننت، ولكنه الموت وله أستعدّ، إنما الاستعداد للموت تجنّب الحرام، وبذل الندى في الخير).. الإمام (عليه السلام) لم يرض أن يحمل عنه ذلك الغلام الثقل، وهذه حالة من حالات العزة الإيمانية.. فالمؤمن صاحب البضاعة أولى بحملها، لا يلقي كّلّه على الغير.
الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء كان على بدنه أثران: أثر الجراح والسنان والسهام، وأثر الجراب.. تقول الرواية: “وُجد على ظهر الحسين بن علي (عليه السلام) يوم الطف أثرٌ، فسألوا زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك، فقال: (هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره، إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين)”!.. الحسين (عليه السلام) كان يحمل همّ المستضعفين في المدينة، لا فقط كان ثائراً مجاهداً؛ بل كان رسالياً مبلغاً ومعلماً، وكان متكفلاً للفقراء والأيتام؛ هذه هي الجامعية التي يريدها الإسلام في المؤمن.
إن البعض -مع الأسف- يأخذ جانباً من الشريعة، فيستهويه ويسترسل فيه.. فلا يعرف من الدين إلا الخيرات، فيهمل نفسه وعائلته، ويكون همه فقط أن يقوم بعمل الخير.. والبعض يسترسل في الجانب العلمي والأكاديمي، وهمه التأليف وغيره، ولا يحمل همّ الأمة.. والبعض يسترسل في الجانب الجهادي، ولا يعرف من العبادات، ومن صلاة الليل، ومن الخلوة مع رب العالمين شيئاً.. والبعض يتفرّغ للعمل السياسي، فينسى كل هذه الحقول.. هذا كله نمو غير متوزان!.. أما النبي الأكرم (صلی الله عليه) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)؛ فقد كان لهم هذا التوازن في كل شؤون الحياة؛ فلنتعلم منهم!..
ثالثاً: الجدية في الحياة.. إن تذكر الموت، يجعل الإنسان حريصاً على استغلال كل لحظة من لحظات حياته.. فالإنسان الذي يتذكر الآخرة والفقر الذي سيكون فيه يوم القيامة، من الطبيعي أن يقلل نومه إلى أقصى حد ممكن، فقد روي عن رسول الله (صلی الله عليه) أنه قال: (قالت أمّ سليمان بن داوود لسليمان: يا بنيّ!.. وإيّاك وكثرة النوم باللّيل، فإنّ كثرة النوم باللّيل تدع الرجل فقيراً يوم القيامة).. فهذا الإنسان لا يمكن أن يجلس وهو ساكت، دائماً يكون في حالة ذكر، أينما تواجد!.. ونظراته محدودة، ينظر بمقدار؛ لأن المؤمن له وضع متميز.. كل إنسان يجب أن يصل إلى بعض المدارج التكاملية.. وهذا الكلام ليس للزهاد، والعبّاد، وعلماء الحوزات، والذين هم في الخلوات.. الإسلام جاء ليربي كل واحد منا، على أنه الفرد الجامع لكل صفات الكمال (تخلقوا بأخلاق الله)!.. وإلا ما المانع في الرهبانية؟!.. فحياة الصوامع والأديرة حياة جميلة جداً!.. حيث يعيش الإنسان على قمة جبل، وهنالك نهر جار، وشجر، وطيور تغرد؛ وهو يصلي لربه صباحاً ومساءً!.. جاء الإسلام ليقول: “لا رهبانية في الإسلام”.. يريد من الإنسان أن يكون ذاكراً لله -عز وجل- في كل حال.. يقال: أن الإمام علي (عليه السلام) أراد أن يقص شاربه، فطلب منه المزين أن يكف عن التمتمة، كي يقوم بعمله، فامتنع الإمام عن ذلك.. وهذا معنى قول الله عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ﴾.. المؤمن في حالة ذكر متواصل.
