بيوت الله عز وجل..
لابد أن نذكّر أنفسنا بين وقت وآخر بأن لله عز وجل بيوتاً في الأرض، هذه البيوت كلها منتسبة إليه.. فحرمة المساجد حتى تلك المساجد المبنية في القرى النائية؛ أي المساجد المتواضعة، هي والمسجد الحرام على حد سواء، رغم أن للمسجد الحرام مزية، ولمسجد الكوفة مزية؛ ولكن في أصل المسجدية، لا فرق بين هذه المساجد؛ فكلها بيوت الله عزّ وجل.. والبيت عندما ينسب إلى جهة ما، فهذا يوحي بما يلي:
أولاً: الإجارة.. إن من يدخل بيتاً يصير في إجارة صاحب البيت، فهو يحميه من الآخرين، ولا أحد يتطاول عليه مادام في بيته.. ولهذا من يُصلي في المنزل، لا يرى طعماً لصلاته؛ لأن الخواطر تأتيه من كل جهة، أما في المسجد فإن هذه النسبة تقل؛ لأن الشياطين في بيوت الله عزّ وجل -من الممكن أن يقال بأنها- تُحدّد حركتها.. فكما أن هناك ضيافة زمانية في شهر رمضان المبارك، هناك ضيافة مكانية في المساجد.. فهذه الأزمنة والأمكنة المنسوبة إلى الله عزّ وجل؛ فيها حماية نسبية؛ حيث أن الشيطان في شهر رمضان المبارك لا يموت؛ ولكن يكون مغلولاً، فما المانع أن نقول: أن الشياطين أيضاً تكون مغلولة في المساجد؛ لأنها منتسبة إلى الله عز وجل؟!..
ثانياً: الضيافة.. إن المتعارف عليه في كل القرون، أن الإنسان عندما يدخل مكاناً، تُقدم له ضيافة ولو بأدنى صورها.. فمَن دخل بيتاً من بيوت الله عز وجل؛ فليعلم أن هنالك ضيافة إلهية، ولكن بحسب المسجد!.. فضيافة الأغنياء: الطعام، والشراب.. أما ضيافة المسجد: فهي ما وراء الطعام والشراب، ولو كشف الغطاء عن الناس لما بقي مكان في المسجد إلا وفيه مصلٍّ، بل لوقع التقاتل!.. لأنه لو كان هناك جهة تعطي الآلاف في وقت محدد وفي مكان معين؛ فإنه من الطبيعي أن يتقاتل الناس على ذلك المكان.
١. قال رسول الله (صلی الله عليه): (أتاني جبرائيل مع سبعين ألف ملك بعد صلاة الظهر، فقال: يا محمد!.. إن ربك يقرئك السلام، وأهدى إليك هديتين لم يهدهما إلى نبي قبلك، قلت: وما تلك الهديتان؟.. قال: الوتر ثلاث ركعات، والصلاة الخمس في جماعة.. قلت: يا جبرائيل!.. وما لأمتي في الجماعة؟.. قال: يا محمد!.. وأما إذا كانا اثنين؛ كتب الله لكل واحد بكل ركعة مائة وخمسين صلاة.. وإذا كانوا ثلاثة؛ كتب لكل واحد بكل ركعة ستمائة صلاة.. وإذا كانوا أربعة؛ كتب الله لكل واحد بكل ركعة ألفا ومائتي صلاة.. وإذا كانوا خمسة؛ كتب الله لكل واحد بكل ركعة ألفين وأربعمائة.. وإذا كانوا ستة؛ كتب الله لكل واحد منهم بكل ركعة أربعة آلاف وثمانمائة صلاة.. وإذا كانوا سبعة؛ كتب الله لكل واحد منهم بكل ركعة تسعة آلاف وستمائة صلاة.. وإذا كانوا ثمانية؛ كتب الله لكل واحد منهم بكل ركعة تسعة عشر ألفا ومائتي صلاة.. وإذا كانوا تسعة؛ كتب الله لكل واحد منهم بكل ركعة ستة وثلاثين ألفا وأربعمائة صلاة.. وإذا كانوا عشرة؛ كتب الله لكل واحد بكل ركعة سبعين ألفا وألفين وثمانمائة صلاة.. فإن زادوا على العشرة؛ فلو صارت السماوات كلها مدادا، والأشجار أقلام، والثقلان مع الملائكة كتابا؛ لم يقدروا أن يكتبوا ثواب ركعة واحدة.. يا محمد!.. تكبيرة يدركها المؤمن مع الإمام؛ خير من ستين ألف حجة وعمرة، وخير من الدنيا وما فيها سبعين ألف مرة.. وركعة يصليها المؤمن مع الإمام؛ خير من مائة ألف دينار يتصدق بها على المساكين.. وسجدة يسجدها المؤمن مع الإمام في جماعة؛ خير من عتق مائة رقبة).
