بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}.. وهنا نذكر الرواية المعروفة (موتوا قبل أن تموتوا)!.. أي فليفترض الإنسان نفسه ميتاً قبل أن يموت.. بعض العلماء السلف، كان له قبر ينزل فيه بين وقت وآخر، ليتشبه بالموتى!.. ولكن الأمر لا يحتاج إلى قبر مصنع، إذ يكفي أن يعتبر الإنسان نفسه، كأنه بعث من جديد، كلما رجع من زيارة المقابر!..
{وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}.. أي هذه الذكرى لا تنفع!.. فـ(اليوم عمل بلا حساب، وغداً حساب بلا عمل)؛ انظروا إلى الفارق بين المقامين!.. فالإنسان في الحياة الدنيا، يتذكر ذوي الحقوق عليه، مثلاً: من أتلف له مالاً، أو أهان له سمعة.. فالتعدي تارة يكون على الشخصية الحقيقية، وتارة على الشخصية الحقوقية.. حيث أن الإنسان له عنوان مادي، وله وجاهة اجتماعية.. فالبعض مشغول الذمة لا بالمال، بل بوجاهة الناس.. مثلاً: أسقط إنساناً من الاعتبار، هذا عند الله -عز وجل- ليس بالهين.. فالمؤمن بنيان الله -تعالى- في الأرض، وأشرف من الكعبة، ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع)، أنّه كان جالساً في المسجد الحرام، وكان إلى جانبه شخص من أصحابه، فقال له: «أترى إلى هذه الكعبة؟.. قال: بلى، قال: إنَّ حرمة المسلم عند اللّه أعظمُ من حرمةِ الكعبة سبعين مرّة».. في هذه الحياة الدنيا، يستطيع الإنسان أن يطلب ممن أساء إليه أن يبرئ ذمته!.. ولكن إذا بقي الأمر إلى عرصات القيامة، فإنه قد لا يبرئ ذمته، إلا إذا أخذ منه ثواب عشر حجج مثلاً، أو مائة ثواب صلاة ليل!.. وكلما كان متورطاً أكثر؛ كلما طلب أكثر!.. لذا، المؤمن الفطن يحاسب نفسه قبل أن يُحاسب، يقول الإمام الكاظم (ع): (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم: فإن عمل خيراً؛ استزاد الله منه.. وإن عمل شراً؛ استغفر الله منه، وتاب إليه).. فالإنسان من دون محاسبة، لا يصل إلى شيء.
{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}.. أي لحياتي هذه، وهي الحياة الآخرة.. أو المراد الحياة الحقيقية، وهي الحياة الآخرة على ما نبه -تعالى- عليه بقوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.. فالأطفال الصغار لعبتهم دمية صغيرة، والكبار دميتهم عماراتهم الكبيرة.. اللعبة لعبة، مادامت تلهي الإنسان!..
{فَيَوْمَئِذٍ لّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}.. الرب الودود العطوف، الذي هو أرأف بنا من آبائنا وأمهاتنا، يقول: أعذب عذاباً، لا أعذب أحداً بهذا العذاب.. ما الذي فعله العبد، كي تنقلب النسبة، ويجعل رب العالمين يعامله هذه المعاملة القاسية؟..
{وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}.. الوثاق: الحبل الذي يشد به الإنسان.. والمعنى: لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق؛ أي إن عذابه ووثاقه -تعالى- يومئذ، فوق عذاب الخلق ووثاقهم.. وقيل: لا يعذب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان، ولا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}.. نفوس أهل الدنيا مضطربة، فكل صاحب أسهم هذه الأيام لا ينام الليل، يخاف من الصعود والهبوط.. حتى أصحاب الشركات، التي هي تجارة منتظمة؛ قلوبهم مضطربة.. أما الذي يوجب اطمئنان القلب، هو ذكر الله عز وجل: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}؛ لأن الله -عز وجل- لا يتغير.. فالمال يذهب ويأتي، والعافية تذهب وتأتي، والحياة برمتها تذهب وتأتي؛ ولكنه هو الباقي يوم ينادي: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْم لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}.. فالنفس المطمئنة هي التي تسكن إلى ربها، وترضى بما رضي به.. فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئا: من خير أو شر، أو نفع أو ضر.. ويرى الدنيا دار مجاز، وما يستقبله فيها من غنى أو فقر، أو أي نفع وضر؛ ابتلاء وامتحاناً إلهياً.. فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان، وإكثار الفساد والعلو والاستكبار.. ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر، وترك الشكر.. بل هو في مستقر من العبودية، لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.
