رحيق العبادة..
إن للشريعة ظاهراً وباطناً!.. والمؤمن يحاول دائماً أن ينتقل من الظاهر إلى الباطن؛ لكي يصل إلى رحيق العبادة.. عندما خلق الله -تعالى- آدم، ونفخ فيه الروح؛ طلب من الملائكة السجود له، {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}.. فآدم -عليه السلام- على هيئته الطينية لا يستحق السجود، إنما يُسجد له بأمر من الله -عز وجل-.. وليس هذا من باب “السجود لغير الله”؛ لأنه إذا كان بأمر الله -عز وجل-؛ فلا ضير في ذلك!.. وعليه، فإنه عندما اقترنت الروح بهذا الهيكل الطيني؛ سجدت الملائكة لآدم -عليه السلام-.. وهذه العبادات بمثابة هذه الهياكل، هي هياكل مقدسة بلا شك!.. ولكن إذا لم ننفث فيها الروح؛ تبقى هذه العبادات ظواهر بلا أرواح.. وهناك شاهد على هذا الكلام من القرآن الكريم، ومن السنة النبوية الشريفة.
شاهد من القرآن الكريم:
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: إن الصلاة هي هذه الفريضة التي بها قوام الدين.. وبحمد الله -تعالى- الأطفال الصغار منذ نعومة أظفارهم، يتعلمون هذه الفريضة.. فمادمنا نصلي ونركع ونسجد؛ لمَ لا نحاول أن نكتشف روح الصلاة؟!.. تلك الروح التي يعبر عنها القرآن الكريم: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}، وكأن هنالك واعظاً وعالماً وآمراً وناهياً في جوف هذه الحركات الظاهرية.. فالمسجد الذي لا إمام له؛ لا قيمة له.. والمنبر الذي لا واعظ عليه؛ لا قيمة له.. والصلاة التي لا ناهي فيها ولا آمر فيها؛ أيضاً هذه الصلاة ليست لها قيمة كبرى!.. نعم، هي مسقطة للتكليف، ومبرئة للذمة؛ ولكنها لا ترفع العبد إلى الدرجات العليا.
فإذن، إن القرآن الكريم يعرّف الصلاة، وكأن هنالك روحاً في جوفها: تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.. مثلاً: لو أن إنساناً أصيب بصداعٍ شديدٍ، فتناول حبة مسكن، ولم يخفّ الألم.. فتناول حبة أخرى، وهكذا خمس مرات في اليوم، ولمدة شهر مثلاً؛ فإن هذا الدواء يكون مزيفاً، وإلا لأثر أثره.. والصلاة لها هذه الخاصية، فنحن نعرف قيمة الأمور بخواصها.. إذن، الصلاة الخاشعة هي الصلاة: الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر.. فلو سلبت هذه الخصوصية من الصلاة؛ لا تبقى الصلاة صلاة!..
شاهد من السنة النبوية الشريفة:
۱. الصلاة معراج: إن هنالك تعابير مختلفة عن الصلاة في الشريعة، ولعل من أكثر أبواب الفقه هو “بحث الصلاة بين يدي الله عز وجل”.. ومن الأحاديث المعروفة: (الصلاة معراج المؤمن)؛ أي هي وسيلة وأداة، يعرج بها الإنسان إلى القمم العليا.. في بعض البلاد هناك مطعم باسم “مطعم الطائرة” وهي عبارة عن طائرة قديمة، حوّلت إلى مطعم.. فالناس الذين ليست لهم القدرة على شراء التذاكر والسفر بطائرة حقيقية، يقنعون أنفسهم بهذه المطاعم التي على شكل طائرة.. ولكن هل الذي دخل هذه الطائرة يقال: بأنه سافر؟.. صحيح هو دخل طائرة، ولكن لا محركات لها، أو محركاتها مصابة بالعطل، أو لها محركات ولكن الطيار لم يحضر.. فدخول الطائرة لا يسمى معراجاً!.. هي أداة للعروج، ولكنْ ليس هنالك معراج فعليٌّ.. فالطائرة فيها القابلية للطيران، لكن الطيران الفعلي يحتاج: إلى وقود، وإلى طيار، وإلى تذاكر، وإلى برج مراقبة، و..الخ.. أي هناك عشرات الشروط، كي تحلق هذه الطائرة في الآفاق.. كذلك الصلاة هي معراج، ولكن ليس لكل أحد!.. فنحن مثلنا كمثل إنسان دخل مطعم الطائرة، وادّعى أنه سافر!..
