ليلة الجمعة..
أولاً: مقدمة لليلة القدر.. إن ليلة الجمعة ليلة مهمة، وهي ليلة قدر مصغرة.. -والله العالم- مجموع الامتيازات التي تعطى للعبد في ليالي الجمع، تحتسب له في ليلة القدر، ويا لها من ليلة!.. لذا على المؤمن أن يحمل همّ تلك الليلة من أوائل شهر رمضان؛ لأنها ليلة العمر إن صح التعبير!.. فليلة القدر {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، وفي تغيير جوهر الإنسان، يعني ليلة العبادة تساوي أكثر من ثمانين سنة من الطاعة المتواصلة تعطى للإنسان.. نحن أعمارنا بين الستين والسبعين، ولكن في ليلة القدر نحيا حياة جديدة، ويا لها من فرصة!.. لو كشف الغطاء للإنسان في تلك الليلة، فلا يعلم ماذا يصنع كي يقدم أفضل ما يمكن!.. لذا لا يكتفي المؤمن في ليلة القدر، بالقيام بالإحياء المتعارف؛ بل عليه بالآداب الباطنية، لأنه بدون هذه الآداب، لا يتقدم أُنملة في حياته الروحية.. نحن جعلنا ليلة القدر متمثلة في دعاء الجوشن، وبعض الأدعية، وكأن الأمر انتهى عند هذا الحد!.. بينما هناك ساعة في ليلة القدر هي من أهم الساعات، الساعة التي هي قبيل الفجر {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.. حيث أن المؤمن في هذه الساعة يكون في منتهى الخوف والقلق، وخصوصاً في الليلة الثالثة والعشرين؛ لأنه لا يعلم ما الذي كتب له، وأي مقام رشح له!..
ثانياً: محطة تقوية.. إن هذه الطاقة الهائلة التي يأخذها الإنسان في هذه الليلة، تحتاج إلى تقوية في كل أسبوع.. وليالي الجمع هي محطة لتقوية ما اكتسبناه في هذه الليالي والأيام.. وبما أن ليالي الجمع مرتبطة بذلك؛ علينا أن نستغلها.. فرب العالمين فتح لنا امتيازات كبرى، حيث أن له عطايا وجوائز يريد أن يقسمها بين عباده، منها: (أنّ من قرأ سُورة الجُمعة كلّ ليلة جمعة؛ كانت كفّارة له ما بين الجمعة إلى الجُمعة).. والحث على غسل الجمعة، روى عن النّبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنّه قال لعليّ -عليه السلام-: (يا علي!.. اغتسل في كلّ جمعة، ولو انّك تشتري المآء بقوت يومك وتطويه؛ فانّه ليس شيء من التطوّع أعظم منه)!.. الإحياء بين الطلوعين من يوم الجمعة، قال الصادق -عليه السلام-: (مَن قال يوم الجمعة حين يصلّي الغداة قبل أن يتكلم: “اللهم!.. ما قلت في جمعتي هذه من قولٍ، أو حلفت فيها من حلفٍ، أو نذرت فيها من نذرٍ؛ فمشيئتك بين يدي ذلك كله، فما شئتَ منه أن يكون كان، وما لم تشأ منه لم يكون.. اللهم!.. اغفر لي وتجاوز عني.. اللهم !.. مَن صلّيتَ عليه فصلواتي عليه، ومَن لعنتَ فلعنتي عليه”.. كان كفّارةً من جمعة إلى جمعة)، وزاد فيه مصنّف كتاب جامع الدعوات: (ومَن قالها في كلّ جمعة وفي كلّ سنةٍ كانت كفارةً لما بينهما).. فكأن رب العالمين يريد بذلك أن يدخل الناس الجنة بأدنى مبرر!.. فلمَ نفوت هذه الفرص التي هي كفارة من الجمعة إلى الجمعة؟!.. فإذن، إن الرب كريم، ولكن نحن قوم كُسالى، لا نقوم بما يسد هذهِ الثغرات في حياتنا!..
