الإنسان في خسر..
إن الصلاة فن من الفنون، والذي لا يتقن الحديث مع ربه؛ فهو إنسان أبكم، ولو كان يتكلم بعشرات اللغات، ولديه عشرات التخصصات!.. لذا، لابد من وقفة مع أنفسنا!.. والذي لا يعيد حساباته؛ هو في خسر، وهذه حقيقة قرآنية، يقول تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}.. لو قال: هذا الإنسان يخسر أو خاسر؛ لهان الأمر!.. ولكن قال: {لَفِي خُسْرٍ} فهذا أبلغ وأشد تأكيداً!.. وكأن الخسر إناء، وهذا الإنسان مغموس فيه.. فهذه الآية من أخوف الآيات القرآنية، رغم أنه ليس فيها ذكر لجهنم وللعقارب والزقوم؛ ولكن هذه مقدمة لكل أنواع العذاب.
الأذان والإقامة..
{إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}.. الآية مطلقة؛ أي كل الناس في خسر؛ إلا من خرج بالدليل.. والذين خرجوا دليلهم: الإيمان، وعمل الصالحات، {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات}.. فالإنسان في خسر، إلا إذا أثبت أنه من {الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فأنعم به وأكرم!.. وإلا فهو في إناء الخسران!.. وكذلك من الذين {عَمِلُوا الصَّالِحَات}، لم يقل: عملوا صالحاً، ولم يقل: عملوا صالحات.. وإنما قال: {الصَّالِحَات}.. والجمع المحلى بـ: ال؛ يفيد العموم؛ أي ليس بعض الصالحات.. فالذي يعمل ببعض الصالحات، ويترك بعضها الآخر؛ لا يقال: أنه عمل الصالحات، إذ لابد أن يعمل جميع الصالحات.. والمؤمنون الذين يقومون بالأعمال الصالحة؛ هؤلاء آمنون من الخسر.. أما غير هذه الفئة فهي في خسر!.. وكذلك هناك واجب اجتماعي ينبغي القيام به، ليس فقط يكون زاهداً عابداً في غار أو كهف!.. بل {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.. فهذه هي معادلة الفوز، ومعادلة الربح؛ التي هي عكس الخسران!..
أولاً: التدرج.. إن البعض يستعجل في صلاته، فيحذف بعض المستحبات، مثل: الأذان والإقامة.. ولكن هل يليق بالمصلي أن يأتي من الوضوء مباشرة، فيكبر تكبيرة الإحرام، ويدخل في بحر الصلاة من دون مقدمات؟!.. الصلاة بهذه الكيفية ليست باطلة؛ ولكنها خسارة كبيرة!.. فالإنسان الذي يقف ويؤذن ويقيم، يعيش حالة الاستئذان، كما يفعل الزائر في مراقد أهل البيت -عليهم السلام-، حيث أنه ينتقل من رواق إلى رواق، فيتهيأ نفسياً، حتى يصل إلى القبر المطهر؛ أي أن الإنسان يدخل تدريجياً على المقام الشريف.. وكذلك بالنسبة إلى الصلاة؛ فالله -عز وجل- أراد من الإنسان أن ينتقل إلى لب الصلاة بشكل تدريجي، حيث أن الصلاة الخاشعة تحتاج إلى تمهيد.
وعليه، فإن الأذان والإقامة من المحفزات الكبرى!.. والذي يسمع الأذان ولا يصلي، هذا الإنسان ليس فقط في خسر، بل في خسارات!.. فالمؤذن هو منادي الله -عز وجل- لذلك عندما يسمع الإنسان الأذان يقول: لبيك يا داعي الله!.. في زمان الرسول -صلى الله عليه وآله- كان المؤذن بلال الحبشي، هو الناطق عن الله -عز وجل-.. ولكن الأذان والإقامة، منزلة من قبل رب العالمين، وليس كما يقال بأنها من المنامات، فالصلاة كلها تركيبة إلهية؛ وكذلك الحال مع الأذان والإقامة!.. وهنيئًا للمؤذنين!.. عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)!.. لأنهم بآذانهم دعوا الناس إلى الله عز وجل، ولو يعلم الناس ما في الأذان من الفضل؛ لاقتتلوا على هذا العمل.. ولا مانع أن يؤذن الإنسان في البيت بصوت عالٍ، فهو مطردة للشياطين!..
