- ThePlus Audio
المتقون في كلام أمير المؤمنين (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
غض البصر أم غمض البصر؟
يقول أمير المؤمنين (ع) في خطبته المعروفة بخطبة المتقين: (غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ)[١]. إنني عندما ألتقي ببعض الشباب في بلاد الغرب أو الشرق أو في الوطن أقول لهم: إننا هذه الأيام فتنتنا هي فتنة النظر، وكما يروى: (مَنْ غَضَّ طَرْفَهُ أَرَاحَ قَلْبَهُ)[٢]. إنه لينظر الرجل إلى الحرام فيزهد في زوجته وتدخل المشاكل بينهما وقد يطلقها ويتزوج امرأة غير سوية ويضيع ذريته ويبتلى بأمراض الباطن. من أين؟ إلى أين؟ من نظرة محرمة في ليلة انتهت بالدمار الاجتماعي؛ فالقضايا متسلسلة. فلا تستهن بالنظر. إن المؤمن له جفنان يتحكم بهما، والله عز وجل قد زودنا بخاصية غير الغمض. فهناك غمض وهناك غض. تارة ترى امرأة أمامك؛ فبإمكانك أن تغمض عينيك. اغمض عينيك وتصور حالك وأنك أمام الكعبة أو خلف مقام إبراهيم (ع).
وقد تضطر وتقول: إن التي هي أمامي معلمة أو طبيبة أو إلى؛ فكيف اغمض عيني؟ يقال لي: هل أنت أعمى؟ وهنا عليك أن تغض البصر. انظر ولا تنظر. إن رب العالمين قد أعطاك هذه القدرة وهي أن لا تركز. انظر وكأنك لم تنظر. فقد تكون في مشكلة وتكون من أجلها في عالم آخر وفي عالم السرحان كما يقال؛ فيأتيك فلان ويعاتبك ويقول: سلمت عليك ولم ترد السلام. تقول له: والله ما رأيتك وما سمعتك. رأيتك وما رأيتك؛ أي كنت مشغولاً بنفسي. فتبين أن غض البصر ممكن مع غمض البصر.
المشاهد الباطلة
إننا قد ندخل على بعض المؤمنين دفعة أو على حين غرة؛ فنرى العائلة كلها مجتمعة أمام التلفاز وكأن على رئوسهم الطير وهم ينظرون إلى قصة مضحكة أو إلى شيء غير هادف، وأقول: ألهذا خلقنا؟ أين غضوا أبصارهم؟ إن المؤمن يصل إلى درجة يستنكف من النظر إلى الباطل وإن لم يكن حراماً. إن هذه العين قد شغلها بما ينفع. فأين النظر في صفحة من كتاب الله، وأين النظر إلى التلفاز بما لا طائل تحته؟
إن من بلائنا في هذا العصر أننا نجلس أمام هذه الأصنام في منازلنا، وقد روي: (مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ فَإِنْ كَانَ اَلنَّاطِقُ عَنِ اَللَّهِ فَقَدْ عَبَدَ اَللَّهَ وَإِنْ كَانَ اَلنَّاطِقُ عَنْ إِبْلِيسَ، فَقَدْ عَبَدَ إِبْلِيسَ)[٣]. فإن كان ولابد من كتابة رواية في غرفة التلفاز يجب أن تكتب هذه الرواية. إن من أسماء يوم القيامة؛ يوم الحسرة. إنك أول ما تدخل القبر تجمع هذه الساعات الباطلة وتتأسف عليها.
هل يكفي غض البصر عما لا نفع فيه؟
ثم هل يكفي غض البصر عما لا نفع فيه؟ كلا. يقول الإمام (ع): (وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى اَلْعِلْمِ اَلنَّافِعِ لَهُمْ)[٤]. وكما يقال: أن هذا المسجد وقف على الصلاة ولا يدخله غير المسلم ولا يدخله الباطل والغناء في هذا المكان لا يحتمل؛ فكذلك قلب المؤمن ورأسه وذهنه – أو ما شئت فعبر – هي بمثابة المسجد الذي أوقفه لله عز وجل. لقد سمعت كلمة من أحد كبار العلماء الذي أغبطه على تأليفاته القيمة، يقول: عندما كنت شاباً كتبت على جبهتي بإصبعي أنا وقفٌ. إنني لا أوقف مسجداً أو بئر ماء وإنما أنا بكلي وقف لك يارب. إن رب العالمين قبل وقفيته وجعله في طريق الخالدين. أن تجعل طابوقة على طابوقة وتوقفه أمر جيد؛ ولكن أوقف نفسك لله عز وجل.
لقد رأيت أحد الصالحين في فترة مضت من الحياة؛ كان قد أصبح وليا صالحاً دفعة بعد أن كان من الغافلين. قلت له: يا فلان، ما الذي يزعجك؟ قال: أشد الأمور عذاباً أن أجلس مع الغافلين وأستمع إلى كل ما هب ودب لأن قلبي يتألم. وهذا هو عذاب الروح؛ أن أجلس مع إنسان يجبرني على أن استمع له في كل باطل.
