– إن حضور المجالس الحسينية، والاستفادة من المذكرات المأخوذة من القرآن الكريم والسنة، له مزية وضريبة.. المزية: هي أن الإنسان يتعلم، ويزداد فهماً لمقاصد الشريعة.. ولكن في نفس الوقت هنالك ضريبة: وهي أن الإنسان عندما يتعرض لهذا الإشعاع النوري، وثم -لا قدر الله- يخالف.. فإن رب العالمين قد يتأخر في مسألة العفو عنه والمغفرة له.. عن الإمام الصادق (ع): (يا حفص!.. إنه يُغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يُغفر للعالم ذنبٌ واحدٌ).. فالمراد بالعالم ليس المعمم أو إمام المسجد، وإنما العالم الذي علم الشيء.
– إننا خلقنا في أفضل البلاد، في بلاد الولاء للنبي وآل النبي، فنحن ننتقل -بحمد الله- من مجلس حي إلى مجلس آخر. بينما ذلك الذي يقطن الآن في شرق الأرض وغربها، في مدينة لا يسمع فيها تهليلاً أو تكبيراً، فإن حظه هو الفضائيات والمواقع، ليس أكثر من ذلك، فهو يتحرق لحضور مجالس أبي عبد الله الحسين (ع).
– إن البعض يفضل الجلوس في المنزل أمام الفضائيات، ليستفيد من المحاضرات المعروضة.. ولكن هذا كلام خطير، ويوجب الوهن في إقامة الشعائر.. فرب العالمين يحب أن تعظم شعائره.. فعندما يأتي الناس زرافات ووحدانا لإقامة عزاء أهل البيت، هذا المظهر مظهر مطلوب.. ولهذا في الحج هنالك تأكيد على الوفادة على البيت.. فإذن، إن الإنسان بإمكانه أن ينوع، ففي آخر الليل يسمع البرامج المعادة على المحطات.. ولكن ليس الحل في مقاطعة هذه المجالس.
– إن هنالك رحمة جماعية في هذه الأماكن، وهنالك فيض ومدد إلهي ورحمة إلهية تغمرنا ببركة البعض.. فإذا كنت أنا غير مستحق للرحمة الإلهية، فإن لكل واحد من الحضور قصة في هذا المكان المبارك: فمنهم من ترك عمله، والبعض ترك وطنه، والبعض ترك مريضاً عنده في المنزل، والبعض جاء وهو مريض مثلاً.. فإن رب العالمين يجمع هذه القصص كلها، وينزل عليهم شهاباً من نور.. فأين يجد الإنسان هذا النور، إذا جلس أمام التلفاز ليتابع فضائية من الفضائيات، ولو كان برنامجاً نافعاً!..
– إن وظيفة الوعظ والإرشاد، وإيصال النور والهدى إلى القلوب، ليست هذه وظيفة علماء الدين، وإنما كل فرد مسؤول عن رعيته.. وعلى الجميع أن يتقن المحاضرة، ويفهمها جيداً، ويتابعها في ذهنه، وعندما يرجع إلى المنزل، فإن هنالك من لم يوفق لعذر أو لغير عذر للحضور، فيحاول أن يروج للهدى في أسرته.. وعندما يذهب للعمل يحاول أن يكون مصباح الهدى بمستواه.. صحيح أن مصباح الهدى الأعظم هو سيد الشهداء، هذا المصباح يتنقل تدريجياً إلى العلماء وإلى الخطباء والمستمع.. ولكن كل واحد منا مشروع، لأن يكون من أفراد خير أمة أخرجت للناس، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.
