– إن علامة قبول العمل: حجاً وعمرة، وصوماً وصلاة، وعزاءً.. ليس الترقب لمنام أو مكاشفة أو نور أو رائحة طيبة، وإنما هو حصول التغير الجذري في الذات، فمن رأى في قلبه اطمئناناً وإعراضاً عن المنكر ورغبة في الطاعة، فليعلم أنه على خير.. وإلا -كما قلنا- فإن الشيطان لا تخيفه هذه الحركات العبادية، وإنما الذي يخيفه هو مجاهدة النفس ومغالبة الهوى..
إن هدفنا من هذه الأحاديث، هو بيان معالم السفر الإلهي، هذا السفر الذي نحن فيه ونحن لا نشعر، أجسامنا وحياتنا في حركة قسرية إلى النهاية، والحال بأن الأرواح على حالها.. قلت لبعض إخواني كلمة قلبتهم وأثرت فيهم: وهي أن البعض صلاته وهو في سن الخمسين والستين، لا تكاد تختلف عن صلاته عندما كان في سن البلوغ، فمنذ يوم بلوغه إلى يوم وفاته صلاته على حد سواء.. ومعنى ذلك أن روحه لم تبلغ، ولا زالت روح طفولية، وأنه لا زال يعيش لا المراهقة بل الطفولة.. وكم من القبيح أن يبلغ الإنسان من العمر ما يبلغ، ويكون له بنين وحفدة، ولكن روحه -التي بها قوام الحساب والخلود- تكون روح غير بالغة..
إننا نرجو للجميع -الذين شاركونا في هذه الليالي والأيام- أن يخرجوا بهذا الجو المبارك، كخروج بشر في لقاء عابر.. والذي نراه في التاريخ أن بشر لم يلتقِ بالإمام موسى بن جعفر (ع) في تلك القضية، وإنما التقى بخادمة رأت الإمام المعصوم، ونقلت له قول الإمام، فقلبته رأساً على عقب.
– من المعلوم أنه لابد للإنسان الذي يريد الحج أو العمرة، أن يتطهر في الميقات وينزع الثياب الدنيوية المخيطة ويلبس ثياب الإحرام؛ ليدخل في الحرم الإلهي الأرضي.. وأن الإنسان المصلي بمجرد أن يكبر تكبيرة الإحرام، فإنه يحرم عليه ما يحرم من منافيات الصلاة.. إن الأمر كذلك بالنسبة لمن يريد السفر إلى الحق -تعالى- والدخول إلى ساحة العز الإلهي، أي أنه لابد أن يكون متطهراً، وهذا التطهر ليس إلا التوبة.. وقد ذكرنا أن من معالم التوبة هذه الحركة الظاهرية: من غسل التوبة ثم صلاة التائبين والاستغفار.
إن الاستغفار هو ورد المؤمن الدائم، وهو بمثابة الصابون والماء الذي يطهر الإنسان من الخبث والدرن ويخلصه من الأمراض، ومن دونه ينتفي تحقق الطهارة والنقاوة الروحية للمؤمن.. ومن المعلوم أن عملية الغسل لا تحتاج إلى نية؛ إذ أن الطهارة حاصلة ومتحققة بمجرد صب الماء على البدن.. إن الإنسان الذي يلتزم بالاستغفار، حتى لو أنه ارتكب ذنباً ثم نسيه، ولم ينوِ الاستغفار من هذا الذنب بعينه، فإن الطهارة متحققة.. ومن المحطات المهمة جداً للاستغفار محطتان في كل يوم وليلة:
المحطة الأولى: بعد صلاة العصر، حيث أنه يستحب للمؤمن الاستغفار سبعين مرة.. ونصيحتي أن لا يستعجل الإنسان القيام من سجادة صلاته، وأن يطيل الجلوس بعد الفرائض -ولو دقائق- ولكن بشرط أن يكون بمقدار شهيته.. وإن كان هو في أول الطريق قد يجلس دقائق، ولكن البعض يصل به الأمر إلى أنه لا يطيق القيام من المصلى؛ لما تأتيه من الواردات القلبية، ومن هنا وردت عن علماء الأخلاق هذه العبارة: (من لا ورد له لا وارد له).. فالإنسان الذي لا يتخذ محطة لذكر الله عزوجل -بالمعنى الدقيق للذكر- لا يأتيه المدد الغيبي.. ومن أفضل ساعات السياحة الأنفسية والتوغل في عالم الغيب، هو عقيب الفرائض.. فلو أن إنساناً يحيي الموتى -وهذا قمة الإعجاز والكرامة- ولكنه يعيش حالة الشرود والغفلة في صلاته، فإنه ليس بشيء.. إن الذي لا يقبل في الصلاة، فإن رب العالمين لا يقبل عليه، ومن لم يقبل عليه رب العالمين، لا وزن له في الوجود، فهبْ أنه يحيي الموت، إلا أن عدم إقباله في الصلاة علامة على بعده عن الحق..