ثانياً: الهتك العملي.. إن منادي الله -عز وجل- لا يقول: صلّ، بل يقول: حيّ؛ أي عجّل أقبل!.. ففي الأذان هناك: حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل؛ كل عبارة تردد مرتين.. وبعد استراحة قليلة، تأتي الإقامة وتقول ست مرات كالسابق، فرب العالمين يقول: أقبل عليّ -اثنتا عشرة مرة- وأنت تقول في مقام العمل -ولو قلتها بلسانك كفرت بالله-: يا رب!.. أنا لست فارغاً لك الآن، اتركني مع المسلسل، أو مع حرامي.. فالإنسان المشغول بالنظر إلى فيلم محرم، ويسمع الأذان يقول: حي على خير العمل، هو بمقام العمل يقول: هذه الصلاة ليست خير العمل!.. بعض الأوقات لسان الفعل؛ أبلغ من لسان المقال!.. مثلاً: لو دخلت شخصية محترمة إلى مجلس، وأحد الحاضرين لم يقف احتراماً له.. فهناك احتمال أنه لا يستطيع القيام بسبب مرض يعاني منه.. ولكن عرفًا يقال: هذا الإنسان متعمد أن يهين هذا الضيف.. هو في مقام العمل، لم يفعل شيئاً: لم يتكلم بما يسيئ له، ولم يهتكه، ولم يتجاسر عليه؛ ولكن عدم القيام يفهم منه هكذا!.. والذين يصلون في المساجد فرادى والجماعة مقامة، فهم بلسان الحال يقولون: الإمام ليس عادلاً، أو أن قراءته غير صحيحة؛ وهذا هتك عملي لإمام الجماعة.. فكما أن الصلاة فرادى أثناء صلاة الجماعة هتك للإمام، رغم أنه قد يصلي الإنسان فرادى؛ لأنه في عجلة من أمره؛ ولكن في مقام العمل هذا هتك، وإن كان لا يقصد ذلك!.. كذلك عندما لا يقوم الإنسان للصلاة والمؤذن يقول: حيّ على خير العمل!.. فهذا هتك بيّن!.. فالهتك ليس له قواعد مدونة، إنه قضية عرفية!..
ثالثاً: النفور.. إن الذي يؤخر الصلاة من غير علة، ومن غير سبب وجيه، فليعلم أن هنالك نفوراً عملياً بينه وبين الرب: فلو أن الله -عز وجل- يحبه، لقذف في قلبه حب الوقوف بين يديه.. يقول تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ}، وقد جاء أيضاً: (وتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة منه بعدها.. فتوبة العبد بين توبتين من ربه، سابقة ولاحقة، فإنه تاب عليه أولًا إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا، فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانيًا قبولًا وإثابة)، فالإنسان عندما يتوب إلى الله -عز وجل- فليعلم أن هنالك التفاتة إليه من رب العالمين.. وإلا ما الذي ذكّره بالتوبة؟.. وما الذي أجرى له الدمعة؟.. ومن الذي فتح شهيته على الحج أو العمرة، ليذهب ويقف أمام الباب والحطيم ويقول: إلهي!.. عفوك عفوك؟!.. فرب العالمين لو لم يحبه؛ لما فتح ذلك المجال له.. عن العالم -عليه السلام- أنه قال: (إذا دعا المؤمن يقول الله -عزّ وجلّ-: صوتٌ أُحبُّ أن أسمعه اقضوا حاجته، واجعلوها معلّقة بين السماء والأرض، حتى يكثر دعاؤه؛ شوقاً مني إليه.. وإذا دعا الكافر يقول الله -عزّ وجلّ-: صوتٌ أكره سماعه، اقضوا حاجته، وعجّلوها له؛ حتى لا أسمع صوته، ويشتغل بما طلبه عن خشوعه)!..
