لا شك في أن الحياة السعيدة، تكون بتبعية السعداء من خلقه، وأي شخصيةٍ أسعد من الذين اتبعوا رضوان الله عز وجل؟!.. النبي -صلى الله عليه وآله- قرن ذكر الحسنين في الفضل وفي المديح، مثل: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، (الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا)، (الحسن والحسين إمامان: قاما، أو قعدا).. فالفضائل المنقولة لهما، كانت بصيغة التثنية.. وهذا أولاً يدل على أنهم في الفضيلة سواء، أما في مقام العمل: فإن ذكر الحسين (عليه السلام) ملأ الآفاق، وذكره مستمر طوال السنة.. وهذا يعني أن الإمام الحسن (عليه السلام) لو كان في موقع الحسين (عليه السلام) لقام بما قام به الحسين (عليه السلام).
إن هنالك رواية من النبي الأعظم (ص) تقول: (الجنة تشتاق إلى أربعة من أهلي، قد أحبهم الله وأمرني بحبهم: علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، والمهدي الذي يصلي خلفه عيسى بن مريم).. فالنبي الأكرم -صلوات الله عليه وعلى آله- أعطى مزية لأربعة من أئمة أهل البيت (ع)، رغم أن الأئمة جميعاً حجج الله على الخلق، وأوصياء النبي (ص).. فذكر ثلاثة من أصحاب الكساء وهم: أمير المؤمنين، والحسن، والحسين (ع) ثم انتقل إلى الإمام المهدي (ع).. فالإمام الجواد (ع) والإمام الهادي والعسكري (ع) أئمة معصومون، ولكن هكذا شاءت الأقدار، أن يعيشوا في هذه الدنيا سنوات محدودة.. أما الإمام المهدي (ع) منذ أن غاب إلى يومنا هذا، وهو يعيش العبادة الفعلية: ليالي قدره، حجه، … الخ.
إن الإمام الحسن (ع) له مزية أخرى عن الإمام الحسين (ع)، رغم أنهما مشتركان في هذه الأوصاف النبوية: أنه كان إماماً لمثل الحسين (ع).. مع الأسف مرتكز في أذهان البعض: أن الإمام الحسن (ع) إمام مُصالح ومُهادن وسلمي، والإمام الحسين (ع) إمام ثائر!.. هذه الثورة وهذه المهادنة حسب الظرف الذي وقعا فيه، وإلا لو كانت الإمامة بيد الحسين (ع) في زمان أخيه الحسن (ع) لكان مع المصالحين، والدليل على ذلك: أن الأعداء لم يسمعوا من الحسين (ع) كلمة واحدة، يُستفاد منها المخالفة، وحاشا له أن يكون كذلك!.. إمامٌ معصوم، كيف يعترض على إمامٍ معصومٍ آخر؟!..
إن الملاحظ من حياة النبي الأكرم (ص) أنه كان في نظر الغير يبالغ، ولا يُقصد هنا المبالغة السلبية، بل بمعنى أنه كان يُكثر من التصرفات الملفتة حول الحسن والحسين (ع).. النبي (ص) مظهر الوقار، فكان لا يُكلم من هيبته، ولكن مع الحسن والحسين (ع) يركبهما على ظهره، ويقول: (نعم الجمل جملكما)!.. وفي رواية أخرى عن أحد الصحابة: (رأيت الحسن والحسين على عاتقي رسول الله فقلت: نعم الفرس لكما!.. فقال رسول الله: ونعم الفارسان هما)!..
