إن من المؤسف حقا :أن ترتبط في اذهاننا صورة الموت مع الفناء ، وبالحياة الموحشة في القبر .. والحال ان الموت رحلة من عالم الضيق الى عالم الحرية ، ومن عالم القيود الارضية بآلامها ومشاكلها ، الى عالم الانطلاقة السعيدة الخالدة ، وذلك بجوار رضوان الله تعالى لمن اراد اللذائذ العليا.. او جنات الخلد لمن اراد الاستمتاع المادي.
ان الذي يكشف عن مدى قرب العبد من ربه هي : نظرته الى الموت .. فالذي يخاف من الموت ، انما يخاف مما بعد الموت من العالم المجهول ، ولهذا جعل القرآن الكريم تمني الموت علامة لمن يزعم أنه ولي لله تعالى كما زعمت اليهود .. وقد حبب الله تعالى ابراهيم الخليل الى لقائه ، عندما ارسل اليه ملك الموت قائلا : هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه؟!.. في جواب ابراهيم (ع) عندما قال : فهل رأيت خليلا يميت خليله؟!..
ان الاستعداد للموت انما يتم في سنوات الشباب وفوران النشاط .. والا فمع فتور الهمة ، وضعف الاعضاء في مرحلة الشيخوخة ، قد يعجز العبد عن اكتساب الدرجات العليا من الكمال ..فكم يتوهم البعض – خاطئا – عندما يسوّف في التوبة الى ما بعد انتهاء فترة طيش الشباب ؟!.. أو هل يضمن الحياة أولا ؟!.. ثم هل يضمن التوفيق للتوبة ثانيا؟!..
ان من المناسب جدا ان يقوم الانسان بسياسة الاقتران الشرطي ، التي تستعمل في علم النفس الحديث ، ومفادها الربط بين المعاني الايجابية او السلبية ، ومآلها في الدنيا والآخرة.. فمن تقترن عنده صورة الطاعة ، ومقعد الصدق عند المليك المقتدر ( بشكل يقيني ) وبين صورة المعصية وما ذكر من عذاب البرزخ والقيامة ( بشكل وجداني ) فانه لا ينظر حينئذ الى المعصية والطاعة ، الا من خلال تلك الصور الملازمة .. وبالتالي لا يبقى عنده مقتض للمعصية ليوجد عندها المانع .. كما لا يبقى عنده مانع من الطاعة ليمنع تأثير المقتضي ، وهذه هي المعادلة النهائية للتقوى باختصار.
ان الالتفات الى قصر الحياة – وكيف ان انواع المتع المحللة والمحرمة منها الى زوال وفناء – من حوافز الزهد في العاجل من المتاع ، ومن هنا عبرت الرواية عن الموت بانه هادم اللذات.. وقد امرنا باكثار ذكر الموت ، لئلا نعيش حالة الوهم في الحياة ، من خلال رؤية متاعها في حلم لذيذ كاذب ، ليستيقط بعدها العبد ، وقد وجد الله عنده فوفاه حسابه.
من مراحل الموت التي يبتلى بها اغلب الخلق هي : سكرات الموت عند حالة النـزع ، إذ أن انفصال الروح التي تأقلمت مع البدن سنوات طويلة من أشق الامور .. فلاحظ كيف أن الجنين ينفصل عن امه ، ليذيقها مر العذاب بما يسمى آلام الولادة .. والجلادون في السجون يقلعون ظفرا من السجين ، ليرى الموت البطيئ من خلال ذلك.. فكيف اذا اريد فصل الجسد بكامله عن الروح ؟!.. ولك ان تتصور ذلك ، قياسا لحالة الجنين والسجين.
تناولت الروايات بعض موجبات تخفيف سكرات الموت ، التي دعا رسول الله عندها – تخويفا لامته – قائلا : ( اللهم اعني على سكرات الموت ) فمنها : صلة الرحم ، والبر بالوالدين .. ومن الملفت حقا ان هذين العنصرين يتكرران في موارد كثيرة ، ولعل السبب في ذلك هو وجود الصوارف الداخلية عن القيام بحقوقهما ، وذلك لان علاقة الإنسان مع اهله علاقة مفروضة لم تكن بانتخاب من العبد ، وهي قد لا تناسب مزاجه في موارد كثيرة ، ومن هنا لزم التأكيد من المولى الحكيم ، لوجود ارضية المنافرة! .
ومن موجبات تخفيف السكرات ، العمل على ارشاد الغافلين ، وهداية الضالين ، فإن الله تعالى يحفظ هذا الجميل في خلقه عند ساعة الموت .. وقد ورد في الخبر ما مضمونه : (ومن أعان ضعيفاً في فهمه ومعرفته، فلقنه حجته على خصم الدين طلاب الباطل.. أعانه الله عند سكرات الموت، على شهادة: أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله).. لان الشيطان يحاول في اللحظات الاخيرة من الحياة ، ان يسلب الانسان قوام سعادته ، وهو : الاعتقاد الحق ، بعدما عجز عن تحريف مسيرته في حياته.
ان دعوة الناس الى منهج اهل البيت ، من روافد الختم بالسعادة .. فهذا ابو بصير من اصحاب الامام الصادق (ع) ، دل أحدهم على منهج اهل البيت ، فقال لابي بصير في ساعة الاحتضار : قد قبلتُ ما قلت لي ، فكيف لي بالجنة ؟!.. فقال له ابو بصير : انا ضامن لك على الصادق بالجنة ، فمات .. فدخل على الصادق (ع) فقال له ابتداء :قد وُفي لصاحبك بالجنة !..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.