ثالثاً: محطة برمجة.. إن ليلة الجمعة محطة لتصفية الماضي، والبرمجة للمستقبل.. ولا يتم ذلك من خلال قراءة سورة الجمعة فقط!.. بل هي محطة توقف، فالغربيون في آخر الأسبوع يوم الأحد بالنسبة لهم للراحة والبرمجة!.. بينما المسلمون أولى منهم بهذه الحركة!.. فلمَ لا نحاول نحن أيضاً أن نجعل لأنفسنا ختام أسبوع، نتفرغ فيه من الانشغال بمتاع الدنيا؟.. المؤمن يستغل ليالي الجمعة، ويعيد برمجة حياته.. فكما أن الحسنات فيها مضاعفة، المعاصي أيضاً فيها مضاعفة؛ لأنها ليلة منتسبة إلى الله -عز وجل- كالمعصية في مكة المكرمة، أي النظر إلى النساء أيام الجمعة، كالنظر إلى النساء في الطواف.. فالأزمنة والأمكنة فرص، وفي نفس الوقت العقوبة مضاعفة.. لذا ينبغي أن تكون ليلة الجمعة من أفضل الليالي!.. والحال هي للبعض ليلة معصيتهم، ويوم الجمعة يوم معصيتهم.. لأنهم طوال الأسبوع مشغولون بالعمل، وليلة الجمعة ويوم الجمعة يوم الفراغ، فيذهب إلى الأماكن المستورة: كالمزارع، وغيرها؛ ظانًا بأن الله -عز وجل- لا يراه!.. يجب أن نلتفت إلى أنفسنا في هذه الليالي المباركة، وخاصة في شهر رمضان؛ لأنه حرمة في حرمة.. فلو رزق الإنسان العمرة، يصبح حرمة في حرمة في حرمة.. المؤمن يغتنم الفرص، لأنها تمر مرّ السحاب.. روي عن الإمام علي -عليه السلام- أنه قال: (الفرص تمر مر السحاب، فاغتنموها)!..
الخشوع..
إن هنالك قرصاً مدمجاً، ينبغي ألا يخلو منه بيت مؤمن، يحتوي هذا القرص على أربعة آلاف كتاب من روائع الكتب، تحت مسمى “مكتبة أهل البيت”.. فإذا كان العلم له قيمة، فهذا القرص أعلم العلماء!.. لأنه ليس هناك إنسان يحفظ أربعة آلاف كتاب!.. بينما قرص لعل قيمته -كمادة خام- لا يتجاوز ريالاً واحداً، ولكن بالإمكان أن يحشى بالمعلومات.. كذلك العقول والأذهان إذا حشيت بالمعلومات، فهي كالقرص المدمج، بل أقلّ!.. لأن القرص المدمج أدق في الحفظ!.. لذا لا بد أن نحوّل المعلومة إلى سلوك، وإلى تطبيق.. وعليه، فإنه يجب نفخ الروح في هذا الهيكل الميت الذي لا روح له، الذي ليس بقربان ولا بمعراج، ولا بناهٍ ولا بآمر بالمعروف.. لأن الصلاة التي لا نقبل فيها، هذه الصلاة لا ترتفع إلى السماء.. فرب العالمين لا تهمه هذه الحركات الظاهرية، إنما يريد منا قلباً خاشعاً.. روي عن الإمام الباقر -عليه السلام- أنه قال: (إن العبد ليرفع له من صلاته نصفها وثلثها وربعها وخمسها، فما يرفع له إلا ما أقبل عليه بقلبه.. وإنما أمروا بالنوافل، ليتم لهم ما نقصوا من الفريضة).. ويقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}.. فأول مزية من مزايا المؤمن، هي الخشوع في الصلاة.
مراحل الخشوع:
إن هناك ثلاث مراحل للخشوع: الخشوع البدني، والخشوع الذهني أو الفكري، والخشوع القلبي..
أولاً: الخشوع البدني..
أي إتقان الظاهر، بمعنى: إخضاع البدن إلى آداب الوقوف بين يدي الله -تعالى- وهذه الآداب مذكورة في الرسائل العملية.. وهو مرحلة أولى من الخشوع بين يدي الله -عز وجل- وهو أضعف الإيمان!..
ثانياً: الخشوع الذهني..
بمعنى استحضار المعاني الإلهية، والقرآنية، والصلاتية مع كل أجزاء الصلاة وشرائطها.. والإنسان الذي لا يمكنه السيطرة على أفكاره؛ لا يخشع في صلاة، ولا في تلاوة قرآن، ولا في استماع خطبة، ولا في استماع محاضرة.. فالعقل والفكر المصاب بهذه الآفة: آفة التشتت، والتبعثر؛ لا تدع للإنسان مجالاً للتركيز.. لأن هذا الإنسان له فكر طيار كالعصافير التي تطير من غصن إلى غصن، وفي كتب الأخلاق إشارة لهذا المثل الجميل، يقولون: أن الذهن البشري كالذباب، يطير من مكان إلى مكان، وصاحب الشجرة بيده عصى، يطرد هذا الذباب، ولكنه يرجع إلى غصن آخر.. وفي اللغة العربية: كلمة “ذباب” مأخوذة من “ذب آب” وذب؛ بمعنى طرد، وآب؛ بمعنى عاد.. أي كلما طردته رجع مرة ثانيةً.. يقول العلماء: إذا أردت أن ترتاح من شر الذباب، فالحل هو في أن تقتلع الشجرة من أساسها.. وعليه، فإنه يجب اقتلاع هذه الشجرة التي تستقطب الذباب المزعج؛ أي الأفكار الطيارة.. وذلك من خلال:
۱. إيجاد محور للنفس.. يجب أن يكون للإنسان محور في الحياة، فأول قانون لضبط الخيال والفكر؛ أن يكون هناك محور للنفس في الحياة.. مثلاً: بعض أطفال المدارس المهملين والمشاغبين، تراه يلعب طوال السنة، وقبل أسبوع أو أسبوعين من الاختبارات تتحسن أحواله: فيسهر طوال الليل وأمامه الكتاب؛ لأنه في هذين الأسبوعين جعل محوره الكتاب والعلم.. والمتفوقون في هذين الأسبوعين يقرؤون ما قرأه البقية في ثمانية أشهر، ويأتي بالدرجات العالية؛ لأنه أراد أن يحفز نفسه!.. فهذه الهرمونات التي تفرز في دم الإنسان، عندما يلحقه لص أو حيوان، نرى هذا الإنسان المصاب بآلام في الظهر، أو الإنسان الضعيف؛ يمشي كالأسد؛ لأنه يريد أن يفرّ من المعركة.. هذه طبيعة الإنسان إذا حفز نفسه؛ فإنه يستخرج من نفسه طاقات عجيبة غريبة!..