رابعاً: الصلاة أول الوقت.. إن الأذان والإقامة مقدمتان مهمتان للدخول في بحر الصلاة، والتأمل في جملها، من موجبات الخشوع.. فلو تأمل الإنسان في ملكوت الأذان والإقامة؛ لكان من المستحيل أن لا يصلي في أول الوقت، فالخجل يمنعه من التأخير، والوجل يدفعه للتقديم.. والذي يتركهما تكاسلاً وزهداً فيهما، يعتبر من صور الكسل الذي لا يقبل أبداً.. فالمؤمن عندما يسمع الأذان تتوتر أعصابه، ولا يتحمل إلا وأن يصلي في أي مكان كان، وهذه صفة رسول الله -صلى الله عليه وآله-.. فعن أم المؤمنين عائشة: (كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يحدثنا ونحدثه، ويكلمنا ونكلمه.. فإذا حضرت الصلاة، كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه)؛ لشوقه للصلاة.
وعليه، فإن الإنسان عندما يسمع الأذان والإقامة، يقوم للصلاة أينما كان، إلا إذا منع قهراً، أما غير ذلك فليكن منتصب القامة!.. والمؤمن يتعالى على الآخرين بصلاته، فلا يخجل منها.. هنالك رواية من أروع الروايات!.. يقول النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله-: (يا أبا ذر!.. لا يفقه الرجل كل الفقه؛ حتى يرى الناس في جنب الله -تبارك وتعالى- أمثال الأباعر، ثمّ يرجع إلى نفسه؛ فيكون هو أحقر حاقر لها.. يا أبا ذرّ!.. لا تصيب حقيقة الإيمان، حتى ترى الناس كلهم حمقاء في دينهم، عقلاء في دنياهم).. كيف تكون الناس أباعر، فهذا خلاف خلقنا، لأن الله -تعالى- يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}!.. هذا له تفسير: أي الناس بما هم ناس، الناس بما هم أبدان تمشي؛ شأنهم شأن باقي الدواب.. فلمَ يستحي المصلي من هؤلاء؟.. هؤلاء حيوانات، ولكن حيوانات ناطقة.. فالإنسان بما هو إنسان لا قيمة له، يقول تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}، فإذا سلك طريق الطاعة؛ صار إمام الملائكة، وإلا فهو كالأنعام، وبعبارة أخرى: يقول -عز وجل-: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا}.. الأنعام يوم القيامة قد تشتكي إلى الله -عز وجل- لتشبيههم بالبشر، يقولون: نحن الحيوانات كنا مطيعين، نسلم رقابنا للذبح كي يأكلنا البشر.. وهذا الحمار المسكين الذي يضرب به المثل في البلاهة والذم، قد يحتج أيضاً يوم القيامة على ذلك!.. أحد العلماء رأى يوماً حماراً وعلى ظهره ثقلاً، وقد أوصل هذا الحمل إلى مكان معين، فأخذ هذا العالم بالبكاء.. قال: هذا الحمار أدى المهمة، وقام بوظيفته في الحياة، وأنا العالم هل أديت وظيفتي؟.. هذا الحمار يؤدي دوره بشكل متقن، وأنا الذي أركب عليه، لم أؤدِّ واجبي كما ينبغي!.. وفي حديث للإمام الصادق -عليه السلام-: (أما يستحي أحدكم أن يغنّي على دابته وهي تُسبّح)؟.. يقول تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.. أيهما أشرف المسبح أم المغني؟!..
عند التأمل بهذه الأمور؛ هل يمكن للإنسان أن يرائي بعد ذلك؟.. البعض يقول: كيف نصل لمرحلة الإخلاص؟.. والأصح هو أن نقول: كيف نصل إلى الرياء؟.. فالرياء هو الصعب؛ أما الإخلاص فهذا شيء طبيعي!.. الإنسان المؤمن يصل إلى مرتبة، لا يرى في الوجود أحداً إلا هو!.. فكيف يرائي زيداً من الناس؛ هذا الفاني، هذا الذي لا وزن له؟.. هذا الذي كما قال عنه علي -عليه السلام- (أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة نتنة، وهو فيما بينهما يحمل العذرة).