۲. الصلاة مطهرة: إن هذه المساجد بمثابة إنسان دخل الحمام ولم يستحم، فقد ورد عن النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله- أنه قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات؛ هل يبقى من درنه شيء؟.. قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا).. فلو أن إنساناً دخل الحمام ولكنه لم يفتح ماءً، ولم يستعمل صابوناً؛ فهذا الإنسان عندما يخرج؛ خروجه كدخوله: أي رائحة العرق، وآثار الغبار مازالت عليه.. فدخول الحمام إنما يعطي الطهارة، لمن استعمل الطهور.. والمساجد كذلك، فلطالما دخلنا المساجد، وخرجنا منها كما دخلنا!..
۳. الصلاة نور: إن كل المساجد في بقاع الأرض، هي بيوت الله -عز وجل-.. وهذه البيوت المنسوبة لله -عز وجل- فيها أشعة نورانية تغمر المصلي.. ولكننا ندخل ونخرج منها، ولا نشعر بشيء من نورانية هذا المكان.. ولولا أن العلم قدم لنا عينات؛ لكان من الصعب علينا استيعاب هذه الحقيقة؛ حقيقة: أن دخول المسجد مطهر، واللبث في المسجد يطهر.. هذه الأيام أكثر الأمراض تعالج بالأشعة، التي لا يمكن للإنسان أن يراها، أو يشعر بها.. وكذلك هذه المساجد، فيها أشعة، لا يراها الإنسان.. فهل جهاز يصنعه الغربي أو الشرقي: يعقم، ويعالج، ويطهر، و..الخ؛ وبيوت الله -عز وجل- من الغريب ومن المستبعد أن تكون فيها هذه الخاصية؟!.. من المؤكد أن هنالك آثاراً؛ ولكنها لا تُرى!.. كتلك الأشعة التي تتحطم فيها الذنوب عند الحطيم، هذه أشعة متصلة بين الكعبة وبين العرش، ولكن نحن لا نرى هذه الأشعة.. فقد ورد عن الإمام الصادق -عليه السلام- أنه قال: (إذا قام المصلي للصلاة، نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى أعنان الأرض، وحفت به الملائكة، وناداه ملك: لو علم المصلّي ما في الصّلاة؛ ما انفتل)، وفي حديث آخر لعلي -عليه السلام-: (لو يعلم المصلّي ما يغشاه من جلال اللَّه، ما سرّه أن يرفع رأسه من السجود)؛ أي لو كشف له الغطاء، ورأى كيف أن الله -عز وجل- يحيطه بهالة من النور؛ لما ترك صلاته.. وقد ورد في بعض الروايات، أن الإنسان عندما يؤذن ويقيم، فإن الملائكة تأتم به؛ لأنه وريث آدم.. عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إذا كان الرجل بأرض قِيٍّ فحانت الصلاة، فليتوضأ.. فإن لم يجد ماء؛ فليتيمم.. فإن أقام، صلى معه ملكاه.. وإن أذن وأقام، صلى خلفه من جنود الله ما لا يُرى طرفاه).. وعليه، فإن قضية الصلاة قضية مهمة جداً!..
التخصص في الصلاة..
إن الصلاة الخاشعة تحتاج إلى دورة، وإلى تخصص.. فالبعض يذهب إلى بلاد الغرب، ويمضي سنوات، كي يتخصص في مجالات لا نفع فيها أبداً: كالرياضيات البحتة، وغيرها.. ولكن يجب الانتباه، إلى أن الوقت له قيمة، وله ثمن!.. فالإنسان يبحث عن هذه الأمور، بينما الصلاة بين يدي الله -عز وجل- هذا المثول اليومي، لا يعلم: لا فقهه الظاهري، ولا فقهه الباطني.. يمضي دهراً من عمره، وهو يتوضأ وضوءً باطلاً.. والسيد الخوئي -رحمه الله- في “منهاج الصالحين”، عندما يصل إلى هذه المسألة يقول: “ما هو المتعارف بين العوام، من غسل اليدين إلى الزندين، والاكتفاء عن غسل الكفين بالغسل المستحب قبل الوجه؛ باطل”.. يبدو أن هذا خطأ شائع!.. حيث أنهم يغسلون أيديهم قبل الوضوء، وعندما يغسلون اليد، يكتفون بمسحها إلى الرسغ ولا يكملون إلى الكفين؛ باعتبار أن الكفين مبللتان.. حتى الآداب الظاهرية؛ أي الفقه الأولي لا يتقنه؛ فضلاً عن الآداب الباطنية، والأسرار المعنوية للصلاة بين يدي الله عز وجل.
