إن النظر من موجبات تشويش الباطن، الإنسان الذي لا يضبط نظره ولا يضبط قوله أي أنه مبتلى بفضول النظر وفضول السمع.. هذا الإنسان من الممكن أن يفقد كثيرا من البركات الإلهية في هذا المجال.. هنالك عقوبات في مقابل المخالفات، وهنالك بركات تُفقد في مقابل بعض المخالفات حتى غير المحرمة؛ فكيف بالمخالفات التي هي محرمة؟!.. ومنها النظر.. ومن الروايات التي تبعث الأمل في نفوس المؤمنين، أن الله -عز وجل- يُكافئ المؤمن في دار الدنيا عندما يُجاهد نفسه بغض البصر.. وكلما كانت المجاهدة أعظم وأعمق وأصعب، كلما كان العطاء أكبر.. فرق بين إنسان كبير السن يغض بصره، وبين شاب أعزب في خلوة، في منطقة نائية وهو يجاهد نفسه.
إن بعض هذه المجاهدات القاسية على النفس، من الممكن أن تفتح الآفاق الكبرى للإنسان.. لعل نظره فيها مجاهدة، وفيها معاناة في يوم من الأيام، من الممكن أن يعطي الإنسان درجات عالية، منها هذه الرواية: (من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء، لم يرتد إليه بصره حتى يزوجه الله من الحور العين).
أولاً: (فرفع بصره إلى السماء)، أو أغمض بصره له طريقان: إما أن يصرف النظر عن هذه المرأة، بأن يرى زاوية أخرى.. وبطبيعة الإنسان أنه من الممكن أن يُحدق في جهة، ولا يلتفت إلى تلك الجهة؛ يعني ينظر نظرة بريئة، وإما أن يغمض بصره أي يغض بصره فلا ينظر إلى هذا الحرام.
ثانياً: التعبير (يزوجه الله من الحور العين) من الممكن أن نقول: لعل هذه حورية متميزة؛ لأن الحور في الجنة كثير نابتات على ضفاف أنهار الجنة كما يُفهم من بعض الروايات، عن الصادق (ع): (… إن في الجنة نهرا في حافتيه جوار نابتات، إذا مر المؤمن بجارية أعجبته قلعها، وأنبت الله عز وجل مكانها أخرى).. في الواقع هذا تزويج إلهي لعبده المؤمن.
قد يقول قائل: هذا في الحياة الأخرى، هل لنا جائزة في الحياة الدنيا حتى نجمع خير الدنيا والآخرة؟.. نعم هنالك جائزة أخرى يقولها الإمام الصادق (ع) هذا لطلاب الحور والقصور والغلمان، وأما من أراد المقامات العليا فليلتفت إلى هذه الرواية: (ما اعتصم أحد بمثل ما اعتصم بغض البصر، فإن البصر لا يغض عن محارم الله؛ إلا و قد سبق إلى قلبه مشاهدة العظمة والجلال).. هذا من خواص رب العالمين، يعطي البعض الحور، ومن الممكن أن يُعطي البعض هذه الدرجة العالية.
إن هناك فرقا بين إنسان ينظر إلى امرأة أجنبية تمر وينتهي المشهد، وليس لذلك إلا الحسرة والندامة.. -عادة المؤمنون هذه الأيام عندما يرتكبون ذنباً، بعض الأوقات وهو يرتكب الحرام يعيش وخز الضمير.. وقد يصف نفسه بأوصاف مزعجة: القلق، والاضطراب، والاكتئاب، وكراهة الذات!.. ولعل البعض يضرب نفسه مباشرةً عندما يرتكب الحرام-!.. وبين إنسان غض بصره، فأعطي هذه الجائزة العظيمة (مشاهدة العظمة والجلال).
إن القضية قضية مهمة؛ قد يقول البعض: إن هذه من ضرائب القرن العشرين أو الواحد والعشرين، يا ليتنا كنا في زمن النبي والأئمة (ع ) فنرتاح من هذه الفضائيات والإنترنت وغيره!.. ولكن الجواب هو: أن هذه المصيبة كانت منذ قدم الأيام، زليخا منذ آلاف السنين عملت ما عملت من الإغراء، غلقت الأبواب وقالت: هيت لك، ثم جاءت بالنسوة ثم خرج يوسف فقطعن أيديهن.. هذه طبيعة التجاذب البشري.