فإذن، يجب أن يصلي الإنسان صلاة أول الوقت مهما بلغت الظروف!.. مع الأسف البعض يتعذر، بأنه لا يستطيع الصلاة في العمل، لأن ثوبه ربما نجس!.. بل عليه أن يصلي صلاة أول وقت، وليدع هذه الوساوس!.. والبعض يؤجل الصلاة إلى أن يذهب إلى المنزل بحجة الصلاة بتوجه!.. ولكن هل سيصلي بتوجه؟.. فهو بعد أن يصل إلى المنزل، سيكون تعباً، وجائعاً، فيتناول الطعام، ويستريح قليلاً، وإذا به يقوم للصلاة قبل الغروب.. وبذلك يكون الشيطان قد خدعه، قال له: أخّر الصلاة عن أول الوقت حتى تصلي بتوجه، وإذا به يصلي آخر الوقت وبلا توجه!.. يقول بعض العلماء: (وطالب الإقبال يرجي -أي يؤجل- ولا يتخذنه عادة).. فلو دار الأمر بين الصلاة في أول الوقت ولكن بغير خشوع، وبين أن يؤخرها ويصليها بخشوع، فالأولى أن يؤخرها، بشرط أن يكون هنالك سبب يرجح التأخير.. وإن كانت الأرجوزة الفقهية تقول:
تلهج في إياك نستعين *** وأنت غير الله تستعين
النية..
إن النية أمر قلبي؛ لذا قبل أن يدخل الإنسان في بحر الصلاة، يستحب له أن يناجي رب العالمين، ويتحدث إليه، ويصفّي العلاقة مع الله -عز وجل- ويستغفره، ويستعين به.. فهذه المرحلة بين الأذان والإقامة والتكبير؛ مرحلة شيقة، مثل الإنسان الذي يريد أن يسبح في البحر، والبحر هائج؛ فإنه يهيئ نفسه.. لذلك يستحب للإنسان قبل الشروع في الصلاة، أن يلهج ببعض من هذه الأدعية: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}،{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، (يا محسن!.. قد أتاك المسيئ، أنت ربنا المحسن، وأنا عبدك المسيئ.. فتجاوز عن قبيح ما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأجل الأكرم)!.. (ربي!.. أقمها وأدمها، واجعلني من خير صالحي أهلها)، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء}.. فالبعض قبل أن يكبر يناجي ربه، وقد يستدر الدمعة، ثم يقول: الله أكبر!.. ودموعه على خديه.. فهذا ذوق!.. وقضايا الحب لا تحتاج إلى تلقين؛ لأن الذي ينقدح الحب في قلبه، ويصبح عنده ميل للعالم العلوي؛ هذا لا يحتاج إلى كتابات الأخلاقيين والعرفاء وغيرهم.. فالقضية فطرية، والمحب يتحرك تلقائياً، مثلما حدث مع أصحاب سيد الشهداء -عليه السلام-: حبيب، وزهير، وبرير؛ فهؤلاء لم يتخرجوا من مدرسة ولا من جامعة معينة.. إنما الحب هو الذي صهرهم في بوتقة الحسين -عليه السلام-، هذا الحب الذي جعلهم يتمازحون ويضحكون ليلة العاشر (فجعل برُير يضاحك عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن: يا بُرير أتضحك؟.. ما هذه ساعة باطل، فقال برير: “لقد علم قومي أنني ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، وإنما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه.. فو الله!.. ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم ساعة، ثم نعانق الحور العين”).. وذاك الذي ذهب إلى الميدان حاسراً، وقيل له لما ألقى درعه ومغفره: أجننت يا عابس؟!.. فقال: “حب الحسين أجنني”!.. هذا الجنون جعلهم يعيشون منتهى الحب الإلهي!.. وهذا اليقين لم يأت من الجامعة أو الحوزة، ولا من من المطالعات الكثيرة.. لذا، علينا أن نتأسى بهؤلاء!.. فميثم التمار قطع لسانه وهو يلهج بفضائل أمير المؤمنين.. لقد قلّت هذه النماذج المتألقة في عصورنا!.. بل صار هناك قحط، بسبب تطور الحياة.. فهل الكمال هو في ركوب سيارة فارهة، والسكن في منزل فاخر؟.. فهذا كله فانٍ!.. والقبر فيه كفن بسيط يباع بأرخص الأثمان.. فإذن، أين رأس المال الذي نستصحبه في حياتنا؟!..
التكبير..