والمحطة الثانية: في صلاة الليل:
إن الذي يريد الكمال لابد أن يكون بمستوى الهمة التي تهيئه للتكامل.. وليس المطلوب أن يصلي الإنسان صلاة الليل بالكيفية الواردة شرعاً، فمن المعلوم أن النبي (ص) كان يقطع صلاة ليله: يصلي وينام وهكذا.. كما لو أن إنساناً بيده قطعة حلوى، فهو لا يأكلها دفعة واحدة، بل تراه يقطعها قطعة قطعة حتى يطيل فترة استمتاعه.. إن أولياء الله وعلى رأسهم النبي المصطفى (ص) كانوا يقطعون الدخول على المولى عزوجل..
ولكن الذي يصلي صلاة الفجر في أول وقته ، ما الذي يضره أن يستيقظ قبيل الفجر بربع ساعة أو بعشر دقائق ويصلي ، ليتشبه بالذين يقيمون بالليل.. وإلا فإن قيام الليل معنى عميق، قيام الليل لقاء العاشق مع معشوقه، ومن هنا ذلك العالم كان ينادي في جوف الليل: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة!..
هناك لذائذ في جوف الليل تدرك ولا توصف لأهله، لكن نحن المبتدئين نتشبه بهم في ركيعات ثلاث: ركعتا الشفع، وركعة الوتر.. والذي لا يكلف نفسه هذا الأقل من صلاة الليل، فمعنى ذلك أنه لا يريد أن يتميز في حركته إلى الله تعالى، ويكتفي بالعمل بالرسالة العملية -بالفقه الظاهري- ولا حظ له بالفقه الباطني في شيء.
– إن الذين يقنعون بالققه الظاهري ولا يطمعون لما رواء الفقه، هؤلاء لا يصلون إلى جوهر العبادة.. أشبه شيء بمن يريد لقاء الملك، ولكنه يكتفي بالتواجد في ساحة القصر، ومراجعة ما يعرض في المكتبة من حياة الملك وسيرته وأوصافه.. فهو يبقى يحوم حول القصر دون التشرف بالمثول بين يديه.
على الإنسان المؤمن أن يطمع فيما هو أعظم من ذلك، ويسعى أن يصل إلى درجة يدخل ساحة العز الإلهي، ويحاول أن ينتقل من القشرة إلى اللب -من الملك إلى الملكوت- والذي عرف الدين من خلال اللب والملكوت، فهذا الإنسان لا يخشى عليه من الارتداد عن طريق الله؛ لأنه وصل إلى معدن العظمة: (إلهي!.. هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك؛ حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة).
– لنحاول أن نجعل أنفساً محلاً للألطاف والتجليات الإلهية.. إن رب العالمين ليست له صلة قرابة مع علماء الحوزات والفقهاء والمراجع، فمتى ما وجد القلب السليم فإن رب العالمين يتجلى في ذلك القلب كالمرآة.. ومن الملاحظ أنه كلما ازداد صفاء المرآة ونقائها من الغبار والكدر -هذا إذا لم يكن صداً- كلما كان انعكاس الأشياء فيها أكثر وضوحاً.. فلو وضعت مرآة أمام الشمس لانتقلت هذه الشمس العظيمة عبر هذه المرآة الصغيرة، وأصبحت تحمل خواصها إذ تكون قابلة للإحراق.. فإذا كان ذلك بالنسبة للشمس والمرآة، فكيف بالنفوس البشرية إذا واجهت شمس الوجود؟!.. نعم فإنها تصبح نفوس إلهية..