وفي موقف آخر -إنه من المعروف أن أقرب ما يكون العبد إلى ربه، وهو ساجد بين يدي الله عز وجل-: النبي أطال من سجوده، فظن المسلمون أن هنالك وحيا نزل، ولكن النبي (ص) بعد أن بين السبب أثار عجب المسلمين حيث قال: (ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته).. عن أحد الصحابة قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو حامل أحد ابنيه الحسن أو الحسين، فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم وضعه عند قدمه اليمنى، فسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي من بين الناس، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساجد، وإذا الغلام راكب على ظهره، فعدت فسجد [ت] فلما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الناس: يا رسول الله، لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها، أفي شيء أمرت به؟.. أو كان يوحى إليك؟.. قال: (كل ذلك لم يكن، إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله، حتى يقضي حاجته).
يا ترى لماذا هذا الاهتمام بالحسن والحسين (ع)؟.. قد يقول قائل: إن هذا من دواعي البنوة.. فالنبي جد، وذريته منحصرة في ابنته الزهراء (ع)، وللزهراء الحسنان.. فمن الطبيعي أن يهتم بحفيديه!..
إن هذا الاعتناء الظاهري، يمكن أن يُفسر بعنوان محبة الأبوة والبنوة، ولكن ماذا نعمل بالروايات التي تربط هذه المحبة بمحبة السماء؟.. في صحيحي مسلم والبخاري يقول: (…سمعت البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنه- قال: رأيت النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- والحسن بن علي على عاتقه، يقول: اللهم!.. إني أحبه فأحبه).. فإذن، إن النبي الأكرم (ص) أراد أن يُبين للمسلمين كأن هنالك شيئا في الأفق: وهذا الشيء هو الجفاء للحسن والحسين (ع)، فهما على رأس خط؛ وهذا الخط يقابله خط آخر.. فالنبي (ص) أراد بهذه التعابير أن يربط الناس بالحسن والحسين (ع) من خلال هذه العلقة القلبية.. ولكن قد يقول قائل: وما قيمة هذا الحب، حتى يقول النبي (ص): إني أحب الحسنين (ع)، ويربط هذا الحب بحبه.. والمسلمون يعرفون أن النبي إذا أحب أحداً، رب العالمين يحبه؟!..
إن الحب عبارة عن ميل في القلب.. والحركة القلبية الميلية؛ هي عبارة عن الحب، والإعراضية؛ عبارة عن البغض.. هذه الحركة القلبية لها مناشئ، منها:
– الحب الشهوي: إن من المناشئ المعروفة هذه الأيام الشهوة؛ بعض الفتيات -مع الأسف- تُغريها بالحرام دعوى: أن فلان يُحبني، وشدة حبه لي جعلته يمرض، أو يترك الدراسة، أو يهيم على وجهه!.. والحال أن هذا الحب حبٌ شهوي، منشأه الشهوة.. والدليل على ذلك:
أولا: لو صار حادث ما، أمكنه أن يتعامل معها تعاملاً شهوياً؛ عندئذ هذا الحب لا يزول فقط، بل يتحول إلى بغض!.. فإذن يُعرف من ذلك: أن الشفيع والواسطة في هذا الحب، كانت هي الغريزة.. ومن هنا نقول: فرقوا بين الحب الصادق، والحب الغريزي.. لعل الحب الإنساني الصادق، كان موجودا بين الناس الأوائل في الغابات؛ ولكن في حياتنا اليوم -كما نعرف- منشأ الحب أغلبه هو الغريزة.
ثانيا: إن الغريزة تنطفئ مع مرور الأيام، والاستمرارية.. فكما قلنا: لكل جديدٍ بهجة، عندئذٍ تتفاجأ هذه المرأة بأن البنيان انهار؛ لأنه كان على أساس الغريزة.. أو مع تقادم الأيام، فلا نُنكر أن بعض الزيجات المبنية على الغريزة، قد تمتد إلى عشر أو عشرين سنة.. ولكن مع أفول وزوال مظاهر الجمال، أيضاً هذا الحب يتلاشى.
فإذن، نريد أن نصل إلى الحب الذي يريده الله ورسوله، تجاه أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم.
