- ThePlus Audio
الموت في المنظار الحسيني
بسم الله الرحمن الرحيم
نظرة سيد الشهداء (عليه السلام) إلى الموت
إن حديثنا هو حول كلمات سيد الشهداء (ع) التي نطق بها في طريقه إلى الشهادة. وبالطبع إننا نتخذها ذريعة لأبحاثنا الأخلاقية. من كلماته (ع) أنه قال: (َإِنِّي لاَ أَرَى اَلْمَوْتَ إِلاَّ سَعَادَةً)[١]؛ وقد أحدث بهذه الكلمة معادلة طرفها الأول الموت، والطرف الثاني هي السعادة. عادة ما تكون كلمة الموت كلمة مخيفة. ومثلها كلمات المقبرة والمغتسل والجنازة والتشييع. وكل هذه الألفاظ تقريبا هي في الطرف الآخر لهذه المعادلة؛ أي السعادة.
إننا نظن أن السعادة تعني الزواج مثلا، أو سفرة سياحية أو الجلوس مع العائلة وما شابه ذلك؛ إلا أن الحسين (ع) قد كسر هذه المعادلة وجعل السعادة مقترنة بالموت. بالطبع إن الموت عند العوام أمر مخيف. فأن يسقط الإنسان ويخر ميتاً ثم تحمل جنازته ويغسل ويكفن ويدفن أمر مخيف بالنسبة إليهم. إننا ذهبنا ذات يوم إلى دولة أجنبية وذهبنا إلى أحدى مقابرهم فرأينا بجوار المقبرة محرقة يدخلون الميت فيها وهي عبارة عن فرن شديد الحرارة. فاستغربت صغر القبور في تلك المقبرة حيث لم يكن يتجاوز طول القبر وعرضه شبرا. فسألتهم عن ذلك، فقالوا: بعد أن تحرق الجثة يصب رمادها في زجاجة وتدفن في هذه البقعة الصغيرة ويكتبون عليها: فلان ابن فلان. ومن الطريف أنه كانت في المقبرة مساحة للمسلمين وكانت قبورهم متعارفة، وفيها آيات من القرآن الكريم. فالطبع إن كان الموت بهذه الصورة فهو مخيف.
ولكن ما هي الميتة التي يبحث عنها الإمام الحسين (ع)؟
إذا قيل لأحدنا هذه الليلة: أنك قد فزت في القرعة، وهي زيارة إلى الإمام الرضا (ع) مدفوعة التكاليف، كم كنت تفرح بهذه السفرة؟ إن الموت عند أهل البيت (ع) وعند الأنبياء والأولياء هي كهذه السفرة الممتعة الجميلة. فمن أين؟ وإلى أين؟ من دار بالبلاء محفوفة ومن مكان ضيق ومن طعام مكرر إلى السعة والرحمة. إن بعض كبار السن وخاصة المرضى منهم أمنيته أن يموت سريعا بخلاف الشاب الذي يتمنى الزواج والتناسل؛ فهؤلاء قد ملوا الحياة وملتهم.
إن هناك في الاصطلاح ما يسمى بالشرطة الدولية أو الأنتربل؛ وهؤلاء عندما يلقون القبض على أحدهم وينوون إرساله إلى دولته؛ يذهبون به إلى المطار، وهو مسافر ولكن إلى أين؟ إلى السجن. ترى الرجل في المطار تنتظره زوجته أو خطيبته وصاحبنا ينتظره السجن، فمن الطبيعي أن يتألم في هذا الطريق، ويتمنى لو لم يكن يسافر أبدا. فلنكسر هذه المعادلة ونجعل الموت رحلة وسفرة من عالم ضيق إلى عالم فسيح الجوانب.
