أهمية الصلاة الخاشعة..
إن البعض تنتابه الرهبة عندما يسمع عبارة: “الصلاة الخاشعة”، هذه الصلاة التي ينبغي لكل مسلم أن يتعلم كيفيتها!.. ويقول: أين نحن وهذه الدرجات!.. ولكن الله -عز وجل- يقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}.. فأول صفة وأول شهادة من شهادات المؤمن، هي الخشوع في الصلاة.. وإذا انتفت هذه الشهادة، أو شُكّ فيها؛ عندئذ تصبح صفة الإيمان منتفية عنه، بنص القرآن الكريم.. مع الأسف هناك بعض المعارف وبعض المعاني، جعلناها وقفاً على فئة معينة، وكأن هذه وظيفة العرفاء، والسالكين، والزاهدين، والحوزات، والعلماء فقط!.. بينما القرآن الكريم يقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، ما قال: “المتقون”، ولا “المنقطعون”، ولا “الزاهدون أو الواصلون” ..الخ.. بل قال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، والمؤمن تعبير قرآني شائع!.. والمتأمل في هذه الآية لا بد أن ينتابه شعور بالخوف الشديد، لما تستبطنه الآية الكريمة من تهديد بليغ، وحصر للفوز والفلاح للخاشعين في صلاتهم.
إن وصية علي -عليه السلام- لمحمد بن أبي بكر، من أروع الوصايا في هذا المجال، حيث يقول: (واعلم أنّ كل شيء من عملك؛ تبع لصلاتك.. فمَن ضيّع الصلاة؛ فإنّه لغيرها أضيع).. يا له من تعبير رهيب!.. أي إذا كنت مصلياً حقيقة، فأنت إنسان فالح في كل شؤون حياتك.. انظر إلى نبي الله موسى -عليه السلام-!.. فكما أن فرعون كان من أقوى الطغاة، موسى -عليه السلام- أيضاً كان من أقوى الدعاة!.. حيث أنه منذ أن خلق الله -عز وجل- آدم -عليه السلام- لم يخلق الله مخلوقاً كفرعون في جبروته؛ فليس هناك في عتاة الأرض من ادّعى الربوبية سواه، فقد كان يقول: {.. أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}!.. مثل هذا الإنسان المستكبر، لا بد أن يرسل له شخصية متميزة كموسى -عليه السلام-.. عندما بعثه رب العالمين إلى فرعون {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}، أمره بالتزود بسلاح قوي؛ ألا وهو الصلاة فقال له: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}؛ هذه اللام هي لام الغاية، فالصلاة في حد نفسها لا تحقق الغرض، إذ لا بد من عمل ما يوجب تحقيق الغرض ألا وهو “ذكر الله”.. ولذلك فإن أي صلاة بلا ذكر هي عبارة عن حركات تقليدية، وليست بصلاة.. وبالتالي، فإنها لا تحقق الهدف منها، فهي كالشجرة التي لا بلا ثمر.. لذا، يجب على كل إنسان أن: يندب نفسه على ما مضى من عمره، ويحاسبها على وضعها الحالي، ويسعى ليعلم ما هو المطلوب منه، وعلى رأس تلك الطلبات الفريضة الضائعة في صفوف المسلمين!..
الخشوع..
إن الله -سبحانه وتعالى- يقول: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}.. لم يقل: “يخشعون”، لم يستعمل الفعل، إنما استعمل اسم الفاعل.. فالفعل المضارع شيء، واسم الفاعل شيء آخر.. و{خَاشِعُونَ} تدل على صفة الثبات والدوام، لأن هذه صفة راسخة فيهم.. حيث أن من يخشع قد تخونه نفسه، أما الخاشع فهذه صفة أصيلة فيه؛ أي لا يخشع في صلاة الصبح، ويسهو في صلاة الظهر، أو يخشع في صلاة المغرب، ويسهو في صلاة العشاء؛ بل هذه صفة ثابتة لا تفارقه.. والخشوع في الصلاة له مراتب، فالمصلي يبدأ بالمرتبة الأولى، وإن نجح ينتقل إلى المرتبة الثانية، وهكذا!.. ولابد للمؤمن من الدخول في مدرسة الخاشعين، ولا يهم في أي مرحلة يكون: الابتدائية، أو الإعدادية، أو الثانوية، أو في الجامعة؛ فهذه درجات وكل إنسان حسب همته!..