– الحب المصلحي: إن من أنواع الحب، ما نسميه بالحب المصلحي.. إن الإنسان كي يأخذ بغيته من الطرف المقابل، مثلا: الشريكان إذا اختلفا، من الممكن أن تختل أمور الشركة بينهما.. لذا فإن أحدهما يلقن نفسه حب الآخر، ويتواضع له، ويتجمل له، ويقدم له الهدايا.. ومن هنا، فإن البعض يقول: هنيئاً للشريكين، اجتمعا في الشركة وفي المحبة!.. ولكن عندما يأتي قرار الفصل لجهة من الجهات، ويرجحان الانفصال، وتصفية الأموال؛ فإن أحدهم لا يسلم على صاحبه، عندما يراه في الطريق!..
لماذا زال هذا الحب؟!.. من الواضح أن هذا الحب كان حبا مصلحيا منفعيا.. ولهذا فإنهم يقولون: إن المدير الناجح، هو الذي يظهر التودد لصاحب العمل، من باب تمشية الأمور.. فإذا استقال وذهب إلى رجل آخر، يكشف فضائح أو أسرار من كان في خدمته!.. هذه طبيعة الحياة، وبالطبع هذا الحب لا قيمة له، فهو حبٌ دنيويٌ؛ وفي المعتقد: أن من صور النفاق أن يُظهر الإنسان وده لأحدٍ؛ طلباً لبعض المصالح والمنافع.
– الحب الوهمي: كأن يتوهم إنسان أن هذا الشخص يستحق الحب، وهذا متفق بعض الأوقات، مثل: إنسان يُعجب بشخصية على أنه شخصية كذائية إيمانية، يحبه لإيمانه، ثم ينكشف له أن هذا كان وهماً باطلاً!..
– الحب العقلي: إن هنالك حبا أعمق: لا هو غريزي، ولا هو مصلحي؛ وهو حبٌ يستقر ويبقى ليوم لقاء الله -عز وجل-، هو ذلك الحب الذي منشأه قناعة باطنية عقلية، أمر به الله -عز وجل- ورسوله (ص).. الحب منشأه الأول الاعتقاد واليقين؛ متى يحب الإنسان شخصاً حباً رسالياً؟.. عندما يتيقن بأن هذا أهلٌ لأن يُحب.
إن الحب يبدأ عقلياً وفكرياً، وهذا الذي نراه بالنسبة إلى رب العالمين.. الإنسان عندما يتفتح ذهنه في الحياة، ويرى النعم الإلهية عليه، يقرأ بعض الكتب المتعلقة بصفات الله -عز وجل-.. فمن ناحية لم يصل إلى البلوغ الكامل، فحب الله -عز وجل- يحتاج إلى قلبٍ بالغ، وهو لم يصل إلى مرحلة البلوغ القلبي.. ولكن من ناحية أخرى، فيه بوادر هذا الحب الإلهي بالممارسة، وبالعبادة.. ومن بين العبادات المورثة للحب الإلهي -كما هو مجرب- قيام الليل، حيث أنه من المعروف أن صلاة الليل تُرسخ هذه المحبة الإلهية.
فإذن، إن القضية تبدأ بالقناعة، ثم تتطور بعدئذٍ، وينقلب إلى أمرٍ قلبي.. والنبي الأكرم (ص) أراد من الأمة هذه المحبة الواعية الرسالية.. إننا نحب الحسن والحسين (ع)، لماذا؟!.. لاعتقادنا بأنهما في أيام حياتهما، كانا يمثلان السبب المتصل بين الأرض والسماء.. هنالك حادثة وقعت في زمن النبي (ص) وعندما نصل إلى هذه الرواية ونزور بعض مشاهد أهل البيت -عليهم السلام- ينقدح في قلوبنا الأمل.. قال الباقر (ع): (أذنب رجل ذنبا في حياة رسول الله (ص)، فتغيّب حتى وجد الحسن والحسين -عليهما السلام- في طريق خال، فأخذهما فاحتملهما على عاتقيه، وأتى بهما النبي (ص)، فقال: يا رسول الله!.. إني مستجير بالله وبهما، فضحك رسول الله (ص) حتى ردّ يده إلى فمه، ثم قال للرجل: اذهب فأنت طليق!.. وقال للحسن والحسين: قد شفّعتكما فيه، أيّ فتيَان؟.. فأنزل الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}).