كنا في بلد ما وقيل لي بأن أحد الأشخاص جاء من بلد أوربي -إيطاليا- وهو حائر، ويعيش حالة الشرود والذهول، ويبحث عمن يحدثه ويحل له مشكلته، وقد كان حديث التعرف على مذهب أهل البيت (ع).. يقول: بأن رب العالمين فتح عليه باباً من أبواب الدعوة إليه بلا مناسبة وبلا إنذار سابق، ورأى نفسه مستذوقاً عالم الغيب -أنا احتملت أن يكون ذلك جراء تعرفه على مذهب أهل البيت (ع)، وتحمله لبعض الصعاب في هذا المجال- وبعد أن استذوق العبادة ورأى نفسه مقبلاً عليها بشكل رهيب، تلذذ بصلاة الليل إلى أصبحت صلاة ليله ست ساعات، لا يشبع من صلاة الليل، هو في النهار يكدح ويعمل ولكن في الليل هكذا.. وقال عبارة لعلي لم أسمعها إلى الآن من ولي ولا من عالم!.. -فرب العالمين -كما قلنا- ليست له علاقة نسبية بجهة ما، فهو عند المنكسرة قلوبهم والمندرسة قبورهم- وهو بأنه وصل إلى مرحلة عندما يقرأ القرآن الكريم، يحس بحس بحلاوة في فمه كحلاوة العسل، ليست حلاوة معنوية وإنما حلاوة حقيقية.. ومن الطبيعي أن الإنسان الذي يجعل في فمه العسل يستهوي العسل، وإذا رأى بأن هذا العسل مقترن بكتاب الله يكثر من قراءة القرآن الكريم.. إن الذي يرى في جوف الليل لقاء مع المحبوب الأعظم، لا يمكنه أن ينام الليل، بل يكون مصداقاً لقوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ }.. كلمة تتجافى مأخوذة من الجفاء؛ أي يجافي الفراش -يكره الفراش- الذي يصده عن قيام الليل.. ومشكلة هذا الرجل أن ذلك كله سلب منه!..
– إن من معالم التوبة -بالإضافة إلى الاستغفار اللفظي- استشعار الندامة الباطنية.. فالذي يعيش حالة الندامة مما مضى من حياته، من المرجو له أن يحول تلك الحالة إلى حركة إيجابية..
ولا ينبغي اليأس والاستسلام والوقوع في حبائل الشياطين والانصياع وراء تثبيطاته، فمن المعلوم -في عرف التجار- أن التاجر إذا رأى خسارة في تجارته، بأن فتح محلاً -مثلاً- في مكان غير مرغوب، ثم رأى أن ما يصرفه على هذا المحل أكثر مما يستورده، فإن إغلاقه للمحل بسرعة وإيقافه للخسارة ربح في حد نفسه.. وعليه، ليحاول الإنسان المؤمن أن يقف وقفة مع النفس لينظر إلى الماضي.
– إن البعض قد يصل إلى درجة من الاستغراق والأنس بالحق تعالى، أنه لا يرى لنفسه محوراً في الوجود، فينسى نفسه ووضعه وذنوبه، ويعيش الظلامة الإلهية.. بأن الرب -تعالى- زبائنه قليلون، وذكره في الخلق قليل، لا أحد ينصر دينه، دينه بدأ غريباً وعاد غريباً.. أحد الأولياء يقول: بأن أهل البيت (ع) لهم زبائن كثر، بينما رب العالمين ليس هنالك من يرغب فيه كرغبته في خلقه، فجل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد.. وهنالك بعض الآيات التي تصلح للبكاء على وضع الناس وتعاملهم مع رب العالمين..
إن رب العالمين في كتابه الكريم يعاتب بني آدم عتاباً بليغا، فيقول تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.. لو أن الإنسان يقرأ هذه الآية في جوف الليل، ويحولها إلى مناجاة مبكية، فهو في قمة الرضوان الإلهي.. وفي آية ثانية يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم }.. ويقول في آية ثالثة: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}.. فالذي يتأمل في مضامين هذه الآيات، من المتوقع أن توجب له هزة في الأعماق..
كنت أمشي مع أحد العلماء فاقترحت عليه أن نتأمل في هذه الآيات، وإذا بهذا العالم -وهو عالم كبير- يرتبك ويتغير حاله، فذهب إلى مدينة أخرى ليعتكف ويفكر فيما هو فيه!.. وبعد فترة التقيت به وسألته عن سبب تركه لبلده ، فقال: بأن وضعه كله انقلب، وصار يفكر أنه أين، وما هو مطلوب منه!..