فإذن، الإنسان يصبح هكذا إذا كان لديه محور!.. ومحور المؤمن هو محور العبودية، والإنابة واللقاء الإلهي.. فكلنا سنلتقي بالله -عز وجل- في عرصات القيامة، حين ينادي فيه: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟.. وإذا بالسائل هو نفسه المجيب: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}.. رب العالمين الذي سبقت رحمته غضبه، في الحياة الدنيا، كان يستجدي بني آدم فيقول: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، و{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.. ولكن يوم القيامة عندما يريد العبد أن يتكلم مع رب العالمين، ويناجيه في وقت هو أحوج ما يكون فيه إلى المناجاة، يأتي الجواب: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}؛ يا له من جواب عنيف!.. أي أنت يا بني آدم، في الدنيا كنت طليقاً، دعوناك إلى بيوتنا لعبادتنا فلم تتكلم، الآن تتكلم!.. وكلمة (اخسأ) تقال للحيوان نجس العين!.. وهذه العبارة في القرآن الكريم من أشد أنواع العذاب!..
۲. السيطرة على النظر.. لا شك في أن الفتن كلها تأتي من النظر، وخاصة فتنة النساء المبتلى بها فئة الشباب، وعندما نقول: الشباب لا نعني المراهقين، فيبدو أن هذا الميل يبقى في بني آدم حتى للستين وفوق الستين، وكأن الإنسان يرى أن غاية المتع في الدنيا هو هذه المتعة!.. والإنسان الذي يتحكم في نظره؛ يبقى قلبه نظيفاً؛ لأن الشاب الذي يدمن النظر إلى الحرام، تتغير تركيبتهُ الهرمونية.. حيث أن هنالك -حسب التحقيقات الطبية- خلايا في الذهن البشري، هذه الخلايا مسؤوليتها الاهتمام بالملفات الساخنة.. فالإنسان الشهواني الذي ينظر إلى الصور المحرمة، يصبح هاجسه النساء: يصلي وفكره في النساء، ينام وفكره في النساء، ينظر إلى امرأة محتشمة وكأنها عارية.. ينظر إلى الكون كله على أنه شهوة وجنس، إلى حد أن البعض عندما ينظر إلى سيارة حمراء يتذكر النساء، فكيف إذا رأى الصور؟!.. وكيف إذا اختلى بأجنبية؟!.. وهذا كله لأنه لم يسيطر على بوابة العين.
فإذن، إن الحل هو في غض البصر، ولكن كيف يغض الشاب البصر؟.. فإذا كان عن طريق التخويف بجهنم والنار والعقارب والحيات؛ فهذا الكلام قد لا يقنعه!.. لأن منطق الشاب: نختمها بالعمرة والحج، ونتوب إلى الله تحت الميزاب، فنكون بذلك استمتعنا أيام الشباب، ومن ثم نصبح مؤمنين.. فهذا هذا الكلام سخيف، وفيه عدة إشكالات، منها:
أ- من قال بأن الإنسان هو مالك لهذه العين؟.. الوجود الآدمي، من أعجب ظواهر الوجود: فالعينان هما عبارة عن قطعتين من شحم ودم، وفيهما مادة بيضاء هلامية، ولعلها أول أجزاء بني آدم تحللاً.. هذه الكاميرا الصغيرة هي ملك لرب العالمين، أعطاها للإنسان بصفة مؤقتة ليبصر بها خمسين أو ستين أو مائة سنة.. وقال له: انظر بها إلى ما شئت، ولكن لا تنظر إلى هذه الزاوية.. وعليه، فالمؤمن الذي يغضّ طرفه عن الحرام، ويعمل بقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}؛ لا يرى أن هناك جهاداً عظيماً في هذا المجال، وكأن هناك آلة أودعها الله -عزّ وجل- في رأسه، تنبهه إلى عدم تسليط النظر إلى تلك الزاوية المحرمة!.. ولا يرى أنه المتفضل على الله -عز وجل- بهذا العمل؛ لأنه يعمل بوظيفة العبودية.