إن المؤمن الذي يدمن الطاعة، بعد فترة من السير في طريق القرب إلى الله -عز وجل- إذا أذنب ذنباً يرى أن الأرض لا تحتمله، ويريد أن يهرب إلى زاوية لا يراه الله -عز وجل- حياءً وخجلاً؛ فلا يجد هذه الزاوية!.. كمثل السارق الذي تتعقبه الشرطة، ولا مهرب له، حيث أن الأضواء مسلطة عليه، والكاميرات تراقبه وتصوره.. فكم يعيش الخجل، أنه قد كُشف وهو متلبس بالجريمة!.. ولهذا التعبير الدارج يقول: كدت أذوب من الخجل!.. أي لا يبقى لي كيان.. والمؤمن عندما تنفتح بصيرته على عالم الغيب، إذا ارتكب ذنباً؛ فإن حالته كهذا السارق، وكهذا الهارب الذي عُرف أنه مجرم، وهو لا يعلم إلى أين يولي؛ لأنه حُشر في زاويةٍ ضيقة.. ولهذا هنالك شعر في الأخلاقيات يقول: وجودك ذنبٌ لا يقاس به ذنبُ!.. إن الإنسان يعيش هذه الحالة!.. والذي يعيش هذه الحالة، هو في معرض الرحمة الإلهية.. وأفضل تعبير هو دعاء أمير المؤمنين -عليه السلام- في ليلة الجمعة: (ولا يمكن الفرار من حكومتك).
نحن -بعض الأوقات- عندما نقول: يا رسول الله!.. أعطني هذه الحاجة، أو اشفع لي في هذه الحاجة، كما يقول علماء النحو: الضمير مستتر، هذا الصحابي ماذا قال؟.. قال: (إني مستجير بالله وبهما).. هذا الصحابي يعرف أن الاستجارة بالله أولاً، ولهذا لو حلف بالله، وقال: إني مستجيرٌ بهما، يُفهم من القرائن أن الاستجارة بالله أولاً وبالنبي ثانياً.. ولهذا يقول البعض: عندما نذهب لزيارة الرضا (ع) أو أحد أئمة أهل البيت (ع) ماذا أقول؟.. أقول: يا مولاي أعطني؟!.. أو أقول: يا مولاي سل الله تعالى أن يُعطيني هذه الحاجة؟.. كلاهما بمعنى واحد، فالشخص عندما يقول: أعطني هذه الحاجة، فهو في قوة قولك: أي يا مولاي سل الله تعالى أن يعطيني هذه الحاجة.. لعلمنا أنه إلى الله -عز وجل- تصير الأمور، والكل مستمدةٍ من مدده.
إن النتيجة من هذه المقدمة، هي: إن المحبة جسرٌ وصراط للارتباط بمن أحببناه!.. البعض يقول: نحن بحمد الله ورثنا هذه المحبة.. ونلهج بهذا البيت المعروف:
لا عذب الله أمي إنها شــربت حب الوصـي وغـذتـنيه باللبنِ
وكان لي والد يهوى أبا حسنِ فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسنِ
لذا، فإننا ننبه: أنه لا ضمانة لبقاء لهذا الحب!.. هذا الحب إذا بقي إلى يوم لقاء الله -عز وجل- لا نُنكر بأنه رأس مال كبير، ولكن من المعروف أن المعاصي والذنوب، تسلب هذه المودة بالتدريج!.. إلى درجة قد ينظر الإنسان إلى قلبه، فلا يجد مثل هذه المودة والمحبة.. وهذا أمرٌ مجرب: لا ضمانة لبقاء هذا الحب!.. والدليل على ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون}.. هنالك سوء، وهنالك مخالفات.. وعاقبة هذه المخالفات العملية، التكذيب بآيات الله عز وجل.