– إن ما يتعلق بمسألة المعاد والبرزخ، لها سبيل وحيد، وهو الغيب.. فنحن لم نذهب للبرزخ، حتى نعلم ما الذي يجري.. فالقرآن الكريم هو القناة الأولى والمطمئنة، لمعرفة الحوادث المذهلة بعد الموت.. يشير القرآن الكريم إلى أن ما سنواجهه في البرزخ والقيامة هي دواوين منشورة، هذا الدواوين كتبت في الدنيا.. فالملائكة على الأكتاف تسجل كل ما يصدر من الإنسان.. {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.. فالذي يصل إلى ملكوت هذه الآية، وإلى فحوى هذه الآية، لا شك أنه يعد ألفاظه عداً.. مرّ أمير المؤمنين (ع) برجل وهو يتكلم بفضول الكلام، فقال: (يا هذا!..إنك تملي على كاتبيك كتابا إلى ربك، فتكلّم بما يعنيك، ودع ما لا يعنيك).. أي أن هذا الذي تقوله لا يذهب في الهواء، إنما هي كلمات تسجل في ديوان أعمالك، ويوم القيامة الإنسان يفتح كتابه، وإذا به يرى كل شاردة وواردة.
فإذن، إن من موجبات التوفيق في عرصات القيامة، هو السيطرة على المنافذ الواردة والصادرة.. فالمنافذ الواردة هي: الأذنان، والعين، والفم.. هذه الحواس المتلقية.. وكذلك المنافذ الصادرة التي هي اللسان، العنصر الذي يبث للغير، وكأنه إذاعة للآخرين!.. أحدهم يقول: رأيت والدي بعد الممات يقول: من حوادث البرزخ الأولى أن يضرب على فمه.. عن علي (ع): من كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار.
– إن ذكر الموت يحيي القلوب، والإنسان يستفيق على الواقع، ويتدارك الموقف، قبل أن تقفل الملفات.. لذا على المؤمن أن يبادر في رأس كل سنة خمسية إلى إبراء الذمة مما يسمى برد المظالم، ومجهول المالك.. ألم يقع الإنسان منذ أيامه الأولى إلى الآن، في إتلاف مال الغير، سهواً أو عمداً!.. وهذا يكفي لأن يأتي صاحب هذا المال، الذي قد يقدر بفلس واحد يوم القيامة ويقول: أنا لا أرضى، إلا أن يعطيني حجة من حججه.. فهذا إنسان متورط، ووجد فرصة ذهبية، حتى يصادر مكتسبات الغير.
وليس من الضروري أن يعلم الإنسان الذي سرق منه شيئا، بأنه هو السارق.. فليبعث له عن طريق أحد، ويقول بأنه مشغول الذمة له بهذا المال.. أو بالإمكان أن يطلب منه إبراء ذمته دون ذكر السبب.. وهناك بعض المؤمنين المستأجرين، عندما يخلي شقته، يطلب من صاحب المنزل إبراء الذمة، إذ لعله ما كان مجازاً أن يضرب مسمارا هنا أو هناك.. نعم، هنا التقوى.. لأن الإنسان لا يعلم ما الذي سيحصل في عرصات القيامة!..
إن على الإنسان المؤمن أن ينتبه لذلك، ويدفع المال للوكيل؛ بدلاً من أن تصادر عمرته وحجته.. فهنا تكمن لباقة المؤمن وذكاؤه.. فنحن عندما نقول في الدعاء: (اللهم!.. أرض خصومي بما شئت)؛ أي خلصني من تبعات العباد يوم القيامة.. وهذه رواية عن رسول الله (ص)، تبين ما الذي يجري يوم القيامة: بينا رسول الله (ص) جالس إذا رأيناه ضاحكاً حتى بدت ثناياه، فقلنا: يا رسول الله!.. ممّ ضحكت؟.. فقال: رجلان من أُمّتي جيئا بين يدي ربّي، فقال أحدهما: يا ربِّ!.. خذ لي بمظلمتي من آخر، فقال الله تعالى: أعطِ أخاك مظلمته، فقال: يا ربِّ!.. لم يبقَ من حسناتي شيء، فقال: يا ربِّ!.. فليحمل من أوزاري، ثم فاضت عينا رسول ال! له (ص) وقال: إنّ ذلك اليوم ليوم تحتاج الناس فيه إلى مَن يحمل عنهم أوزارهم، ثم قال الله تعالى للطّالب بحقه: ارفع بصرك إلى الجنّة فانظر ماذا ترى؟.. فرفع رأسه فرأى ما أعجبه من الخير والنعمة، فقال: يا ربِّ لِمَن هذا؟!.. فقال: لِمَن أعطاني ثمنه، فقال: يا ربِّ ومَن يملك ثمن ذلك؟.. فقال: أنت ، فقال: كيف بذلك؟.. فقال: بعفوك عن أخيك ، فقال: قد عفوت، فقال الله تعالى: فخذ بيد أخيك فادخلا الجنّة.. فقال رسول الله (ص): {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}.