إن المؤمن قبل تكبيرة الإحرام، يستعد للقاء الإلهي.. فالبعض يتوقف -تقريباً- بمقدار الصلاة الواجبة، ويناجي ربه ويطلب منه الإذن!.. الإنسان عندما يذهب لزيارة المعصوم -عليه السلام-، يستحب أن يستأذن قبل الدخول، فيقول: (.. فإنّي أستأذنُك يا ربِّ أوّلاً، وأستأذنُ رسولَك صلواتُك عليه وآله ثانياً، وأستأذنُ خليفتَك المفروضَ علَيَّ طاعتُه.. أَاَدْخُلُ يا رَسُولَ اللهِ، أَاَدْخُلُ يا حُجَّةَ اللهِ أَاَدْخُلُ يا مَلائِكَةَ اللهِ الْمُقَرَّبينَ الْمُقيمينَ في هذَا الْمَشْهَدِ، فَأذَنْ لي يا مَوْلايَ في الدُّخُولِ أَفْضَلَ ما أَذِنْتَ لأَِحَد مِنْ أَوْلِيائِكَ، فَاِنْ لَمْ أَكُنْ أهْلاً لِذلِكَ فَأَنْتَ أَهْل ٌ لِذلِكَ)؛ فلا يدخل المشهد -خاصة في الزيارة الأولى- إذا لم تنزل الدموع، وكأن هذه علامة الإذن في الدخول.. وكذلك في الصلاة يقف قليلاً، ويقول: يا رب!.. أريد أن أكبّر الآن، هل أذنت لي؟.. وهنيئاً لمن جرت دمعته، فرفع يديه قائلاً: الله أكبر!.. “ويستحب أن يكون التكبير في حال رفع اليدين إلى الأذنين، أو مقابل الوجه، أو إلى النحر، مضمومة الأصابع، حتى الإبهام، والخنصر مستقبلاً بباطنهما القبلة”.
ما معنى (الله أكبر)؟.. الله أكبر من أن نقيسه بالآخرين!.. هل هناك أحد مقابل رب العالمين، كي نقول: بأن الله أكبر منه؟!.. حاشا أن يكون طرفاً للقياس!.. فهل يقال: السيف أمضى من العصا!.. أو يقال: الدر أغلى من حجر!.. ليس هناك وجه للقياس!.. أهناك شيء في قباله؟.. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}!.. الباقي لا يقاس بالفاني، والحي لا يقاس بالميت.. فهل هناك نسبة بين الباقي والفاني؟.. فإذن أكبر من من أي شيء؟!.. الله أكبر من أن يوصف!.. فغاية المدح والثناء أن تعجز عن مدحه!.. عن الإمام الصادق -عليه السلام-: (إذا كبرت فاستصغر ما بين العلا والثريا دون كبريائه، فإن الله إذا اطلع على قلب العبد وهو يكبّر، وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره، قال: يا كاذب!.. أتخدعني، وعزتي وجلالي!.. لأحرمنك حلاوة ذكري، ولأحجبنك عن قربي والمسارّة بمناجاتي).
الاستعاذة..
إن من أسرار الصلاة بعد التكبير، مسألة الاستعاذة.. حيث يستحب للمصلي أن يستعيذ بالله -عز وجل- قبل أن يسمي، وقبل أن يقرأ سورة الحمد والسورة.. لأن الشيطان له رغبة في أن يدخل في كل طاعة من الطاعات؛ فيحاول أن يصرف بصيرة العبد، ويشغله بما يصده عن السبيل.. ولهذا يقول القرآن الكريم: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.. فالله تعالى يأمر عباده بالاستعاذة؛ حتى لا يدخل الشيطان على الخط، وبذلك يسلبهم بعض التوجه.. البعض كلما فتح القرآن يأتيه النعاس حتى لو في وسط النهار، ألا نقرأ: (اللهمّ، إنّي كلما قد تهيأت، وتعبّأت، وقمت الصلاة بين يديك، وناجيتك، ألقيت عليّ نعاساً إذا أنا صلّيت، وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت).. فرب العالمين يؤدبهم بهذه الطريقة!..