كم من الجميل في مناسبات الأئمة -عليهم السلام- أن نأخذ من كل معصومٍ الصفة المتميزة فيه!.. وهذا خير إقامةٍ لذكر ذلك الإمام.. أئمتنا كلهم حلماء، ولكن الإمام الحسن (ع) كان معروفاً بصفة الحلم.. دخل سفيان بن أبي ليلى على الحسن (ع) وهو في داره فقال للإمام الحسن: السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين!.. قال: (وما عِلْمُكَ بذلك)؟.. قال: عَمَدْتَ إلى أمرِ الأُمةِ فَخَلَعْتَهُ من عنقك، وقَلَّدْتَه هذا الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله.. تصور أن إنسانا يخاطب إمام زمانه بهذه الكلمة!.. ماذا كان موقف الإمام صلوات الله عليه؟.. كان يحتوي الذين يواجهونه بالكلام الرديء {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.. ولو حكمنا هذه الآية في حياتنا اليومية، لا نبالغ ونقول: لتحولت كل الحياة إلى سعادة!.. ولكن على الأقل لسددنا أبواب الشر على أنفسنا {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.. والله العالم بسرائر وواقع الأمور، أن الذي يدفع بالتي هي أحسن، فإن رب العالمين يتصرف في قلب الطرف المقابل.. كالبعض الذي يشتكي على زوجته، فيتكلم معه المصلح ساعة وساعتين، وإذا به بعد سويعات تنقلب الأمور إلى ما كانت عليه؛ لأن الكلام كان يلامس العقل، ولم يلامس الفؤاد.. ولهذا القرآن الكريم في آيةٍ أخرى يقول: {إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}؛ أي هما أرادا الإصلاح، فيوفق الله بينهما.
إن الذي عنده يأس من صلاح زوجته، والزوجة التي عندها يأس من صلاح زوجها؛ فليعتمدوا على هذا التصرف الإلهي؛ أي لا تيأسا من رَوح الله عز وجل.. في جوف الليل: قم توضأ، وصلّ ركعتين مقتصدتين، وقل: اللهم!.. يا مقلب القلوب، قلب لي قلب فلان!.. هذا الدعاء ليس بمأثور، ولكن لا بأس أن يتكلم الإنسان مع ربه، ويطلب حاجته منه.. والمعروف أنه حتى في القنوت، يجوز أن تدعو بغير العربية؛ إنسان غير عربي ذكر دعاء الفرج، أو (لا إله إلا الله الحليم الكريم) في القنوت.. وعنده حوائج، عنده مشكلة مع زوجته؛ هل يجوز أن يشكو إلى الله -عز وجل- في قنوت صلاته بلغته الإنجليزية مثلاً؟.. نعم، يجوز أن تدعو في القنوت بغير العربية.. تكلم مع رب العالمين، وإذا كان لديك هموم، بثها بلغة وطنك؛ حتى تنطلق في الدعاء.
فإذن، إن من صفات الإمام الحسن (ع) الحلم، وهذه الحالة من السماحة في الخلق؛ تُورث بركات كثيرة.. أحد الشخصيات له بركات عجيبة غريبة -نحن نتمنى أن نكون كأئمتنا -عليهم السلام- ولكن بعض شخصيات المجتمع، الإنسان يغبطهم حقيقةً- هذا الإنسان مقل في العبادات، ولكنه ملتزم بالواجبات الأولية، ومستحباته قليلة.. ولكن هذا الإنسان عجيبٌ في حلمه، له مشكلة عائلية مع زوجته، له زوجة مؤذية وثلاثين سنة لم يؤذيها بكلمة!.. يتحملها على ما فيها؛ قربةً إلى الله عز وجل.. هذا التحمل وهذا الصبر أورثه هذا الكمال!.. يُقال: أن في قديم الأيام أحدهم كان صاحب كرامات، زاره أحدهم فرأى أذى زوجته له فقال: يا فلان، إني وصلت إلى ما وصلت من باب الصبر على زوجتي هذه!.. وبعكس الكلام، لعل بعض المؤمنات أيضاً وصلن إلى ما وصلن من باب الصبر على أزواجهن.