وقعت قضية في زمن أمير المؤمنين (ع) مما يدل على أن هذه القضية كانت تحدث طوال التأريخ، طالما الرجل رجل والمرأة امرأة؛ فإن التجاذب الأنثوي موجود دائماً.. (روي أنه (ع) كان جالسا في أصحابه إذ مرت به امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال (ع): إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هبابها.. فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه، فليلمس أهله فإنما هي امرأة كامرأة.. فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافرا ما أفقهه!.. فوثب القوم إليه ليقتلوه، فقال (ع): رويدا إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب).. سبب هبابها فُسر بسبب هلاكها، أي من هناك يأتي الهلاك، أن الإنسان لا يضبط بصره.
هي نظرة، ثم تفاعل إنساني، ثم تعلق قلبي، وبعد التعلق القلبي هنالك هيام القلب المتيم.. والإنسان في بعض الأوقات يقوم بأعمال غير عقلائية، والسبب في ذلك هي هذه النظرة الأولى.. وأمير المؤمنين يطرح الحل في قوله: (فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه، فليلمس أهله فإنما هي امرأة كامرأة).. النساء صحيح مختلفات في الثقافة والتفكير وما شابه ذلك، ولكن في هذه الناحية وإشباع الغريزة الاختلافات بسيطة في هذا المجال.
كان هنالك رجل يرغب في النساء، فعملت له زوجته سلة من البيض المسلوق ولونتها بألوان مختلفة، ثم طلبت منه أن يقشر هذا البيض.. فكان يقشر ويأكل، فقالت له: هل رأيت فرقاً بين هذا البيض؟!.. قال: لا، قالت: النساء كذلك.. الظواهر مختلفة، والبواطن واحدة.
هنيئا لإنسان أدمن عدم النظر المحرم!.. نقلا عن أحد المراجع الكبار: رجل كبير السن طلب من الله -عز وجل- قبيل وفاته أن يُحسن ضيافته في عالم البرزخ، فقال وهو يناجي ربه: منذ عرفت يميني من شمالي، ما عصيتك عامداً.. فلننظر إلى فخامة هذا التعبير!.. نعم هنالك قوم منذ أن عرفوا يمينهم من شمالهم، كما قال هذا الرجل ما عصوا الله عن عمد.. لم يعرف الحرام وارتكبه، مسألة أخرى.
إذا أدمن الإنسان عدم النظر إلى الحرام، هل يمتلك ما يُقال في عرف بعض الأخلاقيين: بالعين البرزخية؟.. والمراد بالعين البرزخية: الإنسان الذي ينظر إلى الشيء، فيعرف بواطن الأمور، كما ورد في الرواية: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله).. أحد العلماء الكبار يقول: ما قيمت أحدا طوال حياتي بتقييم، إلا وفقني الله -عز وجل- وكان تقييمي صحيحاً.. ليكن من المعلوم الذي يُقيم الناس، ويعرف بعض الأسرار الباطنية، إياه وإياه أن يُفشي هذا السر!.. لأن الذي يعرف الشيء ثم يبديه، إنسان مذنب وعاص، حتى لو كانت له قدرة على فهم الأمور.. طالما كان يكشف أسرار الناس، فهذا إنسان لا قيمة له إنسان ساقط.. قد يستغرب البعض من ذلك، ولكن نحن لا نعلم، قد يكون له ارتباط ما، فالأرواح لها قدرات عجيبة.. إذهبوا إلى بلاد الهند في قرى المرتاضين ترون الأعاجيب!.. هذا الأمر لا ننفيه، كما ذرة اليورانيوم لها قدرة تفجير عظمى، في الوجود الأرواح ليست بأقل من تفجيرات اليورانيوم.. السؤال هو أن الإنسان ممكن أن يصل إلى هذه المنزلة أم لا؟..
الجواب: القرآن الكريم يعبر عن هذه النظرة الباطنية بتعبير الملكوت.. الإنسان في بعض الحالات يصل إلى درجة، ينظر إلى ملكوت الأشياء، ومنهم إبراهيم (ع)، كان ينظر إلى ملكوت السماوات والأرض: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}.. قد يقول قائل: إن هذه المزية لإبراهيم، ما هي البشارة لنا نحن المستضعفين دعنا عن الأنبياء والأوصياء؟..
نعم، القرآن الكريم يقول: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}.. هذا الحديث غير مخصص للأنبياء ولا للمرسلين فقط، هذا خطاب لنا جميعاً.
كيف نصل إلى ملكوت الأشياء؟..