رابعاً: البحث عن العبودية.. المؤمن عينه دائماً على التكليف، ليس عنده تكليف ثابت.. وبعبارة أخرى: المؤمن يبحث عن العبودية، لا العبادة.. المؤمن وجود متعبد، لا عابد؛ أي في كل ليلة له معاملة.. مثلاً: إن خُيّر المؤمن بين الذهاب إلى مجلس حسيني أو إلى صلاة الجماعة، وبين البقاء مع زوجة تعيش قلقاً واضطراباً، أو مريضة.. فإنه يغتنم الفرصة، ويبقى إلى جوار زوجته؛ لأنه من أفضل القربات إلى الله -عز وجل- رفع الهم والغم عن المؤمن.. وهذا لا يحتاج إلى رأس مال، إنما يحتاج إلى لباقة، وإلى كلام له معنى، وإلى قدرة على إدخال السرور على المؤمن، ومن الأمثلة على ذلك:
١. أحدهم كان يمر بظرف نفسي متأزم، فزاره عبد صالح من الذين يتهجدون في الليل، وعرف أنه يمر بظرف نفسي عصيب، فبقي معه إلى الصباح، كي يدخل عليه السرور، ولعله في تلك الليلة لم يصلِّ صلاة الليل.. هذا إنسان متعبد؛ لأنه لو كان عابداً ملتزماً ببعض الأوراد والأذكار، عليه أنه يكمل هذا الذكر كيفما اتفق، هذا الإنسان لم يعد إنساناً ربانياً.. انظروا إلى الإنسان المؤمن، كيف أنه يبحث في كل فرصة عما يقربه إلى الله عز وجل!..
٢. عن أبان بن تغلب قال: “كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) في الطواف، فجاء رجل من إخواني، فسألني أن أمشي معه في حاجة، ففطن بي أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: (يا أبان، من هذا الرجل)؟.. قلت: رجل من مواليك سألني أن أذهب معه في حاجته، قال: (يا أبان!.. اقطع طوافك، وانطلق معه في حاجته فاقضها له)، فقلت: إني لم أتم طوافي، قال: (أحص ما طفت، انطلق معه في حاجته)!.. فقلت: وإن كان طواف فريضة، فقال: (نعم، وإن كان طواف فريضة)، إلى أن قال: (لقضاء حاجة، مؤمن خير من طواف وطواف حتىّ عدّ عشرة أسابيع)، فقلت: جعلت فداك فريضة أم نافلة؟.. فقال: (يا أبان، إنمّا يسأل الله العباد عن الفرائض، لا عن النوافل).
خامساً: ترتيب الحياة.. إن ذكر الموت يرتب الحياة للإنسان، مثل برادة الحديد التي لو تم نثرها؛ فإنه لا يجمعها جامع، ولكن إذا وضع تحت هذه الورقة قطعة مغناطيسية، فإن البرادات تجتمع بشكل منظم، بحيث تصبح خطوطاً سالبة وأخرى موجبة.. وبالتالي، فإن كل شيء ينتظم.. فذكر الموت من لوازم ذكر الله؛ لأن من أحب أحداً أحب لقائه.. ومن أحب رب العالمين؛ أحب اللقاء به.
سادساً: الوعي.. إن تذكر الموت وأهوال القيامة، عنصر إيجابي لا سلبي.. ليس الحل أن لا نقرأ في هذا المجال، وليس الحل أن لا نذهب إلى زيارة القبور، والمرضى في المستشفيات، أو ما شابه ذلك.. الحل أن نواجه الحقيقة بجرأة وشجاعة.