الوقوف أمام المغتاب ونهيه عن منكره
ولهذا قد قال أحدهم لمن كان يغتاب غيبة محرمة: لا تلقي النفايات في أذني. إن لسانك مزبلة؛ فاحتفظ به لنفسك. لو أن أحدهم رمى قاذورة في دابتك كم تغضب؟ أ فلا تغضب إذا وضع هذا الإنسان النجاسة في أذنك؟ قل: يا فلان، أنت مجرم برميك القاذورة في أذني، واهرب منه هروبك من الأسد، أو حذره وأنذره وإن انتفخت أوداجه، قل: يا فلان، هل تغتاب مؤمنا أمامي؟ اذهب إلى غرفة وأقفل الباب وادخل نار جهنم لوحدك. لماذا تجعلني شريكاً معك في نار جهنم؟ هذه هي المقاييس التي إن طبقتها؛ ستطلق كثيرا من أصدقائك وتهجر كثيرا من دواوين الساهين اللاهين. إن البعض يذهب لبعض المجالس، وعندما تقول له: لا تذهب، يقول: هناك عشاء دسم أو هناك قطعة من الحلوى تعطى لي. أ هكذا العاقل يبيع دينه وعمره مقابل طبق من الطعام؟
وقد تجد الرجل يستمع إلى الأباطيل ساعات فإن تكلم الخطيب خمس دقائق زيادة يقول: هذا الخطيب يطيل الخطبة، فلا يأتي إلى المسجد ثانية. هل هذا هو الإنصاف؟ إنك تحسب دقائق في بيت الله بين فريضتين بالثواني ولكنه يجلس على المائدة لساعات وهو لا يبالي.
كلمة الأمير (عليه السلام) الخالدة
إنني عندما أصل إلى هذه الجملة حقيقتا أفتخر بانتمائنا لمدرسة علي (ع) وهو قوله: (عَظُمَ اَلْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ). إن أحدنا يدخل الطائرة فينام قبل أن تقلع؛ فإذا أراد أن يعلم أن الطائرة أقلعت أم لا يزيح الستار وينظر؛ فإن رأى أرض المطار يعلم أنه لم يقلع وإن رأى نفسه بين السحب يقول: الحمد لله لقد أقلعنا. فإذا تكلم عليك أحد افتح النافذة؛ فإن رأيته كبيرا فأنت على أرض المطار ولم تقلع بعد، وإن رأيته صغيراً لا وزن له فأنت في الأجواء العليا. وهذا نعم الاختبار. والفضيحة هي إن ذهبت إلى المطار وجلست فيها سنة ولم تقلع أبداً. إنك إن أردت أن تعلم أنك محلق أم لا، انظر إلى ما حولك؛ فإن رأيت البلاء كبيرا؟ ما حلقت، وإن رأيتهم كما وصفهم النبي لأبي ذر حيث قال: (يَا أَبَا ذَرٍّ، لاَ يَفْقَهُ اَلرَّجُلُ كُلَّ اَلْفِقْهِ حَتَّى يَرَى اَلنَّاسَ كُلَّهُمْ فِي جَنْبِ اَللَّهِ أَمْثَالَ اَلْأَبَاعِرِ)[٥]؛ أي الناس الغافلين. فإذا وصلت لهذه المرحلة؛ اسجد لله شكرا لأنك قد وصلت إلى مقام عظيم وهو مقام: (عَظُمَ اَلْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ)[٦].
خلاصة المحاضرة
- إنني عندما ألتقي ببعض الشباب أقول: إننا هذه الأيام فتنتنا هي فتنة النظر، وكما يروى: (مَنْ غَضَّ طَرْفَهُ أَرَاحَ قَلْبَهُ) . إنه لينظر الرجل إلى الحرام فيزهد في زوجته وتدخل المشاكل بينهما وقد يطلقها ويتزوج امرأة غير سوية ويضيع ذريته ويبتلى بأمراض الباطن.
- ولهذا قد قال أحدهم لمن كان يغتاب غيبة محرمة: لا تلقي النفايات في أذني. إن لسانك مزبلة؛ فاحتفظ به لنفسك. لو أن أحدهم رمى قاذورة في دابتك كم تغضب؟ أ فلا تغضب إذا وضع هذا الإنسان النجاسة في أذنك؟ قل: يا فلان، أنت مجرم برميك القاذورة في أذني.
- كما يقال: أن هذا المسجد وقف على الصلاة ولا يدخله غير المسلم ولا يدخله الباطل والغناء في هذا المكان لا يحتمل؛ فكذلك قلب المؤمن ورأسه وذهنه – أو ما شئت فعبر – هي بمثابة المسجد الذي أوقفه لله عز وجل