وعليه، فإن الإنسان يستعيذ بالله -عز وجل-: إذا قرأ القرآن، وإذا صلى، وإذا تصدق.. وكلما أراد أن يعمل خيراً، يستعيذ بالله -عز وجل- كي لا يصده عن القيام بذلك.. وهذا الشيطان نحن لم نتخذه عدواً، وكل همومنا الجن والسحرة، مع أنّ تلبّس الجنّ مشكوك فيه؛ فهذا فيه وهم في كثير من الحالات.. أما تلبّس الشيطان؛ فهذه حقيقة، قال رسول الله -صلى الله عليه وآله-: (إن الشيطان يجري من ابن آدم، مجرى الدم في العروق).. في بعض النصوص الشيطان له خرطوم كخرطوم الفيل، قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إن الشيطان واضع خرطومه على قلب ابن آدم، فإن هو ذكر الله -تعالى- خنس، وإن نسي الله -تعالى- التقم قلبه)؛ إنه منظرٌ مخيفٌ!.. أو يمكن تشبيهه بالمغذي الذي فيه مخدر، فمادام المغذي موجوداً؛ يبقى الإنسان مخدراً.. لذا لا بد أن يقطع المغذي؛ بذكر الله عز وجل.. كلنا نائمون، أجسادنا مستيقظة تماماً، العيون مفتحة، ولكن أرواحنا في خدر!.. (الناس نيام؛ فإذا ماتوا انتبهوا)؛ ويا لها من انتباهة قاتلة ومزعجة!..
إن الشيطان -هذا المغذي- في شهر رمضان، تكون قطراته أخف، لذا يفتح الإنسان عينه.. ولكن عندما يأتي شهر شوال، يعود للنوم مرة ثانية إلى يوم القيامة.. وعليه، فإن شهر رمضان هو شهر اليقظة، وقد جاء في الكتب الأخلاقية: إن أول شرط للتكامل هو اليقظة، ثم السعي، ثم تأتي منازل السير.. مثل إنسان أغمي عليه، فوقع على مزبلة، ثم أفاق من غيبوبته، فرأى نفسه على هذه المزبلة.. فيركض ويهرب؛ لأنه استيقظ على واقع مؤلم ومرير، فهو ليس نائماً في مزرعة فيها زهور وورود، كي يرجع إلى النوم مرة ثانية.. وهذا أول الفرج، وبعد ذلك لابد له من الهمة للقيام، ثم الحركة، ثم الجدية.. وإذا لم يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من اليقظة في شهر رمضان، فشهر رمضان عقيم لا ثمرة فيه.. والدليل على ذلك: أن رمضانياتنا نسخة مكررة، وصلاتنا ليست بصلاة، وحجنا ليس بحج.. فالبعض في عصر عرفة ينشغل بالطعام والشراب، وفي آخر ساعة يتمتم بالدعاء.. وقس عليه باقي العبادات!.. أليس هذا علامة النوم، وعلامة الإغماء، بل وعلامة الموت!.. نعم، (الناس موتى، وأهل العلم أحياء)، أهل العلم هم الذين يعيشون الاستحضار الإلهي الدائم.. وأهل العلم، هو كل إنسان عرف الطريق، وفتحت له الآفاق!.. نعم كلنا نائمون مغمى علينا، هذا هو الواقع!..
سمع الله لمن حمده..
أولاً: عندما يرفع المصلي رأسه من الركوع يقول: (سمعَ اللهُ لمن حمده)، سمع: فعل ماض.. ولكن العلماء يقولون: “سمعَ” هنا ليس بمعنى سمع، لأن الفعل “سمعَ” لا يحتاج إلى اللام (سمع الله من حمده)، أي هذا الفعل فعل متعدّ وليسَ بلازم.. فإذن لماذا جئنا باللام هنا؟.. يقولون: (سمع الله لمن حمده)؛ بمعنى: أجاب الله لمن حمده وشكره.. والإنسان عندما يصلي، ويحمد الله عز وجل، ويصلي على النبي وآله، ثم يطلب حاجته، ثمَ يختمها بالصلاة؛ فإن هذا الدعاء لا يُرد أبداً!..
ثانياًً: (سمع الله لمن حمده)؛ أي استجابَ!.. ولكن هذه الاستجابة لا يُعلم متى تتم؟.. ربما في الدنيا، أو في البرزخ، وربما تؤجل إلى عرصات القيامة.. رب العالمين هو أدرى بالمصالح، قد يعطي معجلاً وقد يؤجل.. فما دام الإنسان يدعو إلهاً حكيماً عادلاً قريباً، فإنه لا يبالي أبداً!..
السجود..