وبمناسبة الإمام الحسن -عليه السلام- دعوة إلى وقف أي قرار عند الغضب!.. فالإنسان عندما يغضب -حتى لو كان الكلام حقاً- هو في دائرة إبليس.. فهو عندما يكون غاضبا، لا يكون الاختيار بيده، وليست السيطرة بيده.. ومن الممكن أن يقول ما لا تحمد عقباه.
قال الإمام الحسن (عليه السلام) في وصف أخ كان له صالح: (كان من أعظم الناس في عيني، صَغُر الدنيا في عينه، كان خارجا من سلطان الجهالة.. فلا يمد يدا إلا على ثقة لمنفعة.. كان لا يشتكي ولا يتسخّط ولا يتبرّم.. كان أكثر دهره صامتا، فإذا قال بذّ القائلين.. كان ضعيفا مستضعفا، فإذا جاء الجدّ فهو الليث عاديا.. كان إذا جامع العلماء على أن يستمع أحرص منه على أن يقول، كان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت، كان لا يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول.. كان إذا عرض له أمران لا يدري أيّهما أقرب إلى ربه، نظر أقربهما من هواه فخالفه، كان لا يلوم أحدا على ما قد يقع العذر في مثله).
فإذن، إن القضية ليست بجزافية، هذا الإنسان عظم في عين الإمام المجتبى؛ لأن الدنيا كانت صغيرة في عينه (كان من أعظم الناس في عيني، صَغُر الدنيا في عينه).. وكذلك لأنه (كان لا يشتكي، ولا يتسخّط، ولا يتبرّم).. إن بعض المؤمنين لا تكاد تجد له كلمة شكر.. بينما المؤمن -كما تعرفون- حزنه في قلبه، وبشره في وجهه.. فالشكوى وبيان الحال، إذا لم يكن فيه فائدة، لماذا يضيع الإنسان الأجر؟.. فليجعل ذلك في قلبه، ويقدم الشكوى لمن بيده مقاليد الأمور!.. إن الإنسان قد يضيق صدره جداً لمشكلة ما، لا بأس أن يشكو لمؤمن!.. قال الصادق (ع): (من شكا إلى مؤمن، فقد شكا إلى الله عزّ وجلّ.. ومن شكا إلى مخالف، فقد شكا الله عزّ وجلّ)؛ إن كان ولا بد، أذكر شكواك لمن يمكن أن يقدم لك حلاً في مصيبتك.
أنظروا إلى الشخص الذي يمدحه الإمام الحسن (عليه السلام): (كان أكثر دهره صامتاً، فإذا قال بذ القائلين).. هذا شيء لطيف: إنسان صامت، ولكن عندما يريد أن يتكلم، يستقطب انتباه الجميع؛ لأنه يتكلم من معدن الحكمة.. (كان ضعيفاً مستضعفاً)؛ مستضعفاً ليس بمعنى قليل العقل، بل بمعنى إنسان بسيط لا يُخاف منه، ولكن (فإذا جاء الجدّ فهو الليث عاديا).. وأخيراً: (كان إذا عرض له أمران لا يدري أيّهما أقرب إلى ربه، نظر أقربهما من هواه فخالفه)؛ أي إذا كان هذا الطريق يخالف هواه، مشى بهذا الطريق.. وهذا هو المقياس في تحقيق القرب من الله عز وجل!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.