ب- ما الذي يستفيده من هذا النظر؟.. إن الإنسان العاقل لا ينظر بريبة إلى امرأة تمر في الشارع، ثم تغيب عن الأنظار!.. فلعلها امرأة متزوجة، أو ابنة ثري لا يمكن الوصول إليها؛ فلمَ هذه النظرة التي لا تورث غير الحسرة؟.. هل هناك إنسان فقير عاقل ليس لديه مال يشتري به كباباً، يذهب إلى مطعم فاخر ليشمّ رائحة الكباب؟!.. بالتأكيد لا!.. لأنه سيهيج نفسه ويفتح شهيته، ولا يستطيع أن يتناول هذا الطعام!.. والإنسان الذي لا يمكن أن يشبع نفسه بالحلال، لمَ يثير غريزته؟.. فالغريزة إذا أثيرت، يكون الإنسان بيده قد سلب نفسه الاختيار.. وعلماء العقائد والكلام يقولون: سلب الاختيار بالاختيار لا ينافي الاختيار.. فمن رمى نفسه من الجبل، أثناء السقوط سلب الاختيار؛ لأن الجاذبية هي التي تحطمه.. ولكن من قال له أن يرمي نفسه من الجبل؟.. وهناك فرق بين من نظر إلى امرأة بشهوة وريبة وتلذذ لثوانٍ، فأغضب الله -عز وجل-.. وبين الذي غض بصره، فوجد حلاوة الإيمان في قلبه، تلك الحلاوة التي لا تزول أبداً.. فشتان بين هذه الحلاوة الباطنية؛ وبين تلذذ فانٍ!..
فإذن، إن الإنسان الذي لا يمحور حياته، ويكون طوال النهار مشغولاً بالأباطيل والغفلات، وبأنواع الحرام، وفي الليل يسهر على الحرام؛ فإنه من الطبيعي أن لا يخشع في صلاته.. البعض في صلاة الفجر يتشبه بالصالحين، فينظر إلى السماء، ويقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ}؛ وكأن هذه الآية تعمل معجزة، إذا قرأها صار من الأولياء.. القضية ليس بهذه البساطة!.. الذي يريد أن يتمحور محوراً إلهياً، لا بد أن يغير من اهتماماته.. فالليل مرتبط بالنهار، والذهن مرتبط بالخارج.. فالحوض المائي، يكتسب لونه ورائحته وطعمه من الروافد: إذا كان الرافد نتناً؛ هذا الماء الحوضي يكتسب ذلك اللون، وإن كان صافياً؛ يبقى صافياً.
ثالثاً: الخشوع القلبي..
وهي المرحلة التي يتفاعل فيها الإنسان بكل وجوده مع الصلاة، فيعيش حالة من حالات الأنس، وحديث المحب لحبيبه.. حيث أن العبد من الممكن أن يصل بالمجاهدة إلى درجة، يرى كل ما في الكون حقيراً صغيراً.. وهذه المحبة تأتي عندما يعرّض العبد نفسه للجاذبية الإلهية.. فالجذب من الله، والاصطفاء من الله، والترشيح من الله؛ أي الله -عز وجل- هو الذي يجتبي عباده.. ولكن ذلك لا يتم إلا من خلال:
۱. تقديم قربان.. إذا أراد الإنسان أن يصلح ما بينه وبين الله -عز وجل-، ويثبت أنه عبد يريد أن يصل إليه، وكي يتعرض إلى دائرة الجذب الإلهي؛ عليه أن يقدم قرباناً، أو -كما يقال في العرف الدبلوماسي- ما يثبت حسن نيته وصدقه في رغبة القرب إلى الله -عز وجل-.. يقول تعالى في كتابه الكريم: {يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}؛ أي أن الله -عز وجل- يهدي الإنسان إلى الإنابة والعمل، ولكنه يجتبي ويصطفي من يشاء، عندما يرى فيه القابلية.. وعليه، فإن من يريد أن يصل إلى درجة من درجات التكامل، عليه أن يقدم قرباناً في سبيل الله عز وجل.. ومثال ذلك مريم: فمريم امرأة فضلها أن أمها نذرت نذراً: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؛ فكانت الجائزة من رب العالمين أن تقبل منها نذرها، ووهب لها مريم التي تقبلها وأنبتها نباتاً حسناً، {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ أَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}.