{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}.. توصيفها بالراضية؛ لأن اطمئنانها إلى ربها، يستلزم رضاها بما قدر وقضى تكويناً، أو حكم به تشريعاً: فلا تسخطها سانحة، ولا تزيغها معصية.. وإذا رضي العبد من ربه، رضي الرب منه.. إذ لا يسخطه -تعالى- إلا خروج العبد من زي العبودية، فإذا لزم طريق العبودية، استوجب ذلك رضى ربه.. فإذن، رضيت عن الله -عز وجل- فرضي الله -عز وجل- عنها.. والذي عنده سخط من القضاء والقدر، هذا الإنسان لا يرضى عنه رب العالمين؛ لأنه يجب أن يرضى العبد عن الله -تعالى- أولاً، فيرضى الله -تعالى- عنه ثانياً.. هذه هي النفس المطمئنة، ومن أرقى مصاديق النفس المطمئنة: نفوس الشهداء، وعلى رأس الشهداء سيد الشهداء؛ الحسين (ع).. ومن هنا هذه السورة منتسبة بهذا اللحاظ إلى الحسين (ع).
{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.. وفيه دلالة على أن صاحب النفس المطمئنة، في زمرة عباد الله حائز مقام العبودية.. وذلك أنه لما اطمأن إلى ربه انقطع عن دعوى الاستقلال، ورضي بما هو الحق من ربه، فرأى ذاته وصفاته وأفعاله ملكاً طلقاً لربه.. فلم يرد فيما قدر وقضى، ولا فيما أمر ونهى إلا ما أراده ربه، وهذا ظهور العبودية التامة في العبد.. وفي قوله: {وَادْخُلِي جَنَّتِي} تعيين لمستقرها، ولا يوجد في كلامه -تعالى- إضافة الجنة إلى نفسه -تعالى- إلا في هذه الآية.. في كل القرآن من الفاتحة إلى الناس، لم تذكر الجنة بهذا الوصف.. الآية الوحيدة التي نسبت الجنة إلى الله -تعالى- هذه الآية {وَادْخُلِي جَنَّتِي}!.. البعض يقول: أن هذه جنة أخرى، غير جنة الحور.. فجنات النعيم لعامة الناس، ولكن {جَنَّتِي} للخواص، في تلك الجنة هناك مزايا معنوية: الرضوان، والنظر لوجه الله تعالى -النظر معنوي، وليس حسي-.. فإذن، هؤلاء دخلوا في زمرة الذوات الطاهرة، ودخلوا الجنة.. هؤلاء ذواتهم أصبحت صافية، ذوات عباد الله.. ومن كانت ذاته ذات عباد الله، فإنه من الطبيعي أن يكون مأواه الجنة.
عن سدير الصيرفي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك يا بن رسول الله!.. هل يكره المؤمن على قبض روحه؟.. قال: (لا، والله إنه إذا أتاه ملك الموت، ليقبض روحه، جزع عند ذلك، فيقول ملك الموت: يا ولي الله!.. لا تجزع، فو الذي بعث محمداً!.. لأني أبر بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.. قال: ويمثل له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين، وفاطمة، والحسن، والحسين، والأئمة من ذريتهم (عليهم السلام)، فيقال له: هذا رسول الله، وأمير المؤمنين، وفاطمة، والحسن، والحسين، والأئمة (عليهم السلام) رفقاؤك.. قال: فيفتح عينيه، فينظر، فينادي روحه مناد من قبل رب العزة فيقول: يا أيتها النفس المطمئنة!.. إلى محمد وأهل بيته، ارجعي إلى ربك: راضية بالولاية، مرضية بالثواب.. فادخلي في عبادي؛ يعني محمداً وأهل بيته.. وادخلي جنتي.. فما من شيء أحب إليه من استلال روحه، واللحوق بالمنادي).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.