الصفقة..
إن الإنسان بإمكانه في ليلة أن يعقد صفقة العمر، فيغيّر مجرى الحياة.. وإلا فإن العمر كورقة في جهاز استنساخ عملاق، إذا لم يتم استبدالها؛ فإنه سيخرج كل يوم من هذا الجهاز نسخة طبق الأصل عن الورقة السابقة.. وكذلك الحياة: فحياتنا نسخة متكررة.. والبعض -على أحسن التقادير- ورقة جميلة، يعيش حياة إيمانية، ولكن صفحاته أيضاً متشابهة.. لذا، لا بد من ثورة في الباطن؛ لنغيّر مجرى الحياة.. أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله- كانوا في الجاهلية يقتلون بناتهم، ويشربون الخمر، ويخوضون الحروب لأمور تافهة.. هؤلاء كانت هذه عيشتهم، أدنى حضارة على وجه الأرض، وهم يعاصرون الرومان والفرس، أصحاب الحضارات المتقدمة في كل البلدان.. فجاء الإسلام ليحوّل هذه الوجوه إلى من سجلوا أروع صور الفهم والمشاعر!.. القضية ليست قضية جهاد وغزوات؛ إنما هي قضية حمل أمانة الإسلام، وحمل ثقافة القرآن.. فهؤلاء عندما دخلوا الإسلام كانت لهم كلمة رائعة، قالوا: (كنا رعاة الإبل، واليوم صرنا رعاة الشمس)؛ أي ننظر إلى الشمس: متى تشرق ومتى تغرب ومتى تزول؛ حتى نصلي بين يدي الله -عز وجل-.. انظروا جيداً لتأثير الإسلام في نفوس هؤلاء!.. فإذن، إن الذي يريد أن يغيّر مجرى حياته، بإمكانه أن يغيّرها في ليلة أو بضع ليالٍ.
الشوق..
إن على الإنسان أن يعيش حالة من الترقب للصلاة، فالإنسان المؤمن الذي يريد أن يصل إلى ملكوت الصلاة، لابد وأن يعيش هذا الهاجس قبل دخول الوقت، مترقباً للصلاة بكل شوق.. أحدهم كان يقف كل ليلة لساعات أمام بيت من يحب، إلى أن تفتح النافذة لتنظر إليه، فيرتاح قلبه ويعود إلى المنزل.. كانت هذه صلاةُ ليله لمدة أربع سنوات؛ فهذا هو الحب الصادق!.. ولكن الويل كل الويل لبني آدم!.. فهذا الرب يقول في كل ليلة: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} ونحن معرضون.. بينما هذا الشاب العاشق، كان مواظباً على الحضور كل ليلة!..
الصلاة عمود الدين..
إن أول خطوة للوصول إلى صلاة خاشعة: أن نعترف بأن صلاتنا، ليست هي الصلاة المطلوبة في الشريعة.. فـ”الصلاة عمود الدين”، كما أن الخيمة لا بد لها من عمود؛ كذلك فإن الدين عموده الصلاة.. ولكن هذا الدين العظيم الذي جاء به النبي، وروّيت من أجله دماء الشهداء: شهداء بدر، وأُحد، وحنين، وغيرها؛ هذا الدين صلاتنا التي بهذه الكيفية هي عموده؟!.. فقد ورد في الروايات: (بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله- جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ، فَقَامَ -الرجلُ- يُصَلِّي، فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ.. فَقَالَ -صلى الله عليه وآله-: “نَقَرَ كَنَقْرِ الْغُرَابِ، لَئِنْ مَاتَ هَذَا وَهَكَذَا صَلَاتُهُ، لَيَمُوتَنَّ عَلَى غَيْرِ دِينِي”).. فهذه الصلاة التي نقوم بها، هي عبارة عن حركة رتيبة.. ومع الأسف نقرأ في بعض المواقع: أن من فوائد الصلاة؛ أنها تمرين للظهر والعمود الفقري.. نعم، عندما تتحول الصلاة إلى حركات رياضية؛ فإنها تبقى في هذه المجال.
الحسرة..