سابعاً: الزهد في الدنيا.. هذا المفهوم الذي لم يظلم في التأريخ مفهوم كما ظُلم!.. هذا المفهوم الذي هو مفهوم قرآني، ونبوي، ومفهوم في روايات أهل البيت (عليهم السلام).. بمجرد ذكره، يتبادر إلى الذهن: ترك الدنيا، والعزوف عنها، وترك الزواج، والعمل التجاري، والاكتفاء بأدنى متطلبات الحياة، وترك التعلم.. الخ؛ أي ترك الخارج.. والحال بأن هذا ليس بزهد أبداً؛ هذا تركٌ!.. وقد يكون هذا الإنسان التارك للدنيا، من أكثر الناس التهاء بها؛ لأنه قد يترك الدنيا طلباً للدنيا.. بعض الذين يتشبهون بالزهاد، يتركون الدنيا طلباً لأمر معنوي؛ كالوجاهة والشهرة، علماً أن (آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرئاسة)!.. ولكن هذا مستعد أن يأكل التمر واللبن والماء، ولا ينوع في ملذات الحياة، ليقال: فلان زاهد.. فإذا صار زاهداً، مالت إليه القلوب.. والحال بأن الذي يفرح لخفق النعال ملعون، كما ورد في الروايات: (ملعون من خفقت خلفه النعال)؛ أي مطرود من رحمة الله.. بينما الخمول بالنسبة إلى المؤمن أشهى إليه من الشهرة؛ لأنه في الخمول يتفرغ لربه.. فالإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عندما أُدخل السجن، شكر الله -عز وجل- على هذه النعمة؛ لأنه وجد مجالاً للخلوة والعبادة.. ولكنه بعد ذلك تمنى الموت، ألم يدع ربه بهذا الدعاء: (يا مخلص الشجر من بين ماء وطين)!.. لأنه في أواخر عمره الشريف، وقع الهتك على الإمام بما كان يمسّ مقام الإمامة.. فلعل من باب تبدل الظرف، الإمام لم يتحمل هذا الهتك الذي يعود إلى مقامه، لا إلى شخصه.. فإذن، (ليس الزهد أن لا تملك شيئًا، بل الزهد أن لا يملكك شيء)؛ يا له من تعبير!..
تعريف الزهد:
إنه عملية في القلب، فالمؤمن يطبق هذا الزهد في الفؤاد، وليس في الخارج.. إذ ليس الحل في طرد الأهل والزوجة والأولاد، وبيع العقارات، والجلوس في صومعة.. إنما الحل يكمن في الدخول إلى النفس، واستئصال حب الدنيا منها؛ بمعنى عدم التعلق.. مثال ذلك: نبي الله سليمان (عليه السلام) من أنبياء الله العظام، ورد ذكره في القرآن الكريم، هذا النبي العظيم الذي طلب من الله -عز وجل- ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، ورب العالمين استجاب له إلى حد كبير.. وكان له من الملك، ما ذُكر بعضه في القرآن، وبعضه لم يُذكر، ولكنه كان عابداً زاهداً، كان قلبه في عالم آخر.
فإذن، إن الزهد حركة في القلب.. ولكن كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى الزهد، وهو يعيش في جو مترف، فالدنيا غرارة جميلة؟!.. الحل هو في العلاقة القلبية، انظروا إلى قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾.. فالقرآن الكريم مذهل، حيث أنه يأتي بالإعجاز من خلال السبك المحكم.. فالذي زين للناس: حب الشهوات من النساء والقناطير المقنطرة.. فبين النساء والقلب، هنالك حب الشهوات.. إذن، المرأة ليس فيها عيب، وليس العيب في القناطير المقنطرة من الذهب والفضة؛ إنما العيب في الشهوة وحب الشهوة!.. هنالك أمران في هذا المجال:
الأمر الأول: الارتباط القلبي، بالنسبة إلى النساء: فإن العاطفة والحب الزوجي في محله.
الأمر الثاني: التعلق القلبي؛ أي لا يقبل الانفصام.
مثلاً: رب العالمين قدر للإنسان زوال نعمة المال..عليه أن ينظر إلى قلبه: إن تألم؛ فهو ليس بزاهد.. يقول القرآن الكريم في آية أخرى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾.