٢. عن أبي سعيد الخدري مثله إلى قوله: (يا محمد!.. تكبير يدركها المؤمن؛ خير له من سبعين حجة وألف عمرة سوى الفريضة.. يا محمد!.. ركعة يصليها المؤمن مع الإمام؛ خير له من أن يتصدق بمائة ألف دينار على المساكين.. وسجدة يسجدها خير له من عبادة سنة.. وركعة يركعها المؤمن مع الإمام؛ خير من مائة رقبة يعتقها في سبيل الله، يا محمد!.. من أحب الجماعة أحبه الله والملائكة أجمعون).
وعليه، فإن المسجد هو بيت الله عز وجل، ومن زار بيت الله؛ يُكرم!.. وكرامة كل كريم بحسبه؛ أي بحسب نية القادم!.. فالإنسان لا يذهب إلى المسجد ليأكل ويشرب، هو عندما يذهب إلى بيوت الأغنياء يستفيد: مالاً، وطعاماً،..والخ.. ولكن عندما يأتي إلى المسجد، فإن نيته هي:
أ- التقرب إلى الله عز وجل.
ب- أن تنكشف له أبواب عالم الغيب.
ج- أن يصالح رب العالمين.
د. غفران الذنوب.
فإذن، إن الكريم يعطي الضيف ما يحتاج إليه وما يطلبه منه، والمؤمن في المساجد هذه هي طلبته!..
عمارة المساجد..
أولاً: يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾..
-﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله عليه): (مَنْ أَلِفَ الْمَسْجِدَ؛ أَلِفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ)؛ إنها كلمة جامعة مانعة: من ألف المسجد؛ يكفيه هذا الجزاء؛ أن الله عز وجل يألفه.. وبعبارة أخرى: يصبح خليله وصديقه.. صحيح ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا﴾؛ ولكن هذا الباب مفتوح إلى يوم القيامة، وإنما بدرجة أخف من درجة إبراهيم الخليل (عليه السلام).. بعض المفسرين يقولون في تفسير هذه الآية ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾: أن عمارة المسجد تكون بأحد معنيين:
١. العمارة الظاهرية: أي أن يضع الإنسان حجراً على حجر.. فعن رسول الله (صلی الله عليه) أنه قال: (ومَن بنى مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة).
٢. العمارة المعنوية: أي أن يرتاد الإنسان المسجد؛ فهذا يعدّ أيضاً من عمّار بيت الله عز وجل.. فعندما يقال: فلان مجلسه عامر؛ أي أن هناك طبقة من الناس تذهب وتأتي إليه!..
فإذن، إن عمارة البيوت تكون: تارة بالبناء الظاهري، وتارة بالذهاب والإياب.. والله العالم!.. قد تكون عمارة المسجد بهذا المعنى، لا يقل عن بناء المسجد بناءً ظاهريًا.
-﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾.. إن القرآن الكريم عادة يعبّر بأقام الصلاة، وإقامة الصلاة معنىً يغاير الصلاة تماماً، كمغايرة الخيمة المقامة للخيمة للمشتراة، فمثلاً: لو أن إنساناً اشترى خيمة وجعلها في المنزل؛ هذه الخيمة لا تقيه حراً ولا برداً!.. هي خيمة بعناصرها الأولية، ولكن إذا أقامها؛ أي: وضع العمود، وضرب الأوتاد؛ عندئذ تقيه الحر والبرد.
فإذن، إن الخيمة المقامة هي الخيمة المنصوبة، وصلاة الناس مثل هذه الخيمة: بعض الناس صلاته كالخيمة غير المنصوبة، لا خاصية فيها.. وبعضهم الآخر صلاته مُقامة؛ هذه الصلاة المقامة لها لسان، مثل الأرض التي تحدث أخبارها يوم القيامة، يقول تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾، ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾؛ الصلاة أيضاً لها خاصية، يُعبّر عنها القرآن الكريم بهذه الآية: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾؛ فمن كان على منكر، وجاء إلى المسجد، وأقام الصلاة، كأن هناك من يهمس في أذنه قائلاً له: دع المنكر!.. وفرق بين همس الصلاة، وهمس الواعظ؛ لأن:
أ- الواعظ قد يعظ الإنسان، ولكن قد لا يؤثر فيه.
ب- الصلاة تنهاه حقيقة عن الفحشاء والمنكر.
-﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ﴾.. بعض العلماء عندما يصل إلى هذه الآية يتساءل: بأنه كيف لا نخشى الظالمين؛ فهذا أمر غريزي، وخاصة إن كان هناك حاكم كفرعون -والفراعنة موجودون طوال التأريخ- مستكبر، والإنسان: ضعيف، لا سند له، ولا عشيرة له، وليس له وزن اجتماعي أمام ذلك الحاكم.. وبالتالي، فإن هذا الخوف خوف قهري، وهذه خشية طبيعية، فكيف يمكن أن تكون هذه الخشية من موجبات سقوط الإنسان من عين ربه؟!.. هنا العلماء من باب التخلص من المشكلة، قالوا: ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ﴾؛ أي في مقام العبادة، لا يعبد إلا الله عز وجل.. يقول صاحب تفسير الميزان: “يظهر أن المراد بقوله: ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ﴾؛ الخشية الدينية وهي العبادة، دون الخشية الغريزية التي لا يسلم منها إلا المقربون من أولياء الله كالأنبياء، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ﴾”.. ولكن بعض المقربين، يصل إلى درجة حتى هذا الخوف الغريزي ينتفي من وجوده!.. فالمؤمن الذي يرى الله عز وجل أمامه، دقات قلبه لا تزيد حتى لو رأى أعتى الفراعنة والجبابرة؛ لأنه لا يرى أحداً أمامه.. فالتوحيد: “أن لا ترى في الوجود مؤثراً، إلا هو”!.. ولهذا إذا أراد الإنسان أن يعلم بأي مستوى إيماني هو، فلينظر إلى قلبه عندما يواجه رئيس العمل -مثلاً- من رزقه بيده: فإن رأى قلبه مضطرباً؛ فليعلم أنه لم يصل إلى مقام المقربين؛ لأن هذا المقام هو مقام الخُلّص من أولياء الله عز وجل، الذين لا يروون أحداً إلا الله سبحانه.
-﴿فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾.. يا للعجب!.. إنسان يرتاد المسجد من الذين يقول عنهم رب العالمين: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ﴾ -فمن يذهب إلى المسجد في الأسبوع مرة واحدة، قد لا تنطبق عليه هذه الآية، إنما الإنسان الذي له علاقة يومية في المسجد؛ هذا من الممكن أن يكون في زمرة أولئك الذين يعمرون مساجد الله تعالى- وآمن بالله عز وجل، وباليوم الآخر، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، ولم يخشَ إلا الله.. ومع ذلك تقول الآية الكريمة: ﴿فَعَسَى﴾؛ أي يُرجى!.. فالقضية ليست قطعية، فمن جاء بهذه المقدمات ﴿فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾؛ أي أن القضية معقدة وعميقة، وليس معنى ذلك أن يكون الإنسان مهتدياً في فترة من فترات حياته فقط!.. فالهداية لها درجات:
الهداية الفعلية: أي أن المهتدي هو الذي له فعل الهداية، والمتلبس بالهداية فعلاً!..