إن من أشد الأمور حسرة على الإنسان عندما يذهب من الدنيا، هذه الصلاة التي كان يصليها في الحياة الدنيا.. البعض عندما يذهب للمسجد من أجل صلاة الجمعة، هذا المشروع يأخذ من وقته ساعتين.. هو مواظب على الصلاة، وعلى حضور صلاة الجمعة والجماعة، ولكنه لا يطوّر من صلاته هذه.. البعض يبلغ من العمر ستين سنة، وصلاتهُ ساعة الاحتضار، أو يوم الوفاة؛ كصلاتهُ في أول يومٍ من البلوغ، حتى بأخطائها الفقهية المتعارفة: وضوء باطل، أو تلاوة باطلة، أو صلاة باطلة.. في أول يوم من البلوغ كانَ معذوراً لجهله، أما بعدَ ستين سنة، فما هو العذر؟!.. قبل ستين سنة كان فقيراً وأعزب، والآن أصبح صاحب عشيرة، وعنده ثروة كبيرة في البنوك، ولكنه حتى الآن لا يعرف الحديث مع رب العالمين.
الإلمام بالمعاني..
إن البعض خلال ستة أشهر أو سنة، يتعلم أصعب وأعقد اللغات، ونحن ستون سنة نصلي، ولا نعرف معنى بعض المفردات في صلاتنا.. لو كنا غير عرب، ربما لنا عذرنا!.. أما ونحن في بلاد العرب، ونتكلم العربية بكل فصاحة وطلاقة، ولا نعرف ما معنى {اللَّهُ الصَّمَدُ} هذه السورة التي نلهج بها صباحاً ومساءً!.. حيث أن معظم المصلين والمسلمين والناطقين بالعربية، قد يعرفون اللغات الأجنبية، ولا يعرفون معنى هذه الآية، بل ولا يعرفون معاني ما يُقال أثناء الصلاة، مثلاً:
– {الصَّمَدُ}: مأخوذة من صَمدَ.. عندما نقول: صمدَ الرجل؛ بمعنى راجعَ فلان معتمداً عليهِ في قضاء حوائجه.. فـ{اللَّهُ الصَّمَدُ} هو ذلك الرب الذي نرجعُ إليهِ في قضاء الحوائج، (أزمة الأمور طراً بيده، والكلّ مستمدّة من مدده).
– (سمع الله لمن حمده): عندما يرفع المصلي رأسه من الركوع يقول: (سمعَ اللهُ لمن حمده)، سمع: فعل ماض.. ولكن العلماء يقولون: “سمعَ” هنا ليس بمعنى سمع، لأن الفعل “سمعَ” لا يحتاج إلى اللام نستطيع أن نقول: “سمع الله من حمده”، إنما بمعنى: أجاب الله لمن حمده وشكره.
– (الله أكبر)!.. هو أكبر من أي شيء؟.. هل هنالك شيء يوصف لأن يكون جهة للقياس مع رب العالمين؟.. هل هناك كبير في مقابل الله، حتى نقول: بأن الله أكبر؟.. جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد، فيا من تحير في ذاته سواه!.. هذا الرب -جل جلاله- لا يكيف بكيف، ولا يؤين بأين!..
فيك يا أعجوبة الكون *** غــدا الفكر كليلا
أنت حيرت ذوي اللب *** وبلبلت العقــولا
كلمــا أقدم فكري *** فيك شبراً فر ميـلا
ناكصاً يخبط في عم *** ياء لا يهدى السبيلا
هذا الرب أكبر من زيد وعمرو!.. الإنسان هو أشرف المخلوقات، فإذا أريد أن يقاس الرب في شيء، فإنه سيقاس فيه، ولا يقاس بالمجرات أو بالبحار، وما قيمة البحار والمجرات؟.. ولكن ليس هذا معنى التكبير!.. عندما يقول الإنسان: الله أكبر!.. أي؛ الله أكبر من أن يوصف!..
أحوال المعصومين (ع) أثناء الصلاة..
۱. النبي (ص): تقول أم المؤمنين عائشة: (كان يحدثنا ونحدِّثه، ويكلمنا ونكلمه.. فإذا حضرت الصلاة: كأنه لا يعرفنا، ولا نعرفه).. النبي -صلى الله عليه وآله- كان يتغير وينكر كل من حوله.. وهذه مقولة معروفة عن النبي -صلى الله عليه وآله- حيث يقول: (يا بلال أبرد)!.. وأبرد مأخوذة من البريد؛ أي بمعنى عجّل.. أو من البرد؛ أي أطفئ نار الشوق إلى الله -عز وجل-.. ولعل بلال كان مسدداًً، كان قلبه متصلاً بالعرش، لهذا اختاره النبي -صلى الله عليه وآله- رغم أنه كان يلحن في أذانه، كان يلفظ السين بدل الشين.. فكان يقول النبي -صلى الله عليه وآله-: (إن سين بلال عند الله شين)؛ أي أذانه صحيح.. فإذن، إما مأخوذة من البريد، أو مأخوذة من أطفئ نار الشوق.. أي يا بلال عجّل في الأذان؛ حتى أصلي بين يدي الله عز وجل.