أما مريم -عليها السلام- فإنها تصل إلى مستوى أن الأنبياء والأولياء يتعاركون عليها، {.. وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.. فرب العالمين لم يبعث لها مرشداً واحداً، وإنما الصالحون والأنبياء تنازعوا على كفالتها.. وكان زكريا -هذا النبي العظيم الذي كان معرضاً عن الذرية، لانشغاله بالعبادة- واحداً منهم.. ولكن عندما رأى كرامة مريم {.. كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} فهذه الحالة لم تكن ليوم أو يومين، بل هي حالة مستمرة، وعندما سألها زكريا، لم تقل: الملائكة أتت بها، أو من الجنة؛ بل نزلت من عند الله.. {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}، أي إذا كانت الذرية كمريم، فيا رب، أعطني هذه الذرية!.. وقد استجاب رب العالمين دعوته وأعطاه يحيى، ذاك النبي العجيب الذي يقول تعالى عنه: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ}.. حيث أن رقة القلب، والخوف من الله -عز وجل-، بلغت به -عليه السلام- إلى درجة أنه كان يصعق، عندما كان يسمع مواعظ أبيه زكريا -عليه السلام-، مما جعل زكريا -عليه السلام- قبل أن يعظ، يتأكد من خلو المجلس من ولده.. هذا النبي الذي هو أشبه الأنبياء بسيد الشهداء -عليه السلام-، لأنه أيضاً قطع رأسه، وأهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
ولكن مريم -عليها السلام- ماذا عملت؟.. وما الجهاد الذي قامت به: هل رفعت سيفاً وقاتلت فرعون وجماعته؟.. أو هل عندها تأليفات ضخمة في التاريخ؟.. أو موسوعة في الفقه والأصول؟.. لم نعهد في أول حياتها حركة جهادية، وإن كانت بالأخير تحملت ما تحملت من الأذى عندما حملت بعيسى -عليه السلام-.. ولكن {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}.. فإذن، الذي ميز هذه المرأة الجليلة، أن الله -عز وجل- تقبلها وأنبتها نباتاً حسناً!..
وعليه، فإن هذه الآيات هي نعم العون في الحركة التكاملية إلى الله عز وجل: لا تفكر!.. لا تقلق!.. لا تقرأ كثيراً في علم الأخلاق وغيره!.. لا تذهب يميناً وشمالاً؛ بحثاً عن زيد وعمرو!.. بل اعمل ما يوجب تحقق هذه المعادلة في حقك، اعمل ما يوجب أن يقول رب العالمين: تقبلتك يا عبدي، واصطنعتك لنفسي!.. ابحث عن هذه المضامين، كن صادقاً!.. فلعله في موقف من مواقف الخلوة مع أجنبية يصطفيك ربك، بدلاًً من الانزلاق والاكتفاء بلمسة وما شابه ذلك.. قف موقفاً؛ عندئذ تفتح لك أبواب الملكوت.. أحد الشباب كان في دولة أجنبية، اختلى مع فتاة وغلقت الأبواب، ولكنه قال: إني أخاف الله!.. يقول: خرجت من المنزل، وإذا بي إنسان آخر!.. فلو أنه عمل ما يعمله الشباب، ما الذي كان كسبه؟.. ولكن بسبب هذا الموقف قبل عشرين سنة، إلى هذا اليوم وهو يقطف ثماره.. أصبح إنساناً متقاعداً، ولكنه لازال يأخذ الراتب -المعنوي- التقاعدي من ذلك الموقف.. فرب العالمين في كل يوم، يعطيه هبة مقابل ذلك الموقف.
فإذن، المؤمن يغتنم الفرص!.. وقد يكون الامتحان بالمال، مثلاً: هناك صفقة مربحة، ولكن عندما يكتشف الإنسان أن فيها شبهة الحرام؛ ينصرف عن هذه المعاملة.. فالامتحان ليس في النساء فقط!.. بل في كل يوم يمرّ، هناك امتحان للإنسان.. في الحياة الزوجية: يأتي رجل إلى المنزل، وفي باله بعض الصور المحرمة، فلا يعامل زوجته كما ينبغي.. تنفجر الزوجة غيظاً، ولكن تكظم غيظها!.. قال الباقر -عليه السلام-: (مَنْ كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه، حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة…).. كظم الغيظ من الصفات الأساسية في الإنسان، فالذي لا يكظم غيظه، وإن أعطي علوم الأولين، وزهد الآخرين، وصبر أيوب؛ فإنه لا قيمة لإيمانه.. فعن النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (الغضب يفسد الإيمان، كما يفسد الخل العسل).
