لازلنا على مائدة أمير المؤمنين في هذا الدعاء الشريف، الذي كتب له الخلود من بين الأدعية.. لا نعتقد أن هنالك دعاء في تاريخ البشرية، يتلى ويكرر في ليالي الجمعة كدعاء كميل.. هذا الدعاء منسوب إلى الخضر، ومنسوب إلى أمير المؤمنين، ومنسوب إلى كميل بن زياد.. رب العالمين بهذا الدعاء بيّن كرامة ولي من أولياء الله، وهو الخضر.. وكرامة وصي نبيه، أمير المؤمنين.. وكرامة أحد أصحابهم الذي فاز بصحبتهم، وهو كميل بن زياد.. هذا الدعاء يقرأ في ليالي الجمعة، وفي خصوص ليلة النصف من شعبان.
إن هذا الدعاء لأهميته وعظمته، فإن أمير المؤمنين يرتب عليه الأثر، حتى لو قرأ في العمر مرة واحدة.. أي إذا استجيبت المضامين، انتهى الأمر ولو بقراءة واحدة!.. لو أن إنسانا كان عند الحطيم، ويده على عتبة باب الكعبة، وقال والدموع جارية على خديه: (وَاجْعَلْ لِساني بِذِكْرِكَ لَهِجَاً، وَقَلْبي بِحُبِّكَ مُتَيَّماً)؛ إذا صار القلب متيما بحب الله عز وجل، واللسان صار لهجا بذكر الله عز وجل؛ فقد بلغنا الأماني وانتهى الموضوع!.. كل هذه الأدعية، وكل هذه العبادات؛ من أجل أن يصل الإنسان لهذه المرحلة: مرحلة الحب الإلهي في القلب، والذكر على اللسان.. وطبعا إذا كان الحب في القلب، والذكر على اللسان؛ فإنه من الطبيعي أن يكون هناك أيضا نور في الجوارح؛ وهو نور التعبد والطاعة.
يقول أمير المؤمنين (ع) في الدعاء: (اِلـهي وَمَوْلايَ)!.. فالإمام (ع) ينوّع في التعابير، يجمع بين الإله والمولى.. لماذا يجمع بينهما، ألا يكفي أن يقول: (يا َاِلـهي) أو يقول: (يا َمَوْلايَ)؟..
قد نفهم من هذه العبارة: أن الإنسان تارة ينظر إلى المقام الربوبي، بما فيه من صفات الجلال والكمال والعظمة.. وتارة ينظر إلى المقام المولوي، باعتبار ارتباطه بالعبد.. نحن مرة ننظر إلى صفات الملك أنه كريم، وأنه عالم.. ومرة ننظر إلى أن الملك هو ملك، وهو حاكم، ونحن تحت رعيته.. فننظر تارة إلى رب العالمين باعتبار صفاته العليا، له الأمثال العليا والأسماء الحسنى.. وتارة ننظر إلى الله -عز وجل- على أنه ولي لي، مولى لي.. وطبعا الذي مولاه رب العالمين، هذا الإنسان يعيش أعلى درجات العزة الباطنية (إلهي!.. كفى بي عزًا أن أكون لك عبدًا، وكفى بي فخرًا أن تكون لي ربًا).
فإذن، إن المؤمن تارة ينظر إلى جهة الرب، على أنه الرب الحاوي المستجمع لكل الصفات الجلالية والكمالية.. وتارة ينظر إلى الله عز وجل، بعنوان الحاكمية وأنه هو العبد.. وعليه، (اِلـهي وَمَوْلايَ)!.. هو إله بما له من الصفات، وأيضا هو مولى لي ولك.
من منا ليست له شكوى على عدو، العدو قد يكون مؤمنا، وقد يكون كافرا؟.. على كل حال الإنسان لا يخلو من عدو، حتى إذا كان الإنسان محبوبا لدى الجميع: عند الفاسق والمؤمن، وهذا قلّ ما يتفق أن يكون مرضيا عند الكل.. وإذا كان مرضيا عند الكل، يبقى موجود واحد لا يرضى عنه بحال من الأحوال، ألا وهو الشيطان اللعين الرجيم.. فالإنسان إما أن يكون له عدو من البشر، أو عدو من الجن، وأغلبنا لديه أعداء من الإنس والجن.. وهذا الإحساس إحساس مزعج، لماذا؟..