الهداية الذاتية: أي أن تكون ذات الإنسان ذاتاً مهدية!.. فالإنسان حيوان ناطق: إنْ ذهب إلى القمر هو حيوان ناطق، وإنْ غاص في أعماق البحر هو حيوان ناطق؛ لأن هذه من صفات الذات، والإنسان يتنفس سواء كان في الغابة أو كان في المنزل.. وعليه، فإن المؤمن يصل إلى رتبة الهداية المتعلقة بالذات، وهذا لا يحتاج إلى معاناة: فإن ذهب إلى بلاد الغرب، لا يرى شيئاً جديداً، ولا يقوم بمجاهدة إضافية.. والليل والنهار، والخلوة والإعلان والإسرار؛ كل الأمور عنده على حد سواء.. فهل هناك إنسان يتنفس رياءً: هل هناك إنسان يتنفس في الخلوات، ولا يتنفس في الجلوات؟!.. إن الهداية في هذه الآية: ﴿أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾؛ هي هداية خاصة!.. فمن يدمن الذهاب إلى المساجد، من الممكن بعد عمر طويل، أن يجتبيه رب العالمين لهذا المنصب: منصب الهداية اللازمة، فتصبح ذاته مميزة في هذا المجال.
ثانياً: روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إذا بلغت باب المسجد، فاعلم أنّك قصدت باب بيت ملك عظيم، لا يطأ بساطه إلاّ المطهرون، ولا يؤذن بمجالسة مجلسه إلاّ الصدّيقون، وهب القدوم إلى بساط خدمة الملك؛ فإنّك على خطر عظيم إن غفلت هيبة الملك!.. واعلم أنّه قادر على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك، فإن عطف عليك برحمته وفضله؛ قَبِلَ منك يسير الطاعة، وآجرك عليها ثواباً كثيراً.. وإن طالبك باستحقاقه الصدق والإخلاص عدلاً بك؛ حجبك وردَّ طاعتك وإن كثرت، وهو فعّال لما يريد.. واعترف بعجزك وتقصيرك وفقرك بين يديه، فإنّك قد توجّهت للعبادة له والمؤانسة.. واعرض أسرارك عليه، ولتعلم أنّه لا تخفى عليه أسرار الخلائق أجمعين وعلانيتهم.. وكن كأفقر عباده بين يديه!.. وأخل قلبك عن كل شاغل يحجبك عن ربّك، فإنّه لا يقبل إلاَّ الأطهر والأخلص!.. وانظر من أيّ ديوان يخرج اسمك، فإن ذقت من حلاوة مناجاته، ولذيذ مخاطباته، وشربت بكأس رحمته وكراماته من حسن إقباله عليك وإجابته؛ فقد صلحت لخدمته، فادخل فلك الأمن والأمان.. وإلاَّ فقف وقوف مضطرّ قد انقطع عنه الحيل، وقصر عنه الأمل، وقضى عليه الأجل.. فإذا علم الله عزّ وجلّ من قلبك صدق الالتجاء إليه؛ نظر إليك بعين الرحمة والرأفة والعطف، ووفقّك لما يحبّ ويرضى.. فإنه كريم يحبُّ الكرامة لعباده المضطرين إليه، المحترقين على بابه لطلب مرضاته، قال الله عزّ وجلّ: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾).