السجود وما أدراك ما السجود!.. معنى السجود من أدق أسرار الوجود!.. فهو مطار للسفر!.. والمطار قد يكون في الصحراء، فهو في حد نفسه لا قيمة له؛ ولكنه مقدمة للسفر والطيران.. وإذا كان هنالك مطار لعالم الأرواح؛ فمطاره السجود.. البعض له في السجود حالات وحالات، ولا يستعبد أن البعض كان يمضي ليلته في السجود!.. يقول النبي الأعظم -صلى الله عليه وآله- عن المؤمن الذي يقف أمام ربه للصلاة بأن (الصلاة معراج المؤمن)؛ فالذي لا يعيش هذا العروج، هذا إنسان أرضي {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}، هذا الإنسان ليس للطيران، هذا الإنسان للخلود إلى الأرض.. بينما المؤمن عندما يصلي، ليس فقط يطير، بل يصل إلى مرحلةٍ لا يودّ العودة إلى الأرض، قال أمير المؤمنين -عليه السلام-: (لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله، ما سره أن يرفع رأسه من السجود).. وهذا الذي كان عليه أئمة أهل البيت -عليهم السلام-.. رحم الله العلامة الأميني -صاحب كتاب الغدير- عندما ذهب لزيارة الرضا -عليه السلام- فكّر في هدية يقدّمها للرضا -عليه السلام-، فقدّم له في ليلة ألف ركعة.
لماذا سبحان ربي الأعلى في السجود، وسبحان ربي العظيم في الركوع؟..
لقد ورد عن أبي الحسن موسى بن جعفر -عليه السلام- في حديث، قال الراوي -هشام بن الحكم-، قلت له: بأي علة يقال في الركوع: “سبحان ربي العظيم وبحمده”، ويقال في السجود: “سبحان ربي الأعلى وبحمده”، فقال عليه السلام: (يا هشام، إن رسول الله -صلى الله عليه وآله- لما أسري به، وصلى، وذكر ما رأى من عظمة الله؛ ارتعدت فرائصه.. فابترك على ركبتيه وأخذ يقول: “سبحان ربي العظيم وبحمده”.. فلما اعتدل من ركوعه قائماًً، نظر إليه في موضع أعلى من ذلك الموضع؛ خرّ على وجهه وهو يقول: “سبحان ربي الأعلى وبحمده”، فلما قالها سبع مراتٍ سكن ذلك الرعب).
التشهد والتسليم..
إن الذي يصلي صلاة بغير توجه، هذه الصلاة لها تعويض.. والتعويض هو في إتقان التشهد والتسليم؛ اعتذاراً وتعويضاً.. مثلاً: لو جاء مرجع تقليد لزيارة إنسان، وكان في ضيافته.. وهذا الإنسان لم يعتن به أثناء هذه الزيارة!.. ولكن يوم السفر قبل يدي المرجع، واعتذر منه على التقصير؛ فإنه يسامحه، ويغفر له تقصيره.
(السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته).. هنا معنى ولائي كبير وعظيم!.. نحن في الصلاة مع رب العالمين، ومع ذلك نسلّم على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.. إن المصلي في حديث مع الرب، فإذا التفت إلى عبد ذلك الرب، وإلى رسول ذلك الرب، بأمر من الله عز وجل، فما المانع من ذلك؟.. فإذن، إن الخضوع للنبي وآل النبي، إذا كان بأمر الله -عز وجل- فهو خضوع لله -عز وجل- مادام الأمر صادراً من رب العالمين.. وإن كان ظاهر الأمر هو السلام على النبي.. بل أن المصلي في سجدتي السهو يقول: (بسم الله، وبالله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته).. هذه الأمور ليس فيها اثنينية، الذي لا يفهم حقيقة الولاية، يرى وكأن هنالك عالمين متناقضين، وكأن الولاية والتوحيد ضرتان لا تجتمعان!.. والحقيقة هي أنهما طريق واحد.
فإذن، من المهم جداً إتقان التشهد والتسليم، يحاول الإنسان أن يستجمع أفكاره؛ لأنه لو استجيب له في عبارات التسليم؛ لكان أثرى أثرياء الوجود!.. لو قال: (السلام عليك أيها النبي)، ووصل سلامه للرسول -صلى الله عليه وآله-.. ولو قال: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، ووصل سلامه إلى آدم وإبراهيم وموسى وعيسى .. الخ.. ولو قال: (السلام عليكم ورحمة الله)، ووصل سلامه لجميع الأولياء والصالحين.. فإن كل هؤلاء سيردون له التحية لأن الله -تعالى- يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.. وسيصله مليارات من السلام، من الأنبياء، والأئمة، والصالحين!.. ويا لها من ثروة!.. يفاجأ في دفتر أعماله أن مليارات الصلوات من الأنبياء، تنهمر عليه في صلاة المغرب مثلاً.. فكيف بباقي الصلوات؟!.. فإذن، التشهد والتسليم نعم التعويض!.. لذا، علينا أن نستفيد من ذلك؛ فكلنا مفلسون، لا نعوّل على قيامنا، ولا على صيامنا، ولا على صلاتنا!..