أولاً: يجعلنا نعيش حالة التوتر الباطني.. فالإنسان عندما يرى عدوه، أو عندما يسمع باسمه؛ فإنه يعيش حالة من التوتر، حتى لو كانت بينهما مشكلة قديمة وقد نسيت.. ولكن بمجرد أن يراه، تثار أحزانه وآلامه.
ثانيا: يخشى من كيد هذا العدو.. ونحن نعرف من صفات المؤمن: العدل في الرضا والغضب.. المؤمن إذا غضب، فإن غضبه لا يخرجه عن العدل.. ولهذا سمي المسلم: “مسلما”؛ لأن الناس سلموا من يده ومن لسانه، وهنيئا لمن وصل إلى هذه المرتبة!.. إن صلاة الليل من موجبات المقام المحمود، ولكن نعتقد أن ما هو أرقى من صلاة الليل، هو الملكات الباطنية.. إذا وصل أحدنا إلى هذه المرحلة – كلامنا على الأعداء- فهو على ألف خير، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون.
فإذن، إن الإنسان لا يخلو من عدو، وبعض النصوص تدل على أن المؤمن مبتلى، (لو خلق المؤمن على رأس جبل، لا بد له من منافق يؤذيه).. ولاحظنا من خلال بعض التأملات، أن المؤمن إذا صار قويا في إيمانه؛ فإن الشياطين تستغل أضعف الحلقات حوله، مثلا: زوجته امرأة غير متدينة بكل معنى الكلمة، في هذه الحالة نلاحظ أن الشيطان يدخل إلى قلبه مستغلا زوجته، أو جاره، أو ابنه، أو زميله.. وعليه، فإن الذي يجعل الإنسان يرتاح من كيد الآخرين، هو أن يفوّض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.
قد يقول قائل: إن الله -عز وجل- صحيح هو ولي، وهو مولى.. ولكن هل حتما يدافع عن المؤمنين؟.. نعم، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}، وهذا الدفاع ليس في الآخرة فحسب، بل أيضا في الدنيا!.. انظروا إلى تأييد الله -عز وجل- لحبيبه المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- كيف نصره في مواطن عديدة من مكة إلى المدينة، والنصر الإلهي، والتأييد الإلهي معه.
فإذن، (اِلـهي وَمَوْلايَ)!.. عبارتان لو قالهما الإنسان في أحلك الظروف، لانتهى الأمر؛ فلا يحتاج إلى دعاء إضافي.. لأنه إذا اعتقد أن الله -عز وجل- مولى له؛ فإن ذلك يعطيه كمال الاطمئنان، وكمال الارتياح.
(اِلـهي!.. وَرَبّي مَنْ لي غَيْرُكَ أَسْأَلُهُ كَشْفَ ضُرّي، وَالنَّظَرَ في أَمْري).. هذا سر من أسرار الاستجابة، المؤمن الذي يدعو الله -عز وجل- وله أمل بمن سواه ينقطع أمله.. قال تعالى: (وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي!.. لأقطعن أمل كل مؤمل من الناس غيري باليأس…)، الإنسان عندما يدعو الله عز وجل، لابد أن يعيش هذا الاعتقاد الباطني.. ولهذا القرآن الكريم يصف أفسق الناس بأنه من المخلصين، عندما يكون في البحر، ويحيط به الموج من كل مكان: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.. هل في هذا البحر على متن السفينة مؤمنين فقط؟.. بل حتى الفاسق يركب سفينة، ولكن عندما يأتيه الموج من كل مكان؛ فإن الفاسق يتحول إلى أعبد العابدين.. وإذا جاء إلى البر، صار فاسقا.. فهو قبل سويعات كان من أفضل الناس لماذا؟.. لأنه عاش الانقطاع إلى الله عز وجل.