إن هذه الرواية المفصلة هي من أروع ما قيل عن المساجد، فهل هناك من عمل بهذه الرواية طوال العمر؟.. حيث أن آداب المسجد الظاهرية، التي منها: التطيب، وارتداء الثياب النظيفة، والوقوف بباب المسجد، ومناجاة رب العالمين بمثل: إلهي!.. ضيفك ببابك، وتقديم الرجل اليمنى؛ هذه الأمور لا تحتاج إلى رأس مال؛ فهي ظواهر رخيصة وممكنة جداً!.. ولكن الإمام الصادق (عليه السلام) ينتقل إلى ما وراء المادة، فالأئمة (عليهم السلام) أُعطوا الملكوت مثل إبراهيم الخليل (عليه السلام) الذي آراه رب العالمين ملكوت السماوات والأرض ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾.
-(إذا بلغت باب المسجد).. ما قال: المسجد الحرام، ولا مسجد النبي ()؛ إنما (باب المسجد)؛ أي ولو كان المسجد بمقدار غرفة صغيرة فيها مصلٍّ واحد؛ فالمسجد لا يتقوّم بالجماعة!.. ولو أن إنساناً وضع حجارة في صحراء بمقدار سجادة مصل واحد، ثم قال: أوقفت هذا المكان مسجداً؛ فهذا مسجد شرعي.. ولهذا ورد في الرواية: قال أبو جعفر (عليه السلام): (من بنى مسجداً كمفحص قطاة؛ بنى الله له بيتاً في الجنة).. وقال أبو عبيدة الحذاء: (ومر بي [أبو عبدالله (عليه السلام)] وأنا بين مكة والمدينة أضع الأحجار، فقلت: هذا من ذاك؟.. فقال: نعم)؛ أي هل هذا له ثواب من بنى مسجداً؟.. فكان الجواب: أن هذا العمل أيضاً ينطبق عليه ذلك الثواب.
-(فاعلم أنّك قصدت باب بيت ملك عظيم).. الملك له هيبة، وله آداب.
-(لا يطأ بساطه إلاّ المطهرون).. إن الإنسان الذي يدخل المسجد وهو ليس على طهور، كأنه دخل البيت بلا استئذان.. صحيح أن رب العالمين يُمضي المعاملة، ولكن هذا المكان خاص بالمطهرين، فبيت الله عز وجل لا يناسب كل أحد!..
-(ولا يؤذن بمجالسة مجلسه إلاّ الصدّيقون).. لو أن عامة الرعية ذهبت إلى الأمير، فإن الأبواب تُفتح لهم، ولكن ليس للدخول، بل ليقال لهم: هذا قصر الملك ولا يدخله إلا الخواص؛ ما لكم وهذا المكان!..
-(وهب القدوم إلى بساط خدمة الملك).. كلمة (هب) هنا ليست من الهبة، بل من الهيبة؛ لذا عندما يدخل الإنسان المسجد؛ عليه أن يعيش مشاعر الهيبة والخوف.
-(فإنّك على خطر عظيم).. يا له من تعبير!.. هل هناك إنسان عاش هذه المشاعر في المسجد يوماً ما؟.. بينما الذي يدخل على الملوك من أهل الدنيا، عادة يعيش حالة من الاضطراب؛ لأنه سيواجه الملك بعد قليل!..
-(إن غفلت هيبة الملك).. هل هناك إنسان قلبه يطاوعه أن يتكلم بالباطل وهو في المسجد، أو أن يلتفت إلى صديقه، أو يبيع ويشتري، أو يرفع صوته، أو يعيش الغفلة!..
-(واعلم أنّه قادر على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك).. إذن، له عدل، وله فضل، حاول أن تحوز هذا الفضل!..
-(واعترف بعجزك وتقصيرك وفقرك بين يديه، فإنّك قد توجّهت للعبادة له والمؤانسة).. أي اتخذ المسجد مكان الأنس، لا مكان العبادة فقط!..