تسبيحات الزهراء (ع)..
إن تسبيحات فاطمة الزهراء -عليها السلام- تساوي ألف ركعة، كما في حديث الإمام الصادق -عليه السلام-: «تسبيح فاطمة -عليها السلام- في كل يوم في دبر كل صلاة، أحب إليّ من صلاة ألف ركعة في كل يوم».. وروي عن الإمام الباقر -عليه السلام- أنه قال: «ما عُبد اللَّه بشيء من التحميد؛ أفضل من تسبيح فاطمة!.. ولو كان شيء أفضل منه؛ لنحلهُ رسول اللَّه (ص) فاطمة (ع)».. هذه التسبيحات العظيمة هي هدية رسول الله -صلى الله عليه وآله- لحبيبته فاطمة.. بحسب الظاهر، بنت حاكم أكبر حضارة على وجه الأرض، وإذا بها تحتاج إلى خادمة.. استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها؛ فأصابها من ذلك ضرر شديد.. فذهبت إلى رسول الله تطلب خادمة.. ولكن رسول الله -صلى الله عليه وآله-لم يستجب لطلب فاطمة، وعوضها بهذه التسبيحة.. فهذه تسبيحات عظيمة عند الله -عز وجل- تخرق العرش، هذه هدية الزهراء للأمة.. ومع ذلك البعض يؤديها بطريقة لا تليق بها!.. بينما ينبغي الخشوع عند إتيان هذا المستحب، فهذه التسبيحات فيها مضامين توحيدية!.. فإذن، في تسبيحات الزهراء، اجتمع الرافدان: رافد المحبة الفاطمية والولاية المحمدية، والتوحيد لله -عز وجل-.. ذكر توحيدي محض، خرج من باب النبي، ودخل دار الزهراء ومنه شعت.
شعَّت فلا الشمس تحكيها ولا القمرُ *** زهراءُ من نورها الأكوانُ تزدهرُ
هذه التركة العظيمة هكذا نعاملها في مقام العمل!.. البعض في موضوع السنن والمستحبات والواجبات، يحسب بالثواني، بينما القرآن الكريم يقول: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}!.. كلنا في خسر، ويا له من حسرة عظيمة!.. فيوم القيامة، هو يوم الحسرة والندامة: ما من إنسان -غير المعصومين- إلا وهو نادم يوم القيامة، فبمجرد أن يموت تبدأ ندامته: إن كان مطيعاً يندم؛ لأنه لم يطع أكثر!.. وإن كان عاصياً يندم؛ لأنه عصا!.. وهذه الندامة تبدأ من أول ليلة في القبر، ولا تنتهي إلا عند دخول الجنة.. فرب العالمين يُنسي بني آدم المزعجات، {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}.. الغل مزعج في الجنة، وكذلك الحسرة مزعجة!.. لذا هناك احتمال قوي جداً، أن رب العالمين ينسينا ذلك، ولا يبقي هذه الحسرة في نفوسنا.. لأنه لو دخل الإنسان الجنة، وتذكر تاريخه الماضي، وأين كان يفترض أن يكون؛ لما استمتع أحدٌ لا بحورٍ ولا بقصورٍ.. مثلاً: لو كشف الغطاء للجندي وقيل له: أنت كان ملفك مرشحًا؛ لأن تكون عقيداً في الجيش، ولكن لضعفك، ولتخاذلك، وتكاسلك؛ بقيت ملازماً، إذا قيل له هكذا ربما يموت من الغم والهم!.. نعم يوم القيامة تبلى السرائر، وتنكشف الملفات، ومن الممكن أن يُعطى الإنسان ملفين: ملف افتراضي، وملف حقيقي، يقال له: هذا ملفك الحقيقي، وهذا الملف الذي كان من المفروض أن تكون فيه.. فينظر وإذا بينهما بعد المشرقين!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.