كيف نحول هذه السفرة الموحشة إلى سفرة ممتعة؟
أولا: اليقين. إن مشكلتنا تكمن في عدم اليقين لا في الإيمان. والمثال العرفي لليقين ودرجاته: أنه إذا قيل لكم في المنطقة أو في الشارع الرئيسي قد شب حريق فلن تتحرك من مكانك، فما لك والحريق؟ ولكن إذا شممت رائحة الدخان فسوف تتحرك قليلا ببطئ، وأما إذا رأيت النار على الباب لا قدر الله فسوف تتسلق السور وتهرب. فالأول علم اليقين والثاني حق اليقين ثم عين اليقين. وهذا كله يقين ولكنها درجات مختلفات.
إن الله سبحانه يقول: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)[٢]؛ ولم يقل: يؤمنون بالله عز وجل. وطبعا إن غيب الغيوب هو رب العزة والجلال وبعده المعاد. ينبغي للمؤمن أن يصل إلى هذه الدرجة ولكن كيف؟ لا أدري..! إن هذا الأمر بحاجة إلى بلوغ باطني. إن الإنسان غير البالغ باطنياً لا يصل إلى هذا اليقين. والأمر يتطلب بلوغا فكريا من خلال قراءة ما ينفع في هذا المجال. خذ دورة عقائدية واقرأ كتاب منازل الآخرة، فهو كتاب قيم. وما كتب في هذا المجال والمطالعة الهادفة تحفزك كثيرا.
الاستعداد الدائم للموت
ثانيا: صفِّ ما عليك. إنني عندما أعجب بإنسان أو بعالم أسأله هذا السؤال؛ فإن أجاب عليه بصدق لا مجاملة أعلم أنه قد وصل إلى درجة، وهو قوله تعالى في سورة الجمعة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[٣]. لقد سألت شاباً مهذبا، فقلت له: هل تخاف من الموت؟ فقال لي: أبدا. قلت له: لم لا تخاف وكلمة الموت مرعبة؟ قال: لأنني لا شيء في ذمتي؛ فصلواتي صليتها وصيامي صمته، وليس علي شيء من الحقوق، وقد تردد وقال: لعل في ذمتي مثلا قضاء صلاتي فجر أو ثلاث، ويبدو أن العدد كان محدودا جداً. فمن الطبيعي لهذا الإنسان ألا يهاب الموت؛ لئن ما بعد الموت السعادة العظمى.
بل الأمر أعظم من ذلك وقد لا يصدق البعض ما أقول، ولكنه قد حدث لي: فقد كان لنا أستاذ من كبار السن لا أدري إن كان على قيد الحياة أم لا؟ وكان من تلاميذ الشهيد الصدر الأول، وكان مهذبا. فرأيته في مشهد الرضا (ع) في مناسبة من المناسبات، فقلت له: كيف حالك؟ فلم أكن قد رأيته فترة من الزمن. فقال لي مشتكيا وأظنكم تتعجبون من شكواه: أنه ظهر فيَّ مرض قاتل وهو ما يسمونه بالخبيث – وإن كان هذا المرض بالنسبة إلى البعض نعمة – فأخذوا مني عينة للمختبر ليتبينوا هل أنه مرض حميد أم خبيث؟ يقول: فتفاجئت يا شيخ عندما علمت أن المرض ظهر حميداً،و أحزنني ذلك. يقول: لقد كنت مستعدا للرحيل لكي أرى ما أرى، ولكن يبدو أن رب العالمين أمد في عمري أياما وليالي. ما هذا المنطق؟ إن هذا الإنسان لا تطاوعه نفسه العصيان. وكذلك أعرف أحد العلماء ابتلي بهذا المرض، فقيل له: لن تعيش إلا بضعة أشهر أو سنة. فكان يفتخر ويقول: أنا عندي مهلة في هذا السنة لكي أجهز نفسي ولكنكم أنتم سيفاجئكم الموت مفاجئة؛ فهنيئا لي..! ثم صفى أمره وذهب من هذه الدنيا.