وهنا نثير لفتة قرآنية: إن هذا الإحساس -إن صح التعبير- الطوفاني، لو عاشه الإنسان في الحياة الدنيا، وهو في بيته، وهو على فراشه؛ فإنه سيأتيه نفس ذلك الإخلاص الذي يأتي أصحاب السفينة، وهم محاطون بالأمواج العاتية.
إن أمير المؤمنين (ع) يريد أن يقول لنا: وأنت في الوطن، وأنت على البر، وبين أهلك وولدك؛ عش هذه الحالة: (إِلـهي وَرَبّي مَنْ لي غَيْرُكَ)؛ لأن الذين حولك هؤلاء كلهم ضعفاء مثلك.. أحد العلماء الأبرار -أطال الله في عمره- قال كلمة جميلة: (ما أقبح أن يستجدي الفقير من الفقير)!.. كلنا فقراء إلى الله عز وجل، لماذا تستجدي من هو مثلك في الفقر؟.. انقطع إلى من بيده الأسباب كلها، مالك الرقاب الغني الحميد، الذي لا يعجزه شيء!.. وعليه، فإن من أراد أن يدعو الله عز وجل، ليفرغ ما في فؤاده من كل تعلق بغيره.
ولكن هل معنى ذلك أنه لا ننقطع إلى الأسباب؟.. مثلا: أنا مريض وأقول: (إِلـهي وَ رَبّي مَنْ لي غَيْرُكَ)؟.. ولا أذهب إلى الطبيب؛ لأنه نحن منقطعون إلى الله، معنى ذلك أنه تنسد أبواب الأسباب!.. هذا كلام غير صحيح.. (إِلـهي وَ رَبّي مَنْ لي غَيْرُكَ)؟.. هذه الحالة باطنية، الإنسان يعيش هذا المعنى في قلبه لا في حركته الخارجية، نحن مأمورون بالسعي، عن أبي عبد الله (ع) قال: (إن نبيا من الأنبياء مرض فقال: لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني.. فأوحى الله عز وجل: لا أشفيك حتى تتداوى، فإن الشفاء مني والدواء مني.. فجعل يتداوى فأتى الشفاء).. إبراهيم الخليل (ع) عندما كان يمرض، وكان يراجع الطبيب، ولكن كان شعاره: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} هو الشافي وهو العالم بالأسباب.
فإذن، إن المؤمن عجيب، يجمع بين صفتين -حسب الظاهر- متناقضتين في قلبه، يقول: (إِلـهي وَ رَبّي مَنْ لي غَيْرُكَ)؟.. ولكن في مقام السعي من أنشط الناس، ومن أكثر الناس تعلقا بعالم الأسباب.. ولهذا قال أحدهم: رأيت الباقر (ع) وهو متكئ على غلامين أسودين، فسلّمت عليه فردّ عليّ على بُهر (أي انقطاع النفس من التعب)، وقد تصبّب عرقا فقلت: أصلحك الله لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال في طلب الدنيا؟.. فخلّى الغلامين من يده، وتساند وقال: لو جاءني أنا في طاعة من طاعات الله، أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الله لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله.. فقلت: رحمك الله!.. أردت أن أعظك فوعظتني.. وكذلك فإن أمير المؤمنين (ع) كان من أكثر الناس نشاطا، كم من الآبار التي أحدثها أمير المؤمنين في المدينة أيام النبي الأكرم وبعد أيام النبي؟.. وله من الأوقاف ما له، وهذا ببركة جهده ويمينه.. حتى النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- عندما كان يقاتل، رغم علمه أن الله -عز وجل- يمده بالمدد، كان ينظم الجيش في معركة الخندق.. ما قيمة هذا الخندق: حفرة حفرها المسلمون، أوجبت لهم نصر الله عز وجل؟.. كما هو معروف أخذوا بمشورة سلمان الفارسي، عندما نصحهم بحفر الخندق أمام الأعداء.. والقرآن الكريم يقول: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} إذن، { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.. النصر من عند الله، ولكن حفر الخندق أيضا أمر راجح.. فإذن، إن الذين يدعون ربهم بهذا المنطق، ولا يسعون في الحياة الدنيا؛ هؤلاء ليسوا على سنة الأنبياء في شيء.