-(واعرض أسرارك عليه، ولتعلم أنّه لا تخفى عليه أسرار الخلائق أجمعين وعلانيتهم).. إن الزوجة -عادة- تعرض أسرارها على الزوج، والزوج يعرض أسراره على الزوجة، والأخ يعرض أسراره على أخيه.. بينما المؤمن يعرض أسراره على الله عزّ وجل!.. وهناك منَ يقوم بالاتصال بأحد الوجهاء عندما يقع في أزمة، بينما يفترض به أن يذهب إلى المسجد، ويقول: يا رب، هذه أسراري بين يديك!..
-(وكن كأفقر عباده بين يديه).. إن بعض المؤمنين يقف على باب المسجد في خلوة لا يراه أحد، كالمسكين على أبواب الملوك، يرفع يديه مُستطعماً كما يستطعم المسكين.
-(وأخل قلبك عن كل شاغل يحجبك عن ربّك).. أين نحن من هذه التوصية الصادقية!.. فمن هذه حالته لا يحتاج أن يُقال له: أغلق الهاتف؛ لأنه في عالم آخر!.. بينما هناك من ينظر إلى هاتفه أثناء الصلاة ليعلم من المتصل؛ هل هذه هي الصلاة؟!..
-(فإنّه لا يقبل إلاَّ الأطهر والأخلص).. قبل أن يأتي الإنسان إلى المسجد، فليأخذ خلوة في الطريق لمدة دقائق يعيش خلالها مشاعر الاستعداد للقاء الله عز وجل.
-(وانظر من أيّ ديوان يخرج اسمك).. أي هل تخرج من المسجد وأنت من الأشقياء، أو من السعداء!..
-(فإن ذقت من حلاوة مناجاته، ولذيذ مخاطباته، وشربت بكاس رحمته وكراماته من حسن إقباله عليك وإجابته؛ فقد صلحت لخدمته).. أي أن الإنسان الذي يتلذذ بمناجاة الله عز وجل؛ يصير خادماً للمسجد، وخدمة المسجد شرف عظيم!..
-(فادخل فلك الأمن والأمان).. الآن دخل السفينة، فليس كل من دخل المسجد دخل الفلك.. ولكن بعد أن ذاق حلاوة المناجاة يدخل فلك الأمن والأمان!..
-(وإلاَّ).. إن الإنسان الذي يذهب إلى المسجد، وليس عنده استعداد؛ لا يصلي وهو بهذه الحالة.
(فقف وقوف مضطرّ قد انقطع عنه الحيل، وقصر عنه الأمل، وقضى عليه الأجل).. أي قف على باب المسجد، قل: يا رب، أنا اليوم مشوش ومضطرب، قبل قليل عصيتك: نظرت إلى ما لا يجوز النظر إليه، أنا إنسان متدنس، أنا إنسان غير طاهر؛ ماذا أعمل؟..
-(فإذا علم الله عزّ وجلّ من قلبك صدق الالتجاء إليه؛ نظر إليك بعين الرحمة والرأفة والعطف، ووفقّك لما يحبّ ويرضى).. ولهذا بعض المؤمنين يُطأطئ برأسه من المنزل إلى مقام الإمام المعصوم، يقول العلماء: لا تدخلوا المشاهد المشرفة حتى يؤذن لكم، وعلامة الإذن جريان الدمع ولو مقدار بسيط.. عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (إذا اقشعر جلدك، ودمعت عيناك، ووجل قلبك؛ فدونك دونك فقد قصد قصدك)!.. إذا دخلت المسجد أيضاً لا تصل الفريضة، إلا وأنت ترى شيئاً من الرقة.
-(فإنه كريم يحبُّ الكرامة لعباده المضطرين إليه، المحترقين على بابه لطلب مرضاته، قال الله عزّ وجلّ: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾.. أين نحن من هذه المعاني؟!.. نحن اضطرارنا: في غرفة الإنعاش، في السجن، إذا أصبنا بحادث فيه نزيف!.. ولكن الذي يكون أكله شهياً، وزوجته مرضية، وحياته مليئة بالرفاهية،؛ فهذا يعيش قساوة في قلبه ولا يجد نفسه مضطراً واقعياً؛ لذا تراه يصلي في المسجد، ويذهب إلى كل مكان؛ إلا إلى الله عز وجل.