هذه الثورة الباطنية يسمونها في عرف الأخلاقيين: (حالة اليقظة).. والقضية ليست متوقفة على السن، وقد رأيت من هو في سن مبكرة ويعيش هذا الشعور.. كيف لو أن إنسانا كان نائماً على الرمل جانب الشاطئ، واستيقظ وإذا بأمواج تأتي عليه ويوشك أن يغرق.. فهذا الإنسان عندما يستيقظ فإن يقظته تلازم الحركة عادة.. وهذه من أثمن ساعات العمر.. ليالي القدر ليست بالإحياء الشكلي.. إذا كان الإنسان في جزر هاواي أو تحت نخيل جوز الهند وانتابته هذه الحالة من اليقظة، فتلك ليلة قدره فليحاول أن يحتفظ بها..
إن رب العالمين يعطينا هذه المنحة في الحج والعمرة وفي مواسم الذكر.. في أيام عاشوراء ما الذي يجذب الناس إلى مجالس أهل البيت (ع) لولا هذه اليقظة الخفيفة؟.. فلنحاول أن نشدد من هذه اليقظة، لنخرج بعد الموسم العبادي بقرار حاسم، ألا وهو الندامة من الذنب..
ما هي موجبات الندامة من الذنب؟..
– من موجبات الندامة الباطنية: الوصول إلى ملكوت الحرام.. والقرآن الكريم أراد أن يفهمنا أن للحرام باطن خفي -هذا الباطن الذي لو انكشف للإنسان، لكان الانزجار من الحرام قهري -فطرح بعض الأمثلة لملكوت الحرام ومنها الغيبة، حيث يقول تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ }.. أحد علماء النجف الأشرف كان متورعاً عن الغيبة أيما تورع، ولكنه في يوم من الأيام تورط باستماع الغيبة، فرأى في عالم الرؤيا نفسه وهو يأكل لحم الميتة، ولما استيقظ وجد هذه القطعة في فمه، فلفظها ولكن الرائحة النتنة بقيت في فمه، مما جعله حبيس المنزل لأشهر، وبعد الاستغفار والتي واللتيا، رب العالمين كشف عنه هذه الرائحة..
ولو كشف الغطاء عن الإنسان لرأى مع كل معصية رائحة نتنة لا تطاق، وقد أشار أمير المؤمنين (ع) إلى تلك الحقيقة بقوله: (تعطروا بالاستغفار، لا تفضحنكم روائح الذنوب).
وإن من أسخف أنواع الحرام الغيبة، عادة أن المحرمات فيها لذائذ، ولكن الغيبة ما اللذة فيها؟!.. لا لذة محسوسة، ولا مطعومة، ولا مشمومة.. ولهذا التشديد عليه شديد، وفي مضمون بعض الراويات أن الغيبة أشد من الزنا، ولكن مع الأسف أن بعض الناس يذهب إلى حتفه برجله، ويحضر المجالس الغافلة، التي ليس فقط لا فائدة يرجى منها، وأنها فضول كلام وفضول نظر، وإنما يرجع بتبعات الآخرين!..
وفي آية أخرى يذكر القرآن الكريم ملكوت الذين يأكلون أموال اليتامى، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}.. وهنا يذكر ملكوت الإنسان المرابي: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}..
إن الربا من المحرمات، ولكن الفقهاء تيسيراً للمؤمنين، ذكروا بعض المخارج الفقهية لمن أراد أن يستقرض.. فحري بالإنسان المؤمن أن يحتاط في أمور دينه، ويسأل عن أحكام الربا وكيفية التخلص من مجهول المالك وغيره.. فإن من موجبات قساوة القلب -هذه الأيام- والابتلاءات والأمراض، هذه الأموال المحرمة التي تقع بين أيدينا.
– من موجبات الندامة أيضاً: عدم مجالسة الغافلين..
إننا نلاحظ هذه الشكوى المتكررة من أغلب المؤمنين، وهو أنهم يشحنون أيما شحن حال كونهم في المجالس أو عند قراءة كتاب ما، ثم ما تلبث هذه النفحات أن تذهب أدراج الرياح، فكيف يمكن الاحتفاظ بهذه المكاسب المعنوية في جوف الليل، وفي المجالس، وفي حركة النهار؟..