مراتب الخشوع..
إن هناك ثلاث مراتب للخشوع، وهي: الخشوع البدني، والخشوع الفكري، والخشوع القلبي..
أولاً: الخشوع البدني..
أي إتقان الظاهر، وهو مرحلة أولى من الخشوع بين يدي الله -عز وجل-.. وحتى هذه المرحلة الابتدائية، البعض منا لم يدخلها، ولازالت صلاته بهيئة لا تليق بمواجهة رب العالمين.. وهذا أدنى درجات الخشوع في الصلاة، ولا يحتاج إلى رأس مال، أي أن المصلي فكره يذهب يميناً وشمالاً، ولكن هيئته هيئة إنسان مؤدب بين يدي الله عز وجل.. وخشوع الأبدان؛ هو أضعف الإيمان!.. وهو ما يتعلق بالثياب، والمكان، والتطيب، والهيئة، والتلاوة.
۱. ثياب المصلي: إن الثوب الصلاتي، ينبغي أن يكون ثوباً متميزاً، فيه شيء من الوقار.. مثلاً: في موسم الحج، البعض يأتي إلى الطواف بثياب لا تليق بلقاء أبيه وأمه؛ فكيف بلقاء رب العالمين!.. والصلاة بسروال قصير أيضاً جائزة، ولكن هذا لا يليق بالإنسان المصلي!.. إذ أنه لا يحسن بالإنسان المؤمن، أن يصلي بثوب العمل، أو بثوب البيت.. وهناك شروط لهذا الثوب: أن لا يكون من الحرير، ولا يكون مغصوباً، ولا يكون نجساً.
۲. مكان الصلاة: إن كل شيء في البيت له حساب: التلفاز له غرفة، والطعام له غرفة، والاستقبال له غرفة، والمرأة لها غرفة، والخادمة لها غرفة، وحتى الطفل له غرفة.. وبما أننا نعيّن للعناصر المادية في الحياة غرفة، لمَ لا نعيّن غرفة صغيرة خالية من الزينة، ونجعلها مصلى، فنخصصها للصلاة بين يدي الله -عز وجل-!.. حيث أنه يستحب أن ينقل الإنسان إلى مصلاه ساعة الاحتضار، وكأنه يقول: يا رب، أنا الآن ألوذ بنفسي في مكان طالما ذكرتك فيه.. اشهد عليّ بأنني سأنتقل إليك وأنا في مصلاي!.. حتى من باب علم النفس هنالك حالة من التلازم: فهذه السجادة التي طالما بكى عليها، وهذه التربة التي ينظر إليها؛ عندما يراها يتذكر الأيام التي كان يعيش فيها حالة الأنس مع المولى.. ومن المرجو أن يعطى حالة من حالات التفاعل الروحي في هذا المكان، عندما يتذكر خشوعه وتوجهه في ليالي القدر مثلاً.. بعض العلماء كان يبكي في صلاة الليل، وفي مصائب أهل البيت -عليهم السلام- ويمسح دموعه بقطعة قماش، فأوصى أن تدفن معه.. ألا يحتمل أن ترق قلوب الملائكة لهذا الميت عندما ينظرون إلى هذه الآثار، ويطلبون من الله -عز وجل- أن يحاسبه حساباً يسيراً؟!.. وهذا أفضل من أن نمسح الدموع بمناديل ورقية وترمى في سلة المهملات مع باقي الأمور.. البعض يحاول أن يرمي هذه المناديل في البحر أو في مكان ما؛ لئلا تهان؛ فهذه القطرات لها قيمة عند الله عز وجل!.. فإذن، مكان الصلاة مكان موقر!.. وبالنسبة إلى سجادات الصلاة، يفضل أن تكون قطعة بيضاء لا نقوش فيها؛ لئلا تشغل المصلي عن ذكر الله عز وجل.. والصلاة مكروهة في الأماكن التي فيها: تماثيل، وصور، ولوحات زيتية!..