– فإذن، إن من الأهوال في عرصات القيامة والبرزخ التبعات المالية.. ولذلك فإن المؤمن يجب أن يكون منضبطا ودقيقا في أموره المالية.. ولكن لو تورط فهنالك طريقة للتعويض: إما بالدفع لمن يعلمه أو لورثته، أو إذا كان الشخص مجهولاً، يعطي ذلك للحاكم الشرعي، فيصل إلى الله عز وجل.
– ما هو الزاد الأعظم للقيامة؟.. الجواب أيضاً من القرآن الكريم.. {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.. قد يقول قائل ما معنى هذه الآية؟.. وكيف لا ينفع مال؟.. فالمال من ضمنه الصدقات.. إن المال معنى عام: فهنالك مال محرم ينفق في الحرام، ومال محرم ينفق في الحلال يبنى به مسجد، وهنالك مال حلال يصرف في الحلال وفي الطاعة.. فكيف لا ينفع المال؟.. وكيف لا ينفع البنون؟.. ألم يقل رسول الله (ص): (إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).. الإجابة بسيطة: إن المنطق الرياضي يقول: الصفر لا قيمة له.. والصفران لا قيمة لهما.. فالصفر لا شيء، واللاشيء مع اللاشيء يعني لا شيء.. فإذا كتب ثمانية أصفار على صك، فهذا لا قيمة له.. أم لو كُتب رقم واحد في اليسار، فإذا بهذه الأصفار التي لا قيمة لها تتحول إلى ثروة طائلة.. وبالتالي، فإن كل أعمال الإنسان، وولده ومالها، هي عبارة عن أصفار.. والعدد الصحيح هو القلب السليم.. فالمال الذي رصيده القلب السليم، هو الذي له قيمة، لأن القلب السليم هو الذي يجعل الإنفاق في سبيل الله.. وإلا ما قيمة المسجد الذي يبنى؟.. ففي صدر الإسلام كان النبي بحاجة إلى المساجد، ومع ذلك فقد أمر بأن يهدم مسجد، لأنه بني على غير التقوى، وسمى بمسجد ضرار.
فإذن، إن الإنسان إذا امتلك قلباً سليماً، فإنه يكفيه صفر واحد، يقول الحديث الشريف: أخلص العمل يكفيك القليل.. فالعبد إذا صار مرضياً لله، يرضى منه القليل من العمل.. فقابيل المقتول ظلماً قدم قرباناً، ورب العالمين تقبل قربانه، فذُكر اسمه في القرآن الكريم، على نحو أول مظلوم على وجه الأرض.
– ما هو القلب السليم؟.. القلب السليم له معنيان: معنى في عالم البحث الساذج البسيط، ومعنى في عالم التعمق والأبحاث السلوكية الدقيقة.. القلب السليم بتعبير عرفي بسيط من دون رتوش ومن دون تعمق: ذلك القلب الذي ليس فيه ما لا يرضى رب العالمين عنه.. إن للإنسان جوارح وجوانح.. الجوارح هي: اليد، والرجلان، وغيره.. وهنالك جوانح.. وبعض الصفات محلها الجانحة لا الجارحة.. فالذي يدعو للاغتياب، هو الحسد القلبي.. إذ أن القلب يغلي عندما يرى نعمة الغير؛ لضيق الأفق.. هذا الأمر سخيف.. ولكن نحن أيضاً بعض الأوقات نرتكب هذا السخف، فنتحين الفرص للإطاحة بشخص، ونحصي عليه عثراته، لأنه محسود، وبالتالي تقوم الكارثة.