لماذا نتجاوز الحدود أحيانا؟
ما الذي يجعلنا نتجاوز الحد؟ إنه عدم الالتفات لعين الرقيب. لقد سمعت في بعض الدوائر أو في بعض الشركات يجعلون كاميرة وهمية مفصولة عن الخدمة لانضباط الموظفين. وذلك تخفيك الكلمة التي نقرأها أنا وأنت في الأماكن العامة أن المكان مراقب. ولكن من الذي يراقبك؟ إنسان فان مثلك غاية الأمره أن يغرمك دينارا أو دينارين، أو يفصلك عن العمل وفي أسوء التقادير. ولكن هل فكرت في هذا المضمون الذي قرأته في شهر رمضان المبارك وقد بكيت بكاء شديداً عند قراءته وهو قول الإمام (ع): (أَوْ لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبَّ أَنْ تَسْمَعَ دُعَائِي فَبَاعَدْتَنِي)[٤]؛ إنه منتهى الطرد. تارة يستمع الأب إلى كلام الولد ثم لا يعطيه ما يريد، وتارة يقول له: اخرج فلا أريد أن أرى وجهك ولا أن أسمع صوتك، وهذا منتهى الإهانة والطرد.
سر إبطاء الاستجابة
لقد أتتني رسالة من امرأة تقول فيها: إنني امرأة مدللة؛ فكل ما أطلبه أُعطاه. أتظن أن هذا دلال؟ لقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال: (إِنَّ اَلْعَبْدَ لَيَدْعُو الله وَهُوَ يُحِبُّهُ وَيَقُولُ: يَا جَبْرَئِيلُ اِقْضِ لِعَبْدِي هَذَا حَاجَتَهُ وَأَخِّرْهَا فَإِنِّى أُحِبُّ أَنْ لاَ أَزَالَ أَسْمَعُ صَوْتَهُ وَأَنَّ اَلْعَبْدَ لَيَدْعُو الله وَهُوَ يُبْغِضُهُ فَيَقُولُ: يَا جَبْرَئِيلُ اِقْضِ لِعَبْدِي هَذَا حَاجَتَهُ بِإِخْلاَصِهِ وَعَجِّلْهَا فَإِنِّى أَكْرَهُ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ)[٥]؛ فلا تتدلل ولا تجزم بأنك قريب لاستجابة دعائك.
وكذلك لا تيأس إذا دعوت دهراً ولم يستجب لك. إن الله سبحانه يؤجل لك طلبك ويقول: إن هذا الصوت جميل وإن هذا الصوت حنون وهو صوت أحبه وأخشى إن أنا أعطيته شيئا أن يسكت. قد رأيتم الطفل الصغير عندما يوضع في فمه قطعة قد تخرجها من فمه لأنك تريده أن يتكلم وتسمع صوته وتقول: لو أعطيته هذا الشيء لسكت.
الاهتمام بالوصية
هناك كراس صغير لو اشتريته بالآلاف لكان به جديرا. إنه لا قيمة مادية له، ولكنك في القبر ستقول: إنني مستعد الآن لكي أدفع الآلاف وأشتريه. إن هذا الكراس أو قل هذه الوريقات هي ما تكتب فيها وصيتك. فما المانع من كتابة الوصية؟ بل إنها ستطيل من عمرك. وليس هذا شأن كبار السن فحسب؛ بل على الشاب أيضا أن يقتني هذا الكراس ويكتب ما عليه من الصلاة والصوم والخمس والدين أو أي شيء آخر. ولا تنس في الأخير هذه الجملة: جعلت ثلث مالي في سبيل الله. إنها جرة قلم تكسبك الملايين في ذلك العالم؛ فيكفي أن تترك الثلثين لأولادك يستمتعون بها من بعدك، وأنت أولى منهم بهذا الثلث. إنني لأعجبك كثيرا ممن مات ولو يوص بالثلث من ماله، والحال أن الوصية بالثلث ليست بحاجة إلى الذهاب إلى المحكمة وإنها هي بضع كلمات يتلفظ بها.