۲. الدعاء.. إن الدعاء في هذا المجال من موجبات الاصطفاء، فكم من الجميل أن يدلل الإنسان نفسه بين يدي الله عز وجل!.. ومن الدلال الدعاء، فالإنسان عند الدعاء يمكنه أن يكسب الكثير.. ومن أروع صور الدعاء، العفوية في الدعاء.. ومن أمثلة هذه الأدعية العفوية: (مناجاة برخ الأسود، الذي أمر الله -تعالى- كليمه موسى -عليه السلام- أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل، بعد أن قحطوا سبع سنين.. وخرج موسى -عليه السلام- ليستسقي لهم في سبعين ألفاً، فأوحى الله -عز وجل- إليه: كيف أستجيب لهم، وقد أظلمت عليهم ذنوبهم سرائرهم خبيثة، يدعونني على غير يقين، ويأمنون مكري.. ارجع إلى عبد من عبادي يقال: له برخ، فقل له يخرج حتى أستجيب له.. فسأل عنه موسى -عليه السلام- فلم يعرف، فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق، إذا بعبد أسود قد استقبله بين عينيه تراب من أثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فمعرفة موسى -عليه السلام- بنور الله -عز وجل- فسلم عليه، وقال له: ما اسمك؟.. فقال: اسمي برخ، قال: فأنت طلبتنا منذ حين أخرج فاستسق لنا.. فخرج فقال في كلامه: ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك.. وما الذي بدا لك؟!.. أنقصت عليك عيونك، أم عاندت الرياح عن طاعتك، أم نفد ما عندك، أم اشتد غضبك على المذنبين؟.. ألست كنت غفاراً قبل خلق الخطائين، خلقت الرحمة، وأمرت بالعطف.. أم ترينا أنك ممتنع، أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟!.. قال: فما برح حتى اخضلت بنو إسرائيل بالقطر، وأنبت الله –تعالى- العشب في نصف يوم، حتى بلغ الركب قال: فرجع برخ، فاستقبله موسى -عليه السلام- فقال: هل رأيت حين خاصمت، كيف أنصفني؟.. فهم موسى -عليه السلام- به، فأوحى الله –تعالى- إليه: إن برخاً يضحكني كل يوم ثلاث مرات).. هذه كلمات لطيفة، وبريئة، وعفوية!.. فليكن الإنسان في دعائه مع رب العالمين، منفتحاً هكذا، يطلب من ربه بكل عفوية!.. ولكن هذا الأسلوب من الدعاء لا يجري على أي لسان، هذا يسموه: مقام الدلال؛ يعطى للأوحدية من الناس.. والمؤمن قد يصل بعد فترة، إلى درجة من درجات الدلال والأنس، فيتكلم مع ربه بهذه الطريقة.. فموسى -عليه السلام- وصل إلى مقام التكليم، لصبره على بني إسرائيل، وموسى من أولي العزم، ومع ذلك يطلب من برخ العابد أن يدعو!.. فإذن، الدرس العملي هنا: أن العلاقة مع رب العالمين، علاقة جداً أريحية، والعبد يصل إلى درجة يطلب من ربه طلبته مدلاً عليه.
۳. التوسل بالإمام (عج).. ومن موجبات التوفيق، التوسل بالإمام -عجل الله تعالى فرجه الشريف-.. فالمؤمن علاقته بإمامه -عجل الله تعالى فرجه الشريف- هي علاقة القيادة: فهو خليفة الله -تعالى- في هذا العصر، وهو السبب المتصل بين الأرض والسماء، وهو مبلغ الأحكام، ومفسر القرآن، وهو الذي نحشر تحت لوائه يوم القيامة.. لذا، المؤمن يجب أن يعيش هذه القيادة، ويكون وفياً لإمام زمانه -عجل الله تعالى فرجه-، فـ(بيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء).. لئن كان الفيض نزل على مريم -عليها السلام- على يد زكريا -عليه السلام-، فالفيض في هذا العصر، على يد صاحب العصر والزمان.. المؤمن يجب أن يتحدث معه؛ فهو عين الله الناظرة.. ونحن عندما نتوجه للنبي وآل النبي-صلى الله عليه وآله-، نتوجه إليهم على أنهم عبيد لله عز وجل.. والله -تعالى- أكرمهم بهذه الكرامة، يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}؛ فاستغفار الرسول -صلى الله عليه وآله-، جُعل في سياق المغفرة الإلهية.. مثلاً: بالنسبة إلى قبض الروح، التي هي حركة مهمة في هذا الوجود، يقول تعالى في كتابه الكريم: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}؛ فهو المتوفي، وفي آية أخرى يقول: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}.. إذن، هو المتوفي، وملك الموت أيضاً متوفي.. ولكن الفارق: هو أن رب العالمين أصيل، وملك الموت وكيل.. فشفاء المريض وغيره أين، وقبض الأرواح أين؟.. وعليه، فإنه إذا كان الله -تعالى- يقضي الحاجات بالأصالة، ما المانع أن يقضي النبي -صلى الله عليه وآله- والأئمة الحاجات بالوكالة؟.. فالذي مكن عزرائيل -عليه السلام- من نفوس الأنبياء، كيف لا يعطي لأئمتنا حق الشفاعة في شفاء مريض، وقضاء حوائج الخلق؟!.. فهذا دون مقاماتهم!..