– إن هنالك شيئا في الباطن، وهو التكبر.. أحد العلماء يقول: أن الإنسان الذي يعيش الكبر الباطني، هذا الإنسان لا يمكن أن يخطو خطوة للأمام، لأن هذا إنسان ينافس رب العالمين سلطانه.. فالقلب السليم ذلك القلب الذي ليس فيه سلبية من هذه السلبيات.
يقول الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
– إن القلب السليم، ذلك القلب الذي لا يحمل حقداً على أحد.. مع الأسف إن بعض الناس لا يتحمل الفقر والإيجار وضيق اليد.. فالفقر فخري.. الفقر إذا لم يكن عن تقصير فأنعم به وأكرم!.. لأنه يخفف الحساب عن صاحبه يوم القيامة.. فالفقير يوم القيامة لا يحاسب كما يحاسب الغني.. فإذن ليس الفقر بأمر مخيف، إن لم يكن الإنسان مقصراً.
هناك عالم من علماء الدين الكبار، كان مستأجرا.. يقول: بعد سنوات من حياة الذل والاستئجار وغيره، حصلنا على مال حلال، حتى نشتري منزلاً.. يقول: وضعنا المال في المنزل في زاوية من زوايا البيت، جاءنا ضيف إلى بيتنا، ويبدو أنه عرف موضع المال.. فأخذ هذا المال الحلال، وهرب من المنزل.. يقول: استقر بنا الرأي أن نتجاوز عنه، لأنه إنسان محترم بحسب الظاهر، وإذا كشفنا جريمته، فإنه سيسقط اجتماعيا.. فنحن نتحمل فقد المال، ولا نتحمل إراقة ماء وجه مؤمن.. مرت الأيام إلى أن التقى به في حرم الرضا (ع).. يبدو أنه عزم على الحج أو ما شابه ذلك، قال: يا فلان أبرئني الذمة!.. يقول هذا العالم: قلت له: أنت مسامَح، ولكن عندي طلب -هذه أخلاق الأنبياء والمرسلين- قال: لا تقف أمامي.. اذهب عن وجهي، لا أريد أن أراك.. لأني لا أتحمل أن أراك خجلاً أمامي.
هذا هو القلب السليم، وهذا هو المعنى العرفي للقلب السليم.. ولكن هنالك معنى أدق، القلب السليم هو ذلك القلب الذي يلقى الله، وليس فيه أحد سواه.. أو بعبارة أخرى: ذلك القلب الموحد الذي لا يرى مؤثراً في الوجود إلا هو.. كما قال أمير المؤمنين (ع): ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه.. طوبى لمن وصل إلى هذه المرحلة!.. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}.. والإنسان ليس بأقل من الأرض.. فالمؤمن يصل إلى درجة الكرسي الإلهي، والعرش الإلهي يتجلى في قلب العبد.. (ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلبُ عبدي المؤمن).. فقلب المؤمن عرش الرحمن. إياك وإياك!.. أن تتحرش بعبد له علاقة متميزة بالله عز وجل، فإنه يرميك بسهام الليل!..
أحد العلماء الكبار ذهب يوم من الأيام للحمام، فأطال في الحمام قليلاً، وإذا بمتجبر، لا يخاف الله عز وجل، أهان هذا العالم الكبير بكلمة، وعندما رجع إلى البيت، وإذا بهذا الإنسان قضي عليه.. فتألم العالم بدلاً من أن يفرح، وقال: يا ليتني واجهته بشطر كلمة، فلو أني غضبت عليه، لما انتقم الله منه.