لقد سمعت أحد العلماء الكبار يقول: كان لنا أستاذ في النجف قد مات له تلميذ، فصادف في الدريق رجلا يبيع الماء حيث لم تكن المبردات قد اخترعت بعد في تك الأيام، ولم يكن ماء معبأ. بل كانت له قربة يبيع فيها الماء. فقال له: بكم تبيع هذه القربة؟ قال: فلس واحد. فقال له: خذ الفلس واجعل هذا الماء سبيلاً عن روح فلان؛ أي تلميذه. يقول: أنه في عالم الرؤياء رأى تلميذه في قصور لا تعد ولا تحصى. فسأل تلميذه وقال: هل هذه القصور كلها لك؟ فلعل البعض منها أمانة أو هو مستأجر فيها أو ما شابه ذلك كما في كدار الدنيا. قال: هذه القصور كلها لي لا لغيري. فقال له أستاذه: من أين لك هذه القصور التي لا تعد ولا تحصى؟ قال: لأزيدك عجباً فقد اشتريتها كلها بفلس واحد. وأنت السبب في ذلك. أنسيت قبل أيام اشتريت قربة ماء جعلتها سبيلاً؟ إن رب العالمين قبل هذه الصدقة وحولها إلى ما ترى.
نعيم الجنة مما لا يمكن تصوره
ويقال: أن المرء في الجنة لا يستمتع بقصوره وحورياته فحسب؛ وإنما يتشبه بالله عز وجل، وهو قوله سبحانه: (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ)[٦] فتغمض عينيك وتتخيل مثلا ملكا لا نظير له ثم تفتح عينيك لتراه ماثلا أمامك. ثم أنت في الدنيا تتنافس على شبر من الأرض أو على قسيمة بكذا متر، والحال أنه الله سبحانه يدعوك ويقول: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[٧].ولا تستغرب من ذلك؛ فإن سورة هل أتى التي محورها علي (ع) وفاطمة (س) قد دخلت الخلود لأقراص من الخبز تصدقا بها. فالمهم أن يتقبل الله عز وجل منك.
مضاعفة الجهد والاستعداد بعد سن الأربعين
إذا بلغ عمر الإنسان الأربعين؛ سن النضج والتكامل فقد بدأ العد التنازلي. جهز نفسك وحاسبها على كل صغيرة وكبيرة. إن من المؤمنين من إذا سقط منه كأس من الماء على الأرض وانكسرت الزجاجة التي لا قيمة لها أو أصابته شوكة؛ يقف قليلا ويفكر عن سبب ذلك؟ اجعل في قلبك مسحاً ضوئيا، ولا تنظر إلى الأمور نظرة عابرة؛ فإن أصبت بحادث سير لا تقل: قضاء وقدر؛ بل أنت السبب. لله عز وجل عقوبات في الأبدان والأموال، ولكن ما ضرب العبد بعقوبة أشد من قسوة القلب. إن المؤمن له هذا الجهاز الباطني؛ فكلما مر في أزمة أو في ضيق يبحث عن السبب ليرفع العلة فيرتفع المعلول.
الشعور بالبرد الباطني في مجالس الحسين (عليه السلام)
ومن أفضل أسباب التقرب الحضور في مجالس العزاء. لا أدري هل يخرج الوالد من زفاف ولده بقلب منبسط كما يخرج خرج من مجلس الحسين (ع) وخاصة بعد وجبة من البكاء الشديد؟ ألا ترى في قلبك برداً؟ ألا ترى فيه حلاوة؟ ما الذي يجلبك إلى مجالس الحسين عليه السلام في الحر والقر؟ أليس هو هذا البرد الباطني. ثم بعد أن تخرج من المجلس؛ حاول أن تتقن صلواتك اليومية، وأن تكون على أحسن حال. لا تثر غضب أحد ولا تسئ إلى أحد؛ فإن أخطائك النهارية تقسي قلبك، فإن كنت تريد أن تبكي على الحسين (ع) كن نظيفا وكن مؤدباً.
خلاصة المحاضرة
- إننا نظن أن السعادة تعني الزواج مثلا، أو سفرة سياحية أو الجلوس مع العائلة أو تحصيل الأموال وما شابه ذلك؛ إلا أن الحسين (ع) قد كسر هذه المعادلة وجعل السعادة مقترنة بالموت بقوله (ع): (َإِنِّي لاَ أَرَى اَلْمَوْتَ إِلاَّ سَعَادَةً).