۳. التطيب: إن الإنسان بإمكانه من خلال شراء زجاجة عطر لا تتجاوز قيمتها ديناراً واحداً، أن يربح يوم القيامة مقامات لا توصف.. عن الصادق -عليه السلام-: (ركعتان يصليهما متعطر، أفضل من سبعين ركعة يصليها غير متعطر)!.. كم صليت من أيام البلوغ إلى الآن، كم فاتك من الأجر العظيم مقابل تفويتك لهذا المستحب!.. والنبي الأكرم -صلى الله عليه وآله- كان يهتم كثيراً بالطيب، فالإنسان المتطيب يعيش حالة روحية؛ لأن الطيب له أسرار مع معالم الأرواح.. فهذا الطيب هو عبارة عن مادة تتفاعل مع الخلايا الشمية، وبعد ذلك ينتهي دور الطيب.. ولكن الذبذبات العصبية، التي تنتقل من خلايا الشم إلى المخ، هذه الذبذبات مباركة وفيها آثار.. لذا الطيب لا يفارق المؤمن، عن النبي -صلى الله عليه وآله-: (حُبّب إلي من الدنيا ثلاث: النساء، والطيب، وقرة عيني في الصلاة).. والنبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- كان لا يرى سرفاً في الطيب، ولعل ثلث مصاريفه كانت في الطيب، قال الصادق -عليه السلام-: (كان رسول الله -صلى الله عليه وآله- ينفق على الطيب، أكثر مما ينفق على الطعام)!..
٤. هيئة المصلي: يجب أن تكون هيئة متميزة، فما دمنا محرومين من الخشوع الباطني، فعلى الأقل نتخشّع، ونحاول أن نظهر بثيابٍ نظيفةٍ متطيبة، لنكن على هيئة جيدة عند لقاء الله عز وجل.. في الاستعراضات العسكرية، الجندي يقف بهيئة معينة.. وكذلك فإن الشريعة حددت للمصلي معالم بدنه، إذ يجب أن يكون بهيئة مؤدبة: مستقبلاً القبلة، منتصباً، مرسلاً يديه جميعاً على فخذيه، يضم أصابعه، يقرب بين قدميه حتى يكون بينهما قدر ثلاث أصابع منفرجات، ويستقبل بأصابع رجليه جميعاً القبلة لا يحرفهما عن القبلة، مادّاً نظره إلى موضع سجوه، لا يعبث بلحيته ولا برأسه… الخ.. هذا خير من ذلك الذي يعبث بلحيته مثلاً.. في الرسالة العملية هنالك باب “مستحبات الصلاة”، وفهمها لا يحتاج إلى تفقه، فقط مراجعة بسيطة لهذه الآداب؛ تؤدي الغرض.. وقد ذكر سيد المراقبين “السيد ابن طاووس” هيئة الإنسان الداعي: حيث هناك التبتل، والتضرع، والخشية، “ولليدين وظائف وهيئات في الدعاء، تتغير حسب حال الداعي في: الرغبة، والرهبة، والتضرُّع، والتبتُّل، والابتهال.. قال الإمام الصادق -عليه السلام-: (الرغبة: تبسط يديك وتظهر باطنهما، والرهبة: بسط يديك وتظهر ظهرهما، والتضرُّع: تحرّك السبابة اليمنى يميناً وشمالاً، والتبتّل: تحرّك السبابة اليسرى ترفعها في السماء رسلاً وتضعها، والابتهال: تبسط يديك وذراعيك إلى السماء، والابتهال حين ترى أسباب البكاء)”؛ فهذه الحركات البدنية لها ارتباط بعالم الأرواح والقلوب.. والشريعة مزيج بينهما، وإلا كان يكفي أن يذهب المسلم إلى الكعبة في موسم الحج ويقول: “لبيك اللهم لبيك”!.. ولكن هناك: الطواف، والسعي، واستحباب الهرولة، ورمي الحجارة!.. فهذه السلوكيات الظاهرية، توجد معانٍ في النفس.. وعليه، فإن الذي يريد صلاة خاشعة، لابد وأن يحافظ على هذه الآداب.. فهذه الصلاة التي نؤديها هي شعار المسلم، لذا علينا أن ننفخ فيها الروح!.. فرب العالمين عندما نفخ الروح في آدم -عليه السلام- قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} وإلا آدم بهيئته الطينية لا يستحق السجود.. ونحن كذلك يجب أن ننفخ الروح في هذه الصلاة الميتة الهيكلية.