– لماذا أحدنا لا تفتح له الآفاق؟.. لأن هنالك ظلامات في الخلوات.. فمثلا: الزوج يستسهل إهانة المرأة وظلمها، وكأن لا قيمة لها، فهي تعامل كأمة في المنزل.. وذلك لأن الرجال أساؤوا فهم آية: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء}، ففهموا أن هذه حكومة، وهذه ألوهية، فهذه المرأة بيده يأمرها بما يريد.. بينما الأمر ليس كذلك!.. إنما قوامون على النساء بحدوده الشرعية، والشارع المقدس بين ذلك.
أحدهم عذب في عالم البرزخ، لأنه كان في الدنيا يحبس أخته عن الزواج، حتى تبقى في خدمته.. نعم بعض الآباء لا يزوج الفتاة لأنها خادمة في المنزل.. أو لأنها تؤنس الجمع، يقول: لو زوجت ابنتي، أحرم جوارها والأنس بها.. وهذا منطق غير شرعي!.. علينا أن نخشى هذه الظلامات التي تقع فيما بيننا، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
– إن القلب السليم بالمعنى الأرقى والأجود، ذلك القلب الذي يلقى الله –عز وجل- وليس فيه أحد سواه.. فالإنسان الذي لا يرى في الوجود مؤثراً إلا هو.. لا بد أن تكون عيشته من أرقى صور المعيشة في الوجود!..
إننا جربنا كثيرا من لذائذ الدنيا: الأكل والشرب والعطورات وما إلى ذلك من متع الدنيا.. نحن لا ندعو إلى ترك ذلك، فإن المؤمن أولى بمتاع الدنيا من الكافر.. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}.. والنبي (ص) كان ينفق أمولاً كثيرة مما آتاه الله على الطيب.. ولكن علينا بسياسة الجمع، لا التعويض.. إن المؤمن كيّس فطن.. في جوف الليل يسترخي، ويتمدد على فراشه، ويتذكر بعض الأمور وبعض العوالم من اللذائذ التي لا تدرك.. فهو يعيش حلاوة لا توصف!.. يتجلى له في جوف الليل، فيريه بعض الجمال الذي يدرك ولا يوصف.. يقول الآخوندي الخراساني في كفايته، عندما يصل إلى بحث معقد في الأصول، بحث أصولي علمي يقول: وصل القلم إلى هنا وانكسر.. أيضاً نحن نقول: وصل القلم إلى هنا وانكسر.
الإمام موسى بن جعفر (ع) عندما دخل السجن، شكر الله على نعمة الخلوة مع رب العالمين.. فما الذي كان يمسك النبي في غراء حراء، غير هذه اللذائذ.. وما الذي جعل أصحاب الحسين يعيشون أفضل ساعة من المتع المعنوية ليلة عاشوراء؟..
– إن من دخل هذا الوادي يوشك أن يصل، بعد تأييدات الله وفضله ولطفه.. والذين تذوقوا قطرةً من هذا البحر، يعلمون أن اللذائذ الكبرى كامنة وراء الموت.. {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.. الآية تصف نعيم الجنة، ثم يقول: هنالك رضوان أكبر.. هذا الرضوان الأكبر إذا سحب إلى الدنيا، عندها ماذا يريد الإنسان من الجنة؟!.. هل الإمام السجاد (ع) يشتاق للحور!.. أو يشتاق للقصور!.. إنه يقول: يا نعيمي وجنتي، إذ لا حدود بين الدنيا والبرزخ والقيامة.
– هنيئاً لمن مشى في هذا الطريق!.. وقديماً وجديداً قالوا: من سار على الدرب وصل.. وطريق الألف يميل يبدأ بخطوة.. إن يوسف (ع) صار صديقاً، ليس لمجاهدته وهربه من زليخا.. وإنما السر هو في قوله: {… رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ}.. ما قال: السجن أنفع لي.. بل قال: يا رب!.. إن خلوتي في ذلك السجن، أحب إليّ من خلوتي مع زليخا.. فأين زليخا وأين خلوتي في السجن؟!.. هنيئاً لمن وصل إلى هذه المقولة!.. يرى أن ليلة خلوة مع رب العالمين، تسوى لذائذ الدنيا بقضها وقضيضها.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.