(إِلهي وَمَوْلاي!.. أَجْرَيْتَ عَلَي حُكْماً اِتَّبَعْتُ فيهِ هَوى نَفْسي)؛ الإمام -عليه السلام- تارة يقول: (اِلـهي!.. وَرَبّي)!.. وتارة يقول: (إِلهي وَمَوْلاي)!.. تارة ينظر إلى جهة الربوبية، وتارة ينظر إلى جهة المولوية.. و(إلهي)!.. كلمة مشتركة بينهما كل الصفات.. ولكن ما معنى: (إِلهي وَمَوْلاي!.. أَجْرَيْتَ عَلَي حُكْماً اِتَّبَعْتُ فيهِ هَوى نَفْسي)؛ يوجد حكم إلهي، يوجب تبعية الهوى، ما هو هذا الحكم؟..
الله العالم من الممكن أن يكون التفسير: أن هذا الحكم هو الاختيار الثاني.. فرب العالمين جعلني مختارا، وزودني بأجهزة الخير والشر {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}.. من ناحية الإنسان له عقل يضبط سلوكه، فالعقل الباطني يقول له: أقبل!.. فيقبل، وإن قال له: أدبر!.. يدبر.. ولكن في نفس الوقت، جعل فينا الشهوة، وجعل فينا الغضب {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}، يفسد فيها إشارة إلى البعد الشهوي، ويسفك الدماء إشارة إلى البعد الغضبي.. ولكن الملائكة لم تعلم بأن الله -عز وجل- أودع أميرا في هذا الوجود.. الغضب والشهوة رعيتان، والملك والحاكمية للعقل.. ولكن ما بال أحدنا قضى على هذا الملك؟.. في بعض البلاد تجتمع الرعية وتغتال الملك، عندما يصبح هناك انقلاب عسكري عليه؟.. ونحن كذلك بشهواتنا وغضبنا، قتلنا هذا الملك؛ ألا وهو العقل والضمير.. وعندئذ الرعية تعيث في الأرض فسادا.. فمملكة الوجود في الأصل كان فيها جهاز ضابط وحاكم، وهو العقل.. ولكن عندما تقوى الرعية في الشهوة والغضب، يصبح هذا الملك إما مقتولا أو معزولا، والملك المعزول لا يطاع.. ولا رأي لمن لا يطاع.
فإذن، إن رب العالمين جعل لك الاختيار، وجعل لك حاكما أمينا كالعقل، يمثل الأنبياء في وجودك.. ولهذا نحن بالعقل آمنا بالله عز وجل، وبالعقل آمنا بالأنبياء (ع).. هذا العقل جعل الله -عز وجل- له قيمة، أن جعله سُلّما للتوحيد وللنبوة.. وبالتالي، فإن هنالك عقلا، وهنالك رعية: هذه الرعية إذا كانت تحت حكم العقل، فهي رعية نافعة.. ولكن إذا تمردت الرعية على حكم العقل، فيقع ما يقع.. قابيل المسكين الغضب في وجوده قتل عقله، وعزله.. وإذا به في لحظة من اللحظات، يرتكب جريمة القتل الأولى في تاريخ الإنسانية.
وعليه، فإن على الإنسان في دعاء كميل، أن يطلب من الله -تعالى- أن يعينه على هذه الرعية: رعية الشهوة، والغضب، ويعينه أيضا على تمردها.. فهنالك رعية تتمرد، وهي رعية الشهوة والغضب.. وهنالك سلطان آخر في مقابل سلطان العقل أيضا، هذا السلطان المنافس يخشى على الرعية منه؛ ألا وهو الشيطان، فهو له دور في تقويض دعائم هذه المملكة الباطنية.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.