إن هذا الأمر صعب جداً، وخاصة للذين ابتلوا بالتعامل مع الجنس المخالف في عملهم؛ فإن من موجبات قساوة القلب كثرة الحديث مع النساء الأجنبيات، والتفكه معهن، والنظر إليهن بريبة.. أحد العلماء الأجلاء يقول: (أنا لا أفهم كيف تقسمون النظر إلى المرأة الجميلة نظرة بريبة ونظرة بغير ريبة؟!.. النظر إلى الجميلة مناسب للنظر بشهوة).. وقد يقول إنسان: أنا أنظر إلى جمالها كما أنظر إلى جمال الوردة، هذا خلق من خلق الله تعالى، أعتقد أن هذا من أشد أنواع تلبيس إبليس.. ومن المعلوم أن الشيطان قد يلهي الإنسان عندما ينظر إلى المناظر المحرمة، ويعطيه جوا روحانيا، ويشغله ببعض القضايا الإلهية كالتسبيحات وغيره، وما إن يريد هذا الإنسان الصلاة إلا وهذه الصور تترادف عليه واحدة بعد أخرى.. أحد الإخوان كان يؤم الناس يقول: أنه ابتلى ببلية قبل سنوات، وهي أنه نظر إلى أجنبية نظرة كذائية، وهذه الأجنبية ذهبت، ولكن الصورة بقيت في باله، وكلما أراد أن يصلي جاءته هذه الصورة في البال.. وكأن الله -عزوجل- أراد أن يعاقبه بمثل ذلك..
ليحاول الإنسان أن يترقى من ترك الحرام إلى ترك فضول القول وفضول النظر -الكلام الذي لا داعي له، النظرة البلهاء- إنسان يذهب إلى السوق ليشتري متاعاً، فلماذا يكثر النظر من المتاع الذي لا يريد أن يشتريه؟!.. فهذا الفضول أيضاً من موجبات قساوة القلب.
– إن طبيعة النفس الإنسانية طبيعة متمردة، ومن المعلوم أن الشيطان يسول للإنسان ويجعله متثاقلا ومتكاسلاً، وقد يقول للبعض: أن هذا الكلام كلام غير قابل للتنفيذ ، ومعنى ذلك أنه يصبح راهباً وزاهدا، وتصبح متع الحياة كلها محرمة عليه.. ليحاول الإنسان المؤمن أن يخادع نفسه، ويخصص له مدة زمنية محددة، يكون في هذه المدة متميزاً، فإن النفس الإنسانية تنبعث بذلك.. ولهذا الإسلام جاء بشهر للصيام وحث على الالتزام فيه، وجعل أيام معدودات في موسم الحج، ليحاول في هذه الأيام المعدودات أن يصبح إنساناً نموذجياً..
ومن أفضل أنواع الأربعينية، أربعينية ترك المعاصي والذنوب.. نعم، زيارة عاشوراء، وآل ياسين، والعهد، ووارث، وغيرها.. كلها أشياء جيدة كأربعينية.. ولكن لنحاول أن نجعل هذه الأربعينية خير أربعينية مرت علينا، وقد ورد في الحديث عن الرسول الأكرم (ص): (من أخلص لله أربعين يوما، فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه).
– من الجميل أن يصل الإنسان إلى مرحلة ينسجم فيها وجوده مع ما هو مطلوب منه شرعاً.. البعض من جماعة التدخين عندما يتركون التدخين، ففي أول الأيام تصعد رائحة النكوتين إلى الفم، ولكن بعد فترة من المقاومة يصبح وجوده وجوداً نقياً.. إن الذي فُتحت له أبواب الغيب هل يرجع إلى المزبلة؟!.. إن البعض من الشباب وصل إلى درجة من درجات الورع والتقوى، أنه عندما يرى امرأة أجنبية، وكأن هنالك جهازا حديديا يلف رقبته يميناً وشمالاً، فإن الحركة ارتدادية قسرية، فهو لا يطيق النظر، ولا يحتاج الأمر أن يفكر بأنها نظرة جائزة أو غيره.. والبعض منهم يصل به الأمر -إذا أكل طعاماً حراماً من غير قصد- أن معدته تتقيأ هذا الطعام الحرام ولا تقبله.. نعم يصل الإنسان إلى هذه الدرجات، التي يصبح فيها وجوده منسجماً مع موجبات التقوى والورع..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.