٥. التلاوة: هنيئاً لأصحاب الأصوات الجميلة!.. فالصوت الجميل ينفع صاحبه في قراءة القرآن، والدعاء، والمديح، والرثاء، وذكر أهل البيت.. إن كان الإنسان في البيت وحده، ما المانع أن يتقن القراءة، أي يؤدي الصلاة بقراءة متأنية فيها تأمل، فليس هناك شبهة الرياء؟.. صاحب كتاب “المراقبات” “الملا الملكي التبريزي” كان إذا صلى صلاة الفجر، يتفنن في صلاته، كان يطيل الصلاة لعله إلى قريب طلوع الشمس.. هنيئاً لمن استذوق حلاوة الطاعة، وحلاوة الأنس برب العالمين!.. فهذا الأنس ينسي الإنسان كل لذائذ الدنيا، أين لذة النساء وغيرها!.. كان ذلك العالم يستيقظ من نومه في المدرسة في الحجرة المظلمة، قائلاً: “أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة”؟!.. فقد كان يعيش لذائذ روحية تدرك ولا توصف!.. فإذن، الإنسان يتأنى في قراءته، وما المانع أن ينوّع في السور؟.. البعض من الناس ربما طوال حياته لم يغير السور التي يقرأها في صلاته.. مثلاً: في ليلة الجمعة يستحب للإنسان أن يقرأ سورة الجمعة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.. ولكن ما المانع أن يقرأ سور “الأعلى” في تلك الليلة؟.. وما المانع في شهر رمضان، أن يقرأ القرآن الكريم في أثناء صلاة النافلة؟.. حيث أنه لا مانع من صلاة النافلة جلوساً، والبعض من العلماء يجيز قراءة جزء من السورة، لا سورة كاملة بعد الحمد.. وعليه، فإنه بإمكان المصلي أن يتلو كتاب ربه وهو في صلاة الليل، أو النوافل النهارية.
ثانياً: الخشوع الفكري..
إن الإقبال الذكري والذهني، هو المرحلة المتوسطة: فلا هو طيب يشترى من السوق بثمن بخس، ولا هي ثوب يشترى من سوق الأقمشة، ولا هي سجادة يشتريها بمبلغ معين.. هذه أرقى قليلاً من الخشوع البدني، وهي أن يضبط الإنسان خواطره في صلاته؛ بمعنى أنه يتأمل في المضامين القرآنية، ويعلم ما يقول.. فكيف يكون الإنسان مثقفاً دينياً، ولم يطلع على تفسير سورة: الحمد، والتوحيد، والقدر؛ هذه السور التي نقرؤها كثيراً في صلواتنا؟!.. هناك تفاسير بسيطة موجودة على هامش القرآن الكريم، بإمكان الإنسان أن يراجعها.. يقرأ كتاب الله -عز وجل- وهو عربي ولا يعلم معنى {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}؟.. ومعنى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}؟.. و{مُّقْمَحُون}؟.. -أما {قِسْمَةٌ ضِيزَى}؛ أي جائرة غير عادلة.. {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}؛ الأب: الكلأ والمرعى.. {مُّقْمَحُون}؛ اسم مفعول من الإقماح: وهو رفع الرأس كأنهم قد ملأت الأغلال ما بين صدورهم إلى أذقانهم، فبقيت رؤوسهم مرفوعة إلى السماء، لا يتأتى لهم أن ينكسوها، فينظروا إلى ما بين أيديهم من الطريق، فيعرفوها ويميزوها من غيرها- وغيرها من الآيات الكريمة.. فالإنسان على الأقل يقرأ تفسير سورة الحمد، تلك السورة التي لا تصح الصلاة إلا بها!..
