إن هناك ذكرا لشهداء بني هاشم في المجالس التي تعقد هذه الأيام، وما كانوا عليه من مزايا كبيرة وبطولات.. هؤلاء كانوا أشبال أمير المؤمنين (ع)؛ الذي كان له من الفتوحات ما كان له.. ولكن قد لا نستوعب حقيقة حال أصحاب الحسين (ع)، هؤلاء إنما اكتسبوا الخلود، وصار لهم هذا الذكر المتميز: لما كان في جوفهم من اليقين الثابت، والتوكل الذي قلّ نظيره في التاريخ.
قيل للإمام الصادق (ع): أخبرني عن أصحاب الحسين وإقدامهم على الموت، فقال (ع): (إنهم كشف لهم الغطاء، حتى رأوا منازلهم من الجنة.. فكان الرجل منهم يقدم على القتل؛ ليبادر إلى حوراء يعانقها، وإلى مكانه من الجنة)..
أولاً: هذا الذي ذهب إلى الميدان حاسرا، وقيل له: لما ألقى درعه ومغفره: أجننت يا عابس؟!.. فقال: حب الحسين أجنني!.. هذا الجنون جعلهم يعيشون منتهى الحب الإلهي.
ثانياً: إن من أرقى صلوات الجماعة التي أقيمت على وجه البسيطة، منذ أن خلق الله آدم (ع) إلى قيام الساعة، صلاة الحسين (ع) مع أصحابه في يوم عاشوراء، عند الزوال اصطفوا للصلاة بين يدي الله عز وجل، وقتل منهم من قتل عندما كان يقف ليدفع السهام عن الحسين.
(إنهم كشف لهم الغطاء).. الإمام الصادق (ع) وهو الخبير بأحوال النفوس والقلوب، وأحوال جده الحسين (ع) قال: (إنهم كشف لهم الغطاء).. نحن البشر العاديون تكشف عنا الأغطية والحجب، ولكن بعد فوات الأوان {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}؛ فاليوم عمل ولا جزاء، وغدا جزاء ولا عمل.. ما فائدة كشف الغطاء بعد إغلاق الملفات؟.. أصحاب الحسين (ع) كشف لهم الغطاء، ولكن في دار الدنيا.. وهذا الكشف أيضا كان متأخرا، لعله ليلة العاشر ويوم العاشر عندما استخبر الإمام أصحابه، وثبتوا على نصرته؛ أعطوا هذه المزية حتى رأوا منازلهم في الجنة.
(فكان الرجل منهم يقدم على القتل؛ ليبادر إلى حوراء يعانقها، وإلى مكانه من الجنة).. رب العالمين لا يعطي هذه المزية من كشف الحجب، وهذه الرؤية البرزخية؛ إلا بعد أن يجتاز الإنسان كل المراحل.. فمن أين اكتسبوا هذا الكشف للغطاء؟..
روي عن الإمام عليّ بن الحسين؛ زين العابدين (ع) أنه قال: (كنت مع أبي في الليلة التي قتل في صبيحتها فقال لأصحابه: هذا الليل فاتخذوه جنة؛ فإن القوم إنما يريدونني، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم وأنتم في حل وسعة، فقالوا: والله لا يكون هذا أبدا!.. فقال: إنكم تقتلون غدا كلكم، ولا يفلت منكم رجل.. قالوا: الحمد لله الذي شرفنا بالقتل معك.. ثم دعا فقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا!.. فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنة، وهو يقول لهم: هذا منزلك يا فلان.. فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه؛ ليصل إلى منزلته من الجنة).. يبدو في ليلة العاشر، الإمام (ع) كشف عن أعينهم؛ ليروا البرزخ والقيامة قبل ورودها.
وعلى رأس الشهداء، أبو الفضل العباس.. يقول الإمام زين العابدين: (رحم الله العباس!.. فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه.. فأبدل الله -عز وجل- بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب (ع)، وإن للعباس عند الله -عز وجل- منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة).
هذه الشهادة السجادية، والوسام الذي علقه الإمام على صدر عمه العباس، بسبب موقف قام به في اليوم العاشر.. فقد ظهرت المواساة من العباس، في رفضه شرب الماء قبل الحسين (ع) بعد أن اقتحم بفرسه الفرات، وكشف عن الرجال الذين كانوا يحمونه، فدخل الماء واغترف غرفه بيده، ثم تذكر عطش الحسين؛ فرمى الماء وقال قولته الشهيرة:
يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنت أن تكوني
هــذا حسين وارد المنـون *** وتشربين بـارد المعين
والله مـا هـذا فعــال ديني *** ولا فعال صادق اليقين
يقول بعض العلماء: لو أن العباس شرب الماء، ليتقوى به على قتال الأعداء؛ لما كان عند الحسين (ع) ملوما!.. ولكن قمر بني هاشم، ذلك الذي ادخره علي لواقعة كربلاء، عندما أحس ببرد الماء، رمى الماء على الماء.. هذا موقف لا ينسى في السماء، ملائكة العرش سجلت هذا الموقف البطولي: لقمر العشيرة، وحامل اللواء، وحامي الظعينة.. ومن هنا الإمام زين العابدين، أطلق القول، وقال: (وإن للعباس عند الله -عز وجل- منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة)؛ العبارة مطلقة، تشمل جميع الشهداء طوال تاريخ البشرية.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.