بعض التوصيات العملية:
١. إن شهر رمضان امتيازه أنه شهر الضيافة، لذا هناك شبه بين المسجد وشهر رمضان الذي من امتيازاته كما يقول النبي (صلی الله عليه): (أنفاسكم فيه تسبيح)؛ لأن شهر رمضان هو شهر الضيافة، والمسجد مكان الضيافة.. فعن النبي (صلی الله عليه): (يا أباذر!.. إن الله تعالى يعطيك مادمت جالسا في المسجد، بكل نفس تنفست درجة في الجنة، وتصلي عليك الملائكة، وتكتب لك بكل نفس تنفست فيه عشر حسنات، وتمحى عنك عشر سيئات).. بينما هناك من يتبرم عندما يطيل إمام الجماعة قليلاً في الخطبة!.. والحال أن “المؤمن في المسجد كالسمكة في الماء، والمنافق كالطير في القفص”.. وعليه، فإن من يجد نفسه مرتاحاً في المسجد، ويحب الإطالة؛ فهذه علامة الإيمان.. ماذا يريد الإنسان أفضل من هذا الثواب: بكل نفس درجة في الجنة، وتصلي عليه الملائكة؛ أي كما تصلي على النبي (صلی الله عليه)!..
٢. يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (عليكم بإتيان المساجد؛ فإنها بيوت الله في الأرض.. ومَن أتاها متطهّراً؛ طهره الله من ذنوبه، وكُتب من زوّاره).. والبشر لا يعلمون ماذا يُعطى زائر الله عز وجل!..
٣. إن المؤمن يستحب له أن يجعل في بيته مصلى لا مسجداً شرعياً.. عن مسمع قال: كتب إليّ أبو عبد الله (عليه السلام): (إني أحب لك أن تتخذ في دارك مسجداً في بعض بيوتك، ثم تلبس ثوبين طمرين غليظين، ثم تسأل الله أن يعتقك من النار، وأن يدخلك الجنة، ولا تتكلم بكلمة باطل ولا بكلمة بغى).. لو أن المؤمن لم يصلِّ في المسجد لعذرٍ من الأعذار، فإنه يصلي في مصلى بيته، ويقول: يا رب، فاتني الذهاب المسجد، ولكني أحب أن أصلي في مكان منسوب إليك -لا على نحو الوقفية، بل على نحو الادعاء والانتساب- فهذا أيضاً أمر طيب.
٤. إن الإنسان إذا لم يكن من أهل المساجد، عليه ألا يجاور بيوت الله عزّ وجل!.. حيث أنه يمكن تشبيه هذه الحالة بما قاله الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء: (من سمع واعيتنا فلم ينصرنا؛ أكبه الله على منخريه في النار).. لذا، عليه أن يشتري منزلاً بعيداً، لا يسمع فيه صوت الأذان؛ فهذا خير له.. لأنه من غير اللائق أن يسمع المؤذن وهو يقول: حي على الصلاة!.. حي على الفلاح!.. أي أقبل عليّ أو إليّ؛ وهو مستلق على فراشه، ويريد: الرحمة، والمغفرة، والنظرة الإلهية!.. عندما يكون على فراش المرض في المستشفى، يقول: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾.. أما الآن فعليه أن يقوم ويجيب نداء الله عزّ وجل؛ عندئذ إن رآه رب العالمين على فراش المرض، فإنه لا يحتاج إلى دعاء، فقط يقول: يا رب، أنا من محبي بيوتك، ولكن الآن حرمت الذهاب إلى بيتك؛ فعوّضني خيراً؛ وإذا برب العالمين يجعله يتماثل للشفاء بإذن الله عزّ وجل!.. هكذا علاقة المؤمن بالله عزّ وجل.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.