إن الذي يرتكب المعصية في كل زمان؛ يكون قد تجاوز حد الله -عز وجل- أولاً، وآذى رسول الله -صلى الله عليه وآله- بفعله ثانياً، وآذى إمام زمانه -عليه السلام- ثالثاً.. ففي روايات أهل البيت-عليهم السلام- إشارة إلى أن الإمام في كل زمان، يتأذى أيضاً وهو يراقب أعمال الأمة.. عن عبد الله بن أبان الزيات -وكان مكينا عند الرضا -عليه السلام- قال: قلت للرضا -عليه السلام-: ادع الله لي ولأهل بيتي!.. فقال: (أوَ لست أفعل؟.. والله إن أعمالكم لتعرض عليّ في كل يوم وليلة).. قال: فاستعظمت ذلك، فقال لي: (أما تقرأ كتاب الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}؟.. قال: هو والله علي بن أبي طالب عليه السلام).. فالإمام -عجل الله تعالى فرجه- ينظر بعين الله -عز وجل-، يقول الحديث: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله)، فهل المؤمن له فراسة، والإمام لا فراسة له؟!.. بل نحن نعتقد أنه لا فرق بين المعصوم -عليه السلام- حياً وميتاً، إلا كالفرق بين الراجل والراكب.. المعصوم كان مع بدنه في هذه الحياة، وبعد وفاته تبقى روحه مسيطرة ومهيمنة.. فإذا لم يكن الأمر كذلك، فلمَ هذا الاستئذان في المشاهد المشرفة؟.. وفي معظم زيارات المعصومين، هنالك مراحل متدرجة في الزيارة.. معنى ذلك أن هنالك من ينظر ويسمع ويرى، وما يقوله الزائر في هذه العبارة المذكورة في زيارات الأئمة -عليهم السلام-، يشير إلى تلك الحقيقة: (اللّهم!.. إني أعتقد حرمة صاحب هذا المشهد الشريف في غيبته، كما أعتقدها في حضرته.. وأعلم أن رسولك وخلفاءك (ع) أحياء عندك يرزقون، يرون مقامي، ويسمعون كلامي، ويردّون سلامي.. وأنك حجبت عن سمعي كلامهم، وفتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم…).. فإذن، لابد أن نلتفت لذلك الوجود السامي، والالتفات يكون من خلال الالتزام بما يلي:
أ- دعاء الفرج: إن المؤمن يلتزم بدعاء الفرج في قنوت الصلوات، في اليوم والليلة مرة واحدة ندعو لفرجه.. هذهِ محطة نلتزم بها، لأنهُ لو لم نربط العبادات بمحطات زمانية ومكانية؛ من الممكن أن ننسى.. فأبو القاسم الخوئي -رحمه الله-، طوال أربعين سنة، لم يترك دعاء الفرج في قنوته: (اللهم!.. كن لوليك الحجة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آباءه، في هذه الساعة وفي كل ساعة، ولياً وحافظاً، وقائداً وناصراً، ودليلاً وعيناً، حتى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتعه فيها طويلاً، برحمتك يا أرحم الرحمين)!..
ب- دعاء العهد: إن من الأمور التي تعمق صلتنا بهِ -صلوات اللهِ عليه- هذهِ الزيارات والأدعية المروية، التي تذكرنا بهِ وبدولتهِ الكريمة.. وهذا الدعاء مرويٌ عن الإمام الصادق -عليه السلام-.. فقد رُوِيَ عَنْهُ -عليه السَّلام- أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً بِهَذَا الْعَهْدِ، كَانَ مِنْ أَنْصَارِ قَائِمِنَا.. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ؛ أَخْرَجَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنْ قَبْرِهِ، وَأَعْطَاهُ بِكُلِّ كَلِمَةٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ سَيِّئَةٍ..).
ج- دعاء الندبة: كيفَ يمكن أن يكون الإنسان معتقداً بإمامةِ ولي الأمر، وفي يومِ الجمعة لا يتوجه إليه؟.. فالإنسان تلقائياً يلهجُ بهذهِ الفقرة من دعاء الندبة: (عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أَرَى الْخَلْقَ وَلا تُرى، وَلا أسْمَعُ لَكَ حَسيساً وَلا نَجْوى.. عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ (لا تُحِيطَ بِِيَ دُونكَ) تُحيطَ بِكَ دُونِيَ الْبَلْوى، وَلا يَنالُكَ مِنّي ضَجيجٌ وَلا شَكْوى.. بِنَفْسي أَنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنّا!.. بِنَفْسي أنْتَ مِنْ نازِحٍ ما نَزَحَ (يَنْزِحُ) عَنّا!.. بِنَفْسي أنْتَ أُمْنِيَّةُ شائِقٍ يَتَمَنّى، مِنْ مُؤْمِن وَمُؤْمِنَةٍ ذَكَرا فَحَنّا!.. بِنَفْسي أنْتَ مِنْ عَقيدِ عِزٍّ لا يُسامى!.. بِنَفْسي أَنْتَ مِنْ أَثيلِ مَجْدٍ لا يُجارى!… هَلْ مِنْ مُعينٍ فَاُطيلَ مَعَهُ الْعَويلَ وَالْبُكاءَ؟.. هَلْ مِنْ جَزُوعٍ فَاُساعِدَ جَزَعَهُ إِذا خَلا؟.. هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَساعَدَتْها عَيْني عَلَى الْقَذى)؟.. لو أن الإنسان يندب إمامه مرة كل أسبوع، ودمعت عينه قطرة واحدة لفقد إمامه، يكون بخير!..