أحد العلماء الأبرار يوم الغدير، سقط له حفيد في الماء ومات.. فقال: هذه هدية من الله -عز وجل-، بينما أخذت النساء بالبكاء.. فمن الطبيعي أن يتألم الإنسان!.. حتى النبي (صلی الله عليه) أيضاً بكى على ولده، عندما ماتَ ابنه قال: (إن القلب ليخشع، وإن العين لتدمع، ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)؛ النبي لا يقول إلا حقًا، ويرضى بقضاء الله عز وجل.. ولكن المؤمن عندهُ عاطفة جياشة، وليس هنالك دليل على أن أحدنا عليه أن يطمس عواطفه؛ فهذه حركة عاطفية طبيعية، المؤمن من أرق الناس!.. النبي الأكرم (صلی الله عليه) عندما وصل إلى رواية وقوف أرواح الموتى على دور الناس في ليلة الجمعة، بكى عندما نقل هذه الرواية.. في خبر عن النبي (صلی الله عليه): (أرواح المؤمنين تأتي كل جمعة إلى السماء الدنيا بحذاء قبورهم وبيوتهم، وينادي كل واحد منهم بصوت حزين وعين باكية: يا أهلي!.. ويا ولدي!.. ويا أبي!.. ويا أمي!.. ويا أقربائي!.. اعطفوا علينا -يرحمكم الله- بدرهم، أو بدينار، أو برغيف، أو بكسوة؛ يكسوكم الله من لباس الجنة!.. ثم بكى النبي (صلی الله عليه) وبكينا معه، فلم يستطيع النبي (صلی الله عليه) أن يتكلم من كثرة بكائه، ثم قال (صلی الله عليه): أولئك إخوانكم في الدين، فصاروا تراباً رميماً بعد السرور والنعيم، فينادون بالويل والثبور على أنفسهم، يقولون: يا ويلنا!.. لو أنفقنا ما كان في أيدينا في طاعة الله ورضائه، ما كنا نحتاج إليكم.. فيرجعون بحسرة وندامة، وينادون: أسرعوا بصدقة الأموات)!.. النبي (صلی الله عليه) بكى لحالة المؤمن في عالم البرزخ؛ هذه عاطفة النبي لأهل البرزخ، فكيف لأهل الدنيا؟!.. هو الذي في ليلة معركة بدر كان متألماً؛ لأنه كان يسمع أنين عمه العباس في الأسر.. فالنبي الأكرم (صلی الله عليه) شفقته تعدت إلى الكفار وإلى غير المسلمين، (لما كان يوم بدر أسر المسلمون من المشركين سبعين رجلا، فكان ممن أسر العباس عم رسول الله (صلی الله عليه)، فكان رسول الله (صلی الله عليه) يسمع أنين العباس فلا يأتيه النوم.. فقالوا: يا رسول الله، ما يمنعك من النوم؟.. فقال رسول الله (ص): كيف أنام وأنا أسمع أنين عمي؟!.. فأطلقه الأنصار).. هذه الرواية تجعل المؤمن يشتد أمله بشفاعة الحبيب المصطفى (صلی الله عليه)، يوم القيامة، فكل شفاعة تنتهي إليه (صلی الله عليه).
وبما أن الزهد حالة قلبية، وجب علينا أن نقطع هذه الصلة التي هي حب الشهوات، بين القلب وبين والنساء والبنين.. فلو وصل الإنسان إلى هذه الدرجة، ألا يتحوّل إلى أقوى إنسان على وجه الأرض، من حيث القوة الداخلية؟!.. هذا الإنسان يعيش أعلى درجات الصحة النفسية.. هذا الإنسان حالته في السجن، كحالته ليلة الزفاف.. نعم يصل المؤمن إلى هذه الدرجة: يرى هذا لطف إلهي تجلى على شكل زفة له، وهذا لطف إلهي تجلى على شكل سجن في طاعة الله عز وجل.. كل شيء في الوجود يتغير عنده، كما قالت السيدة زينب (عليها السلام): (ما رأيت إلا جميلاً)!.. لأن الله -عز وجل- شاء أن يرى أخاها شهيداً، وشاء أن يراهن سبايا؛ فمادام رب العالمين ارتضى لهن الأسر؛ فهو جميل!.. وقد لخص الشاعر هذه النظرية في بيت واحد، حيث يقول:
أنا للعالم عاشق *** حيث منه الكون أجمع
فإذن، هذه الحالة في الفؤاد، هي من آثار تذكر الموت.. وهنيئًا لمن وصل إلى هذا المقام المنيع، حيث يرى: أن كل ما في الوجود هو ملك لله سبحانه وتعالى، وأمانة بين يدي الإنسان، متى ما شاء أخذ، ومتى ما شاء أعطى!..