إن الحديث عن الملكوت، حديث تخصصي يحتاج إلى شرح: ما الفرق بين الملك والملكوت؟.. ما الفرق بين الطاغية والطاغوت؟.. فهو في اللغة العربية يُسمى مصدر وفيه مبالغة وتأكيد.. الإنسان الذي يصل إلى ملكوت الأشياء بعبارة فنية بلاغية: يرى الجهة المرتبطة بالله عز وجل.. كيف يرى الجهة المرتبطة بالله عز وجل؟.. الجهة التي هي بعده الله -عز وجل- مباشرةً.. عندما يحدث الخسوف، الناس يرون الخسوف بأعينهم، وبالمناظير والرادارات.. البعض رأى هذا الظاهر، لكن البعض رأى الملكوت.
ما هو الملكوت؟..
أي أنه رأى هذه النسبة إلى الله -عز وجل- كرةٌ بعنوان الشمس، وكرةٌ بعنوان القمر.. ملايين الأطنان تدور حول محور معين آلاف السنين، لم يتغير هذا المحور وهذا النظام!.. من الذي يُمسك هذه الكواكب وهذه المجرات؟.. إن هناك إلا تلك اليد الإلهية، تُحرك هذا الوجود، سمها الجاذبية الكونية.. ولكن من الذي أودع هذه الجاذبية الكونية في العالم؟.. المؤمن عندما ينظر إلى الأشياء، ينظر إلى نسبتها إلى رب العالمين، والكافر ذلك الذي احترق في الفضاء، ذهب في غلاف الكرة الأرضية ثم رجع وقال: ما رأيت رب العالمين!.. فرقٌ بين هذا الإنسان السخيف وهو عالم يرتفع في الفضاء ويسبح في الفضاء، ولكن عينه مغلقة، ليس فقط العين البرزخية حتى العين العقلانية.. المؤمن عندما ينظر إلى الشيء، ينظر باعتبار نسبة الشيء إلى الله -عز وجل- فيخشع.. إن المصلي يسجد على التربة الحسينية، وجزيئات هذه التربة كأي قطعة من التراب، كم فيها من الذرات والبروتونات والإلكترونات.. هنالك وجودٌ يُسبح أمامه وتحت جبهته، وهو يسجد على هذه التربة، وفكره يسيح يميناً وشمالاً.. الإنسان يُذهل عندما يرى نسبة الأشياء إلى الله -عز وجل- ولهذا المؤمن كلما توغل في عالم الطبيعة، كلما زاد ارتباطه برب العالمين.. أحد الأطباء في بلاد الغرب قال: صليت في عمري ركعتين، هما أفضل صلاة صلاها في حياته، عندما كان طالباً في أول سنوات الطب، حيث هناك مادة التشريح، عندما دخل المشرحة لأول مرة، ورأى باطن بني آدم انتابه الذهول.. فطلب من الدكتور المشرف، أن يسمح له في الخروج من المشرحة.. فظن أنه حدثت لي حالة من حالات الاضطراب وما شابه ذلك، ولكنه خرج من المشرحة كي يصلي لله ركعتين شكراً على نعمة إتقان الوجود، ما هذا الوجود المتقن في باطن بني آدم، لعله ما صلى بعد ذلك كهاتين الركعتين!..
فإذن، إن الملكوت هي أن ينظر الإنسان إلى الأشياء على أنها بيد الله، وعندئذ يرى الوجود منسجماً معه، لا يخاف من الأشياء لأن نواة الأمور كلها بيد رب العالمين.
ومن هنا أربط الحديث بالسعادة الزوجية، إذا كان القمر الصامت الجامد، يرمز إلى الله -عز وجل- عندما رأى إبراهيم (ع) الكوكب وهو من الآفلين، {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.. وعلى الأرجح أنه كان تمثيل لإبراهيم من باب أن يُفهم الناس حقيقة زوال الأشياء.. الشاهد أن إبراهيم (ع) انتقل من الآفلين إلى رب العالمين.. الإنسان عندما ينظر إلى زوجته، فلينظر على أنها آية من آيات الله، ووجودٌ مرتبط بالله -عز وجل- ومخلوقةٌ لله أمانةٌ إلهية.. وهكذا العكس المرأة أيضاً تنظر إلى الرجل إلى أنه عبد مخلوق.. مع الأسف الروايات المتعلقة بالمؤمنين، كأنها خارجة عن دائرة النساء، والمرأة عندما تسمع حديث (من قضى لأخيه المؤمن حاجة، قضى الله له يوم القيامة مائة ألف حاجة)؛ كأن المقصود هو المؤمن الأجنبي، الذي في الشارع، أو في مكانٍ بعيد!.. بينما هذا الزوج رجل مؤمن، والمرأة عندما تعد له طعاماً، أو ما شابه ذلك، بنية خدمة المؤمن؛ فإن مطبخها يتحول إلى معبدها ومسجدها.. ولطالما تعبت عمراً طويلاً بلا هذه النية، ولم تحصل على أي شيء، يقال لها يوم القيامة: ما عملت لأجل التودد إلى الزوج، ولإطعام الأولاد، تطلبين منا الأجرة أجرتك على الزوج.. إذهبي للزوج وخذي منه الأجرة، وهي في عرصات القيامة تبحث عن الزوج: يا فلان، أنا التي طبخت، أنا التي كنست.. وإذا به يفر، نعم {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}.. لا يريد أن يواجه المرأة كيلا تطالبه بشيء.