۲. أمير المؤمنين (ع): علي -عليه السلام- كانت له خلواته في جوف الليل، وفي النهار أيضاً.. قال أبو الدرداء: (فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزو، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله علي بن أبي طالب.. قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة (ع): يا أبا الدرداء!.. ما كان من شأنه ومن قضيته؟.. فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله -يا أبا الدرداء- الغشية التي تأخذه من خشية الله.. ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق…).. وفي مضمون بعض الروايات: “أنّه لمّا أُصيب (ع) في بعض الحروب بسهم في رجله، انتظروا ليقف إلى الصلاة، وأخرجوا السهم من رجله وهو في حال الصلاة، لأنه لا يشعر بالألم في هذه الأثناء”.. قد يقول قائل: هذه مبالغة!.. ولكن الجواب: أيهما أعظم جمال الخالق، أم جمال المخلوق؟.. طبعاً جمال الخالق أعظم!.. وفي سورة يوسف، يقول تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}.. وعلي -عليه السلام- رأى جمال الخالق، فهل كثير على علي أن يتفاعل إلى هذه الدرجة؟!..
۳. الإمام الحسن (ع): (كان الإمام الحسن -عليه السلام- أعبد أهل زمانه: حجّ بيت الله ماشيا خمسةً وعشرين حجة.. كان إذا قام للوضوء والصلاة، اصفرّ لونه، وأخذته رجفة من خشية الله، وكان يقول: حقّ على كل من وقف بين يدي رب العرش، أن يصفرّ لونه، وترتعد مفاصله)، هؤلاء كانت تصفر ألوانهم وقت الصلاة، ليس بعض الأوقات، بل دائماً!..
٤. الإمام السجاد (ع): كان إذا حضر الصلاة اقشعر جلده، واصفر لونه، وارتعد كالسعفة، وفي بعض الروايات: نقل أبان بن تغلب إلى الإمام الصادق -عليه السلام- صلاة جدّه الإمام السجاد -عليه السلام- فقال له: “إنّي رأيت عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة، غشي لونه بلون آخر”، فقال له الإمام الصادق -عليه السلام-: (والله إنّ عليّ بن الحسين، كان يعرف الذي يقوم بين يديه…).. كانت أحوالهم تتغير، لأنهم يعرفون بين يدي من يقفون!.. إنه وقت اللقاء مع سلطان السلاطين، مع رب الأرباب!.. فالنبي الأكرم وأوصياؤه، طوال التاريخ هكذا كان ديدنهم!..
صلاة أول الوقت..
إن هناك شخصية كانت تعيش في النجف الأشرف، باسم “السيد علي القاضي”.. تلميذه كانَ ينقل عن أستاذهِ، أنهُ في أواخر عمرهِ عندما أرادَ أن يختصر المسافة، ويلخص فلسفتهُ الأخلاقية، قالَ: (عليكم بصلاة أول الوقت)!.. وقال: “لا أتذكر أنه قال: الصلاة الخاشعة”.. فالصلاة الخاشعة هذه مسألة أخرى!.. البعض يلتزم بصلاة أول الوقت ما دام في الوطن، أما عندما يسافر؛ فيترك ذلك.. فكما أن البعض لا يخجل ويتجاهر بشرب الخمر، كذلك المسلم يجب أن لا يخجل، وهو في الطائرة بإمكانه الصلاة.. حيث هناك مكان خاص للصلاة في الطائرة، يستطيع أن يصلي فيه النافلة، ويؤذن ويقيم؛ ولن يعترض عليه أحد.. فإذا صلى وهو على الكرسي، فقد سقط من عين الله!.. أما إذا مُنع؛ فهذه مسألة ثانية.. المؤمن يشمخ بأنفه أينما كان!.. فإذن، الصلاة في أول الوقت بآدابها وبشرائطها؛ من موجبات القرب من الله تعالى.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.