نزع الروح:
إن نزع الروح حالة مزعجة للمؤمن والكافر، إذا كان قلع الظفر فيه ألم، فكيف بقلع الروح؟!.. قيل للصادق (عليه السلام): صف لنا الموت!.. قال (عليه السلام): (للمؤمن كأطيب ريحٍ يشمّه، فينعس لطيبه، وينقطع التعب والألم كلّه عنه.. وللكافر كلسع الأفاعي، ولدغ العقارب أو أشدّ)، قيل: فإنّ قوماً يقولون: إنه أشدّ من نشر بالمناشير، وقرضٌ بالمقاريض، ورضخٌ بالأحجار، وتدوير قطب الأرحية على الأحداق!.. قال: (كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين، أَلا ترون منهم مَن يُعاين تلك الشدائد؟.. فذلكم الذي هو أشدّ من هذا لا من عذاب الآخرة، فإنه أشدّ من عذاب الدنيا).. قيل: فما بالنا نرى كافراً يسهل عليه النزع، فينطفئ وهو يحدّث ويضحك ويتكلّم؟.. وفي المؤمنين أيضاً مَن يكون كذلك، وفي المؤمنين والكافرين مَن يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد؟!.. فقال: (ما كان من راحة للمؤمن هناك؛ فهو عاجل ثوابه، وما كان من شديدة؛ فتمحيصه من ذنوبه؛ ليرد الآخرة نقياً، نظيفاً، مستحقّاً لثواب الأبد، لا مانع له دونه.. وما كان من سهولة هناك على الكافر، فليوفّى أجر حسناته في الدنيا؛ ليرد الآخرة وليس له إلا ما يُوجب عليه العذاب.. وما كان من شدة على الكافر هناك، فهو ابتداء عذاب الله له بعد نفاد حسناته، ذلكم بأنّ الله عدلٌ لا يجور).
(للمؤمن كأطيب ريحٍ يشمّه، فينعس لطيبه، وينقطع التعب والألم كلّه عنه).. بعض العلماء كان يتمنى من الله -عز وجل- أن لا يرى سكرات الموت، وقد استُجيب دعاؤه.. ففي ليلة من الليالي تعبد لربه، وأكمل أعماله العبادية، ووضع رأسه ونام، وإذا به يذهب إلى ربه.. ومن هنا ينبغي للمؤمن أن لا ينام من دون وضوء، (من بات على وضوء، بات وكأن فراشه مسجده).. وخاصة مع تسبيحات الزهراء (عليها السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (مَن بات على تسبيح فاطمة -عليها السلام- كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).. هنيئًا للبعض هكذا ينتقل من هذه النشأة!.. أحدهم مات ميتة فيها شيء من الصعوبة، في حادث سير مروّع.. فعندما شوهد في عالم الرؤية، سُئل: كيف رأيت الحادث؟.. فقال: لم أشعر بشيء إلا بمقدار لدغة سيجارة.. ولكن علينا أن نعلم، أن هذه معاملة استثنائية، لا للجميع؛ إنما لأن هذا الإنسان ليس عليه شيء.. فرب العالمين ما خلقنا ليعذبنا ﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ﴾؛ إنما هذا التعذيب، والسكرات التي يمر بها البعض؛ هي تمحيص للمعاصي والذنوب.
(وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشد).. هنا لاحظوا إلى حالة الأخذ والعطاء بين الإمام والراوي.. فلا بأس الإنسان لو كان أمام مرجع تقليده، وله استفسار، فليطرح الإشكالية، ولا يجعل في فؤاده تساؤلاً.
(فما بالنا نرى كافراً يسهل عليه النزع فينطفئ وهو يحدث ويضحك ويتكلم)؟.. البعض في حال الاحتضار هكذا: يموت وهو مرتاح؛ لأنه لا يؤمن بالقيامة.. ولكن الفخر لمن يموت بارتياح، وهو يعلم الأهوال!..