فإذن، إن الثمرة العملية من هذا الحديث: أن نحاول ربط الحياة الزوجية برب العالمين.
إن آية {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} صدر الآية فيها الرجال قوامون على النساء، طبعاً بما فضل الله، وبما أنفقوا.. ثم في نفس الآية بعد فقرات، بعض الناس يقرأ الآية صدراً ولا يقرأ الآية ذيلاً، فلا يفهم الآية حق الفهم.. ختام هذه الآية تقول: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}؛ أيتها المرأة الصالحة كوني قانتة، وكوني مطيعة، وكوني حافظة للرجل في غيابه.. ولكن ليس من باب إكراماً لعيني الرجل، بما حفظ الله -عز وجل- رب العالمين أمركِ بالحفظ.. أنتِ عندما تحفظين الزوج، وتطيعين الزوج؛ لا بعنوانه زيد بن أرقم، وإنما بعنوان من أعطي له هذا الحق.
إن عصرنا عصر الانحراف الأخلاقي، من منا مبتلى بالقتل أو بالسرقة؟!.. عصرنا عصر الشهوات.. الشهوات لها مدخل، ولها باب، ومدخلها العين.. فمن غض بصره أراح قلبه؛ لأن هذا القلب ليس فيه أية صورة، هناك من المؤمنين حتى من أنصاف المؤمنين، لا من الذين وصلوا إلى مراتب التقوى والورع، على درجة من النزاهة أنه لا يوجد في ذهنه امرأة من غير المحارم!.. لا يجد في ألبوم فكره امرأة أجنبية.. هنالك فرق بينه وبين من ذهنه يغص بالعشرات من الممثلات والراقصات وغير ذلك.. ولا يكتفي بذلك، بل يعلق على جدران غرفته هذه الصور التي لا معنى لها.
فإذن، إن الحل هو في التخلص من هذه المشكلة، وذلك بغض البصر.. هناك وعد إلهي، أن المؤمن إذا تزوج، فإن الله -عز وجل- يتكفل برزقه، وهذا وعد من الله -عز وجل-: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.. هذه الأيام الحكومات تعد الشعب بوعد قبل أن يُنفذ الإنسان، يُبرمج حاله على أساس هذا الوعد.. بل لو أن تاجراً يهودياً أو نصرانياً غير مسلم قال: يا فلان لك عندي هذا المبلغ الشهري، وكان إنساناً كريماً منضبطا، تطمئن إلى وعده.. ورب العالمين في كتابه الكريم يعد العازب: أنك إذا تزوجت فإنه -عز وجل- سوف يغنيك من فضله، وفي هذا المجال هنالك عدة أسئلة وأجوبة:
أولاً: لماذا رب العالمين يعد بذلك؟..
الجواب: يعد بذلك لأنك أضفت إلى دائرتك إنسانة مؤمنة، رب العالمين يجعل رزقها في ملفك.. هي كانت في بيت أبيها، تأكل من مال أبيها.. الآن تزوجت وأصبحت في كفالتك، رب العالمين يضيف رزقها إلى ملف رزقك.
ثانياً: يقول البعض: نحن تزوجنا ليس فقط لم يأت الرزق، وإنما زدنا خسارة: كان عندي شركة أو محل بسيط، ومنذ تزوجت الخسائر تتلو الخسائر، أليس هذا عكس قول الله عز وجل: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}؟..
هنالك جوابان لهذا السؤال: هذه المشكلة تأتي حتى في صلاة الليل.. قال الإمام الصادق (ع): (إن الرجل ليكذب الكذبة فيُحرم بها صلاة الليل، فإذا حُرم صلاة الليل حُرم بها الرزق)، وقال أمير المؤمنين (ع): (واطلبوا الرزق فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإنه أسرع في طلب الرزق من الضرب في الأرض)، وعن النبي (ص): (من أراد أن يوسع الله في رزقه، فليؤمن هذا البيت).. أين هذا الرزق الواسع؟..