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.. اللغة العربية لُغة معقدة، ولغة عميقة فـ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} جملة ناقصة؛ لأنها جار ومجرور، وهي متعلقة بمحذوف.. وهذا المحذوف يتناسب مع طبيعة العمل الذي يزاوله الإنسان، فبإمكان الإنسان أن يختار ما يشاء!.. فالبعضُ يقول: أستعينُ بـ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.. والبعض الآخر قد يقول: أتوجه بـ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.. وأتبرك بـ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.. فيختار الإنسان من الأفعال ما يُناسب مزاجه في هذا اليوم.. أما في عالم التفسير فإنهم يقولون: أبتدئُ بـ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.. هناك كتاب بعنوان: ختومات {بِسْمِ اللَّهِ}، مثلاً: تقرأ في مجلس واحد “بسم الله”، بعدد معين لتسخّر قلوب الخلق، وغيرها من هذه الأمور التي تدخل في الخزعبلات.. وكأن القرآن جاء لنستولي على قلوب الناس، عن طريق الطلاسم والشعوذة وما شابه ذلك.. نحن لا نقول: أن كل هذه الأذكار باطلة، بل ما ورد عن المعصومين، وبشكل معقول نأخذ به.. يقول تعالى في كتابه المجيد: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}، عن الباقر -عليه السلام- في قول الله -عز وجل-: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}، قيل: ما طعامه؟.. قال: (علمه الذي يأخذه ممن يأخذه)!.. البعض يحفظ أسماء الفنانين والرياضيين، وكل ما لا قيمة له، أما حين يُسأل عن معنى {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فلا يجيب؛ لأنه لا يعرف.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.. الإنسان الذي ليست فيه صفة الرحمة، هذا الإنسان بعيد عن رحمة الله -عز وجل- وإن كان من المصلين ومن الصائمين.. والمؤمن إذا أرادَ أن تتجلى فيه هذهِ الصفة الربوبية، لابدَ وأن يتحلى بصفة الرحمة، إرحم تُرحم!.. ولكن ما الفرق بينَ الرحمن، وبينَ الرحيم؟..
{الرَّحْمَنِ}: صفةُ إلهيةٌ عامة، تشمل المؤمن والكافر؛ ولولا هذا اللطف الإلهي، لما بقي كافرٌ على وجه الأرض.. هنالك رواية تقول: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء).
{الرَّحِيمِ}: هي رحمةٌ خاصةٌ لعبادهِ المؤمنين، وتبقى إلى أبد الآبدين.. فهذا الجمال الذي أعطي لوجوه الكافرين والكافرات، جمالٌ يزول في الدنيا مع الأيام، وفي القبر لا يبقى معهم شيء.. أما المؤمن في هذهِ الحياة الدنيا فإنه كما ورد في بعض الروايات: (إنّ روح المؤمن لأشدّ اتصالاً بروح الله، من اتّصال شعاع الشمس بها).
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَِ}.. إن الحمد آخر ما يقولهُ الإنسان بالجنة، {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.. فقد جعلت السبع المثاني في مقابل القرآن الكريم.. والسبع المثاني هي سورة الحمد، وسميت كذلك؛ لأنها تُقرأ في الصلاة مرتين، ولها سبع آيات.. ومن امتيازات هذه السورة أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، فرب العالمين جعلها معلماً ثابتاً للصلوات اليومية.. فهي أم الكتاب، وفاتحة الكتاب، “لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب”.. الفاتحة بهذه العظمة وهكذا نجهل أسرارها؟!.. وهي ليست بأسرار، بل مدونة في الكتب، ولو قرأ الإنسان تفسير سورة الحمد، في تفسير الميزان؛ فإنه سيحيط بأسرار هذه السورة بحسب الظاهر.. أما ما خفي عن عقل العلامة وغيره، مما هو في صدور أولي الكتاب؛ فهذا أمر آخر، إنما “يعرف القرآن من خوطب به”، أي يعرفه حق المعرفة!.. أما نحن فعلينا بالمعرفة الظاهرية.. والقرآن تبيان لكل شيء، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}.. وأما {الْعَالَمِينَِ}: فهو جمع العالم بفتح اللام؛ بمعنى ما يعلم به.. والعبد من العالمين، فما وزنه بين يدي الله عز وجل؟.. من هو حتى يقيم لنفسه وزناً، فيستكثر على الله -عز وجل- أن يتبناه بالرعاية لو أراد؟!..