(وما كان من سهولة هناك على الكافر، فليوفّى أجر حسناته في الدنيا؛ ليرد الآخرة وليس له إلا ما يُوجب عليه العذاب).. إن هذه الراحة التي يعيشها الكافر قبل الموت، هو عاجل ثوابه.. هناك من غير المسلمين، ولعله من غير أهل الكتاب، من له خدمات اجتماعية، ويحب الإنسانية، وكان يرفق بالأيتام بالمساكين وغيره؛ رب العالمين شكور يعوض ذلك على شكل ميتة مريحة، أو على شكل حياة سعيدة بحسب الظاهر، وبحسب الحياة المادية.
(وما كان من شديدة؛ فتمحيصه من ذنوبه؛ ليرد الآخرة نقياً، نظيفاً، مستحقّاً لثواب الأبد، لا مانع له دونه).. وأما بالنسبة للمؤمن، فالشدة هي تمحيص من ذنوبه، ليرد الآخرة نقيًا نظيفًا مستحقًا للثواب الأبدي.
الدرس العملي:
أولاً: تصفية الحساب.. قال النبي (صلی الله عليه): (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا للعرض الأكبر)!.. لمَ لا نصفي الحسابات في دار الدنيا قبل الآخرة؟!.. ومن هنا قيل: أن ساعة التأمل والتفكر عند المؤمن؛ خير من عبادة سنوات وسنوات.. فقد ورد عنهم (عليهم السلام): (تفكر ساعة؛ خير من عبادة سنة)؛ لأن المؤمن في هذه الحياة الدنيا بإمكانه أن يعوّض تقصيره مع الخالق ومع المخلوقين.. فالمؤمن له ساعة من الساعات، يجرد فيها حسابه مع الناس.. حيث أن هناك أموراً كثيرة قد يكون هنالك حسابات نسيها، مثلاً: عندما كان صغيراً سرق قطعة من الحلوى من إنسان، وهذا الإنسان مات، وبقي ورثته، فليرجعها إلى ورثته.. وإذا كان لا يعرف شيئاً عنه، فهذا مجهول المالك؛ أيضاً بإمكانه أن يذهب إلى الحاكم الشرعي أو وكيله، ويبرئ ذمته من خلاله.. وكذلك بالنسبة لمن سبب زحمة في السير، فإنه يوم القيامة قد يُطالب بالساعات والأموال التي صرفت بسببه.. ومن هنا فإنه من المناسب جدًا أن يخرج مقداراً يعتد به من المال، لتبرئة الذمة وتصفية الحسابات، قبل أن يقف في البرزخ والقيامة على دينار واحد، وقد يكون هناك إنسان متعنتٌ فلا يرضى إلا بحجة أو عمرة؛ كي يتنازل عن حقه ويسامح به!..
فإذن، يجب على الإنسان أن يراجع حساباته من حيث: رد المظالم، ومجهول المالك، والحقوق الشرعية.. والذي ليست له سنة مالية، حسابه على الله عز وجل.. يوم القيامة ما هو جوابه، عندما يرى أن هناك الملايين من ذرية رسول الله (صلی الله عليه)، الذين لهم الحق في نصف خمس أمواله؟.. وماذا يجيب صاحب الأمر (عليه السلام)، وهو يتاجر بنصف خمس أمواله؟.. وهو يقول: اللهم عجل لوليك الفرج؟!.. لمَ لا يصفي هذه الحسابات: فيدفع ما عليه من الحقوق الشرعية، ويخرج شيئاً من أمواله لرد المظالم، ومجهول المالك؟!..
ثانياً: عدم النظر إلى الحسنات.. سأل النبي (صلی الله عليه): (أتدرون ما المفلس)؟.. فقالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع له، فقال: (المفلس من أمتي، من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا.. فيُعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته.. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طُرح في النار).. وعليه، فإن الإنسان لا ينظر إلى حسناته، بل ينظر إلى ما يقابل الحسنات في عرصات القيامة من حقوق الغير.. والأمر سهل: إن كان يعلم صاحب الحق، يرجعه إليه في ظرف مغلق، أو عن طريق أحد، أو يستبرئ منه الذمة مطلقًا!.. في الدنيا بإمكانه أن يسارع إلى إبراء الذمة، لأنه لا يضره شيء.. أما المشكلة إذا تأخر الحساب إلى ذلك العالم المخيف!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.