الإجابة بشكل عام على كل هذه الشبهات في هذه الموارد:
أولاً: إن رب العالمين كتب لك الرزق، صليت صلاة الليل فوسع في رزقك.. ولكن التفت إلى الموانع أيضاً.. فعندما تقرر الوزارة أن ترفع رواتب الموظفين ٥٠% ولكنك أنت الموظف في هذا الشهر، تغيبت غياباً غير مبرر عشرة أيام؛ في الواقع يساوي تلك العلاوة، بل يأخذ من معاشك أيضاً.. أنت لا تنظر للمقتضي، أنظر للمانع أيضاً.. رب العالمين يوسع في الرزق، يكتب لك الرزق الواسع، ولكن المعاصي من مضيقات الرزق، في الرواية إشارة لذلك: (إن الرجل ليكذب الكذبة فيُحرم بها صلاة الليل، فإذا حُرم صلاة الليل حُرم بها الرزق).. بين الطلوعين كُتب له في هذا اليوم مثلاً ألف دينار، ولكن نام بين الطلوعين، فهذه الألف أُزيحت من طريقه.
إن رب العالمين وعد، ولكن الوعد ليس مفتوحاً.. الوعد له ضوابط، وله قواعد.. ومن هنا نحن نقول للمؤمنين: فعلى المؤمن عندما يتزوج، أن يعاهد رب العالمين مع زوجته، أن لا يعصيا رب العالمين من أول ليلة.. والحال أن بعض المعاصي الكبار تقع في الليلة الأولى فقط.. كالفرق الغنائية المحرمة؟.. وعدم الاحتشام، والحركات غير اللائقة، والتزيين أمام الأجانب؛ والعذر الذي يقدم هو: أنها ليلة العمر!.. هي ليلة واحدة ولا تتكرر، فرفع القلم!.. البعض يقول: الفرحة للزوج، والإثم للناس والنساء الأجنبيات، ماذا كسبت غير الوزر في تلك الليلة؟..
إن حياة تُبتنى من أول ليلة على الحرام، وليته هو الذي ارتكب الحرام تلك الليلة يدعو الناس للحرام أيضاً.. هو الذي أقام المجلس، هو الذي دعا للفسوق يا لها من جريمة!.. ثم يقول: ولدي خرج معوقاً، أو خرج عاقاً، ولدي ما بورك فيه!.. وزوجتي تطلقت بعد شهرين.. من الطبيعي أن رب العالمين لا يُبارك في هكذا عيشة تبتدئ بالحرام.
ثانياً: إن شاء الله هذا الجواب يريح الجميع إلى يوم القيامة، لماذا دائما يُربط الرزق بالمال؟!.. الرزق هل يعني المال؟.. الرزق معنى عام جداً، المال آخر قائمة الأرزاق.. ما رُزق الإنسان بعد الإيمان، أفضل من زوجة صالحة.. هكذا في مضمون الروايات.. الزوجة الصالحة تُنجب لك ذرية صالحة، يا لها من نعمة!.. المال يأتي في آخر هذه القائمة.
فإذن، {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}؛ ليس معنى ذلك أن المباركة دائما في الأموال، أحد المراجع الكبار الذي تربى على يده مراجع كبار، أبوه كان فلاحاً مزارعاً بسيطاً.. كان عقيماً لا تأتيه الذرية، قال: يا رب هب لي من لدنك ذرية طيبة، أنا أحتاج إلى ولد.. انعقدت نطفته، وإذا به ليس بعالم، وإنما هو أستاذ الفقهاء والمجتهدين.. لعله عاش إلى آخر عمره فقيراً، ولكن أنظروا إلى التعويض!.. ولو أن الإنسان ظهر بمظهر الساعي في الرزق.. ليت هذه الرواية تُعلق في متاجر المؤمنين!.. وقد روى المشايخ الثلاثة عن سدير الصيرفي، قال: (قلت لأبي عبد الله: أي شيء على الرجل في طلب الرزق؟.. قال: إذا فتحت بابك وبسطت بساطك، فقد قضيت ما عليك).. البعض عندما يسمع بانخفاض أسعار الأسهم، تنتابه نوبة قلبية!.. فعملاً بالرواية: أفتح الباب، وأبسط ما عندك من بضاعة.. فأنت إنسان مترزق، والله -عز وجل- سيأتيك بالرزق الوفير.
الخلاصة: إن المؤمن بغضه لنظره ولجوارحه، من الممكن أن يصل إلى الدرجات العالية من التقوى، وانكشاف ملكوت السماوات والأرض، ومنها ملكوت الحياة الزوجية.. وكيف أن الزوجة أمانة إلهية، وكيف أن الزوج أيضاً أمانة إلهية بيد الزوجة.. وهنيئاً لمن أدى حق هذه الأمانة!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.