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.. إن هذه الآية فيها قراءتان: {مَالِكِ} و{مَلِك}، ولكل من الكلمتين معنى يغاير المعنى الآخر.. أما {مَلِك} فهذه الكلمة مأخوذة من المُلك، و{مَالِكِ} مأخوذة من المِلك وبينهما فرق.. المَلِك: هو ذلك الإنسان، أو ذلك الموجود الذي له الهيمنة على الشيء، من دون أن يكون مالكاً له أيضاً، كمَلِك المملكة، فهو يحكم شعباً، ويحكم المقدرات؛ ولكنه لا يملك مَن على وجه الأرض.. فهو مَلِك، وليس بمالك.. وفي بعض الأوقات، لا يكون الإنسان مَلِكاً، بل يكون مالكاً؛ أي الكلمة مأخوذة من المِلك، لا من المُلك.. و{يَوْمِ الدِّينِ} هو الجزاء يوم القيامة.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.. ما الفرق بين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونعبدك؟.. المعنى معنى واحد، إلا أن هناك فرقاً بينهما.. أي يا رب، أعبدك حصراً!.. إذ أن هناك فرقاً بين نعبدك ونستعينك، وبين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ كلاهم يفهمان الاستعانة والعبادة، ولكن هذا بنحو الحصر.. أما نعبدك ونستعينك؛ أي نعبدك ونعبد غيرك، لا مانع!..
{اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.. لماذا ليس هناك في القرآن الكريم آية واحدة تجمع الصراط، بينما جمعت السبل؟.. جاء في تفسير هذه الآية: “الصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي أرفع النعم قدراً، يربو على نعمة الإيمان التام، وهذا أيضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.. ثم إنه تعالى على أنه كرر في كلامه ذكر الصراط والسبيل، لم ينسب لنفسه أزيد من صراط مستقيم واحد، وعد لنفسه سبلاً كثيرة، فقال عز من قائل: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}؟.. والسبيل غير الصراط المستقيم، فإنه يختلف ويتعدد ويتكثر باختلاف المتعبدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم”.
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}.. يفهمنا رب العالمين بلسان خفي: أن الذي وصل إلى ما وصل؛ إنما هو بتفضل إلهي، لا بجهده!.. عن علي -عليه السلام-: في معنى صراط الذين الآية: أي: (قولوا: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بالتوفيق لدينك وطاعتك، لا بالمال والصحة، فإنهم قد يكونون كفاراً أو فساقاً، قال: وهم الذين قال الله: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا}).
قد يقول قائل: هذه المعاني عميقة وتحتاج إلى تدبر وتأمل!.. إن البعض حاصل على شهادات عليا، ويفهم أدق النظريات الرياضية، ويفهم علوم الحاسوب، والرياضيات البحتة، ويدرس الفيزياء والكيمياء.. أما حين يصل الأمر إلى سورة الحمد، فإن ذهنه لا يشتغل، ولا يستوعب!.. بينما الذهن البشري واحد، فهل من المعقول أن يستوعب الإنسان آخر النظريات في علوم الحاسوب والرياضيات، ولا يعرف ما الفرق بين الرحمن والرحيم؟!.. فإذن، هو لا يريد أن يفهم، ولو أراد أن يفهم لفهم!..
ثالثاً: الخشوع القلبي..
وهو أن يصل الإنسان -في الصلاة- إلى درجة يشعر أن هناك مخاطباً، وهو رب الأرباب!.. عندئذ يرى أن في قلبه شيئاً متميزاً، فيرق القلب، ويجري الدمع، ويقشعر البدن.. والإنسان عندما يخشع لله -عز وجل-، هذا الخشوع الباطني يوجب لهُ الخضوع خارجاً، يقول تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}.. فالذي يعيش الخشية من الله -عز وجل- من الطبيعي أن تسري هذهِ الخشية في الجوارح، ويتحول إلى إنسان خاضع.. ومن يريد الإقبال والخشوع في الصلاة؛ عليه أن لا يلتفت إلى أمور الدنيا.
العمل بالمستحبات..
بما أن الصلاة عبارة عن وظيفة يومية، والمؤمن أنسه في الصلاة!.. فما المانع أن يعمل ببعض المستحبات، ولو في بعض العمر؟.. ورد في حديث قدسي: (من أحدث ولم يتوضأ؛ فقد جفاني.. ومن أحدث وتوضأ، ولم يصلِّ ركعتين؛ فقد جفاني.. ومن أحدث وتوضأ، وصلى ركعتين، ودعاني؛ ولم أجبه فيما سألني من أمر دينه ودنياه، فقد جفوته.. ولست برب جاف).. وعليه، فإن المؤمن يغتم الفرصة؛ لكي يصلي بين يدي ربه عز وجل.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.