د- دعاء زمن الغيبة: إن المؤمن المنتظر، يلتزم بدعاء زمن الغيبة في عصر الجمعة.. قُبيل الغروب يجلس في زاوية، ويتمتم بهذا الدعاء.. بعض المؤمنين يبكي في هذهِ الساعة، وهو يقول: (يا مولاي!.. يا صاحب الزمان!.. صلوات الله عليك وعلى آل بيتك.. هذا يوم الجمعة، وهو يومك المتوقع فيه ظهورك، والفرج فيه للمؤمنين على يديك، وقتل الكافرين بسيفك).
هـ- الارتباط الشخصي به: إن المؤمن له علاقة وثيقة بإمام زمانه -عجل الله تعالى فرجه الشريف-، من خلال الدعاء، وإهداء الأعمال له؛ ودفع الصدقة عنه.. فإنه يسعد كثيراً بذلك، ويردها أضعافاً على صاحبها.. إلا أنه يتألم أيضاً من عدم مراعاة الأمانة فيما يهدى إليه، عن النبي -صلى الله عليه وآله- أنه قال: (لا يؤمن عبدٌ حتى أكون؛ أحبّ إليه من نفسه.. وتكون عترتي؛ أحبّ إليه من عترته.. ويكون أهلي؛ أحبّ إليه من أهله.. ويكون ذاتي؛ أحبّ إليه من ذاته).
و- حسن الانتظار: إن الإنسان المنتظر، يكون على أهبة الاستعداد: فكراً ومنطقاً، وسلوكاً!.. فالبعض يرى أن أسلوب التقرب إلى وليه، يكون بإظهار الحب، وذلك من خلال: الدعاء لفرجه، والاحتفال بمولده الشريف، والتصدق عنه، ..الخ.. هذا كلهُ جيد، ولكن كل هذهِ الحركات تصب في خانة الولاء العاطفي؛ المهم بالإضافة إلى ذلك الولاء العملي.. فالبعض في مقام العمل يجرح فؤاد الإمام: يتساهل بصلاته، وفي سلوكه، وفي نظراته.. هناك قاعدة تقول: أنه لا اثنينية أبداً بين الطريق الإلهي، وبين طريق النبي وأهل البيت “فذكرنا ذكر الله”، وبتعبير آخر: هما وجهان لعملة واحدة.. فالإمام ليس له مدرسة في مقابل الله -عز وجل-، أي إذا سقطنا في مدرسة الله، نذهب إلى مدرسة أهل البيت؛ حتى ندرس هناك!.. الذي طرد من هناك، طرد من هنا أيضاً، أين المفر؟.. فإذن، الذي يسقط من عين الله -عز وجل- يسقط من عين إمامه.. (كان رسول الله -صلى الله عليه وآله- إذا نظر إلى الرجل فأعجبه، فقال: هل له حرفة؟.. فإن قالوا: لا، قال: سقط من عيني.. قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟!.. قال: لأن المؤمن إذا لم يكن له حرفة، يعيش بدينه).. إذا كان الإنسان العاطل يسقط من عين النبي؛ فكيف إذا كان عاصياً؟!.. العاطل هنا، ليس الذي يسعى ولا يحصل على عمل!..
الخلاصة:
إن المؤمن يحاول أن يصل إلى الخشوع القلبي.. فإذا قال: الله أكبر!.. دخل في سياحة لا توصف!.. البعض يدفع الأموال الطائلة، من أجل سفرة سياحية.. أما أولياء الله، فإنهم يجعلون جباههم على التراب، فيسيحون سياحة تدرك ولا توصف!.. يسيح بروحه إلى عوالم لا يتعقلها أهل الأرض، يقول تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.. يقولون: وصل القلم لهذا المكان وانكسر؛ لأن من تذوقه يعلم ما هي الحلاوة، وإلا الوصف لا قيمة له.. فالصلاة هي معراج وسياحة المؤمن، فهو عندما يصاب بمصيبة، يفزع إلى الصلاة، كدأبِ أئمة أهل البيت -عليهم السلام-، كانوا إذا أهمهم أمر، فزعوا إلى الصلاة، فقد روي (أنّ رسول الله -صلى الله عليه وآله- كان إذا حزبه أمرٌ، فزع إلى الصلاة).. وعن الإمام الصادق -عليه السلام- أنه قال: (إذا نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله- وصلّ ركعتين، تهديهما إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله-)؛ لذا، فإن الإمام الحسين -عليه السلام- كان يقاتل يوم عاشوراء، وعينه على السماء؛ لأنه يريد أن يستذوق الحلاوة الأخيرة للصلاة بين يدي الله عز وجل.. فالأنبياء والأوصياء كانت: سياحتهم، ولذتهم، وأنسهم؛ في الصلاة بين يدي الله عز وجل.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.