- ThePlus Audio
اللهو واللغو في الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف اللهو واللغو
اللغو هو كل فعل أو قول يصدر من الإنسان لا ينتفع به في دينه أو دنياه. واللهو هو اللغو بالإضافة إلى حالة من حالة الانشغال والتلهي عن كل ما يحقق للإنسان العبودية الكاملة لله عز وجل.
مدينة الملاهي
ولا ينفك الكثير من البشر منذ قرون بعيدة وإلى يومنا هذا عن الاشتغال باللهو واللغو؛ على الرغم من أنهما من الأمور المذمومة عقلا وشرعا. ولو راجعنا الكثير من الآيات القرآنية نجد أن الله عز وجل يذم اللاهين اللاغين. وفي زماننا هذا نرى أنه تم تخصيص أماكن ومساحات كبيرة لهذا الغرض تحت عنوان: مدينة الملاهي. وهي أماكن تسلب من المؤمن وقاره إن دخل إليها أو انشغل ببعض ما فيها. وماذا سيكون جواب المؤمن يوم القيامة لو أتاه ملك الموت وهو في مدينة الملاهي مع قوم لاهين؟!
ساعات اللهو واللغو في حياتنا
ومما لا ريب فيه أن اللهو واللغو من الظواهر الأصيلة في حياتنا. ولو فتش الإنسان في حياته عن ساعات الجد لوجدها ساعات قليلة جدا. ولا نعني بساعات الجد؛ تلك الساعات التي يقضيها الإنسان في أعماله اليومية بحثا عن الرزق ومتطلبات الحياة؛ إذ لو علم أن الرزق يأتيه وهو نائم في فراشه لفضل النوم على السعي؛ لأنه أوفق لمزاجه. وإنما نعني بساعات الجد؛ تلك الساعات التي يعيش فيها الإنسان هدف الخلقة والوجود وهو المثول بين يدي الله عز وجل والامتثال لأوامره. ولهذا لا يشعر الإنسان عند الممات أنه قد عاش أكثر من تلك الساعات التي كان يقضيها في ما خلقه الله عز وجل له؛ إذ أن أكثرها ساعات يقضيها الإنسان بين الأكل والشرب والنوم وغير ذلك وهي أمور يتشابه فيها مع البهائم؛ فالقطة تسعى من الصباح حتى آخر ساعات الليل بحثا عن طعام لها ولأولادها، وكذلك الحمام وسائر البهائم..!
اللهو الذي كاد يودي بحياة الصحابة..!
ومن قبيح ما يعكس هذه الظاهرة، هو ما تشير إليه سورة الجمعة: وهو أنه في يوم جمعة كان الرسول (ص) قائماً يخطب في الناس؛ وإذا بأصوات الدفوف والطبول تؤذن بقدوم قافلة محملة بالبضائع، وكان فيها ما يحتاجه الناس من دقيق وبر وغيره. فانفض الناس إليها، وتركوا الرسول (ص) قائماً يخطب، ولم يبق إلا اثنا عشر شخصاً، فنزلت الآية تعاتبهم وهو قوله سبحانه: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[١]. فما أقبحه من عمل، وما أفظعه من إعراض! والحادثة منقولة عن المسلمين وهم في المدينة، أي بعد نضج الإسلام ونضج المسلمين، وليس في مكة، في أوائل الدعوة. وقد قال النبي (ص): (لَوْلاَ هَؤُلاَءِ لَسُوِّمَتْ عَلَيْهِمُ اَلْحِجَارَةُ مِنَ اَلسَّمَاءِ)[٢].
ولو تأملنا في قوله تعالى: (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، لوجدنا أن كلمة (خير) هي اسم تفضيل، وما يفهم من الآية أن في كلا الأمرين خير؛ إلا أن الله عز وجل باعتباره خير الرزاقين فما عنده هو الأفضل بلا ريب، وهو الخير الحقيقي الباقي. ولا يعني ذلك أن في اللهو خير وإنما هو خير مزعوم وموهوم وهو باطل زائل.
استغلال النساء وأدوات اللهو واللغو في الدعايات التجارية
ويقال: بأن كلمة خير هنا لا يراد بها التفضيل، كما في قوله تعالى: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)[٣]. والملفت – الذي يعكس أصالة هذه الظاهرة في حياة الناس – أن الشركات التجارية في هذه الأيام، تستعمل أدوات اللهو واللعب وصور النساء وما شابه ذلك؛ لترويج بضائعهم وسلعهم، وكذلك في زمان النبي (ص)، نلاحظ أن أصحاب الأموال وأصحاب البضائع؛ قد اتبعوا الأسلوب نفسه في ترويج بضاعتهم، من خلال أدوات اللهو واللعب.
من مصاديق اللهو واللغو في حياتنا اليومية
الانشغال بفضول النظر: إن الإنسان المؤمن كلما ترقى في الإيمان درجة؛ تزداد منه التوقعات في مجال السير والسلوك، ويصبح مطالباً بما كان معفياً عنه قبل ذلك؛ أي كما يقال: (حسنات الأبرار؛ سيئات المقربين).
فكان يعتبر النظر إلى المسلسلات المحرمة التي تحتوي على مشاهد غير لائقة من صور اللغو، ولكنه بعد أن يترقى درجة يرى أن النظر إلى المسلسلات الكوميدية والتي يغلب عليها الفكاهة وتكون في أكثر الأحايين عبثية لا طائل تحتها من صور اللغو، ثم يرتقي بعدها حتى يصبح لديه الاهتمام بالمسلمين والاطلاع على أخبارهم وشئونهم من الأمور المندوبة والمحببة إليه. ولا ينشغل بأمور غير المسلمين التي لا تعنيه كقتل من قتل في منجم في شرق الأرض أو غربها فيعتبر ذلك أيضا من اللغو في الحياة. ثم يصل إلى درجة يتحكم فيها بنظراته؛ فلا يمشي مشية اللاهي الساهي ويوزع نظراته هنا وهناك من دون منفعة وغاية ولا ينشغل بالنظر إلى العمارات الجميلة والمنازل المزخرفة ولا يقف لساعات خلف زجاجة المعارض لينظر إلى ما بداخلها وهو لا يهدف إلى شراء شيء منها.
التحكم بطائر الخيال
ويصل الأمر عند بعض الكاملين إلى أن يروا كل حركة وكل نظرة وكل قول لا يرجى منه فائدة من اللغو. بل يصل الأمر عند بعض المؤمنين من غير المعصومين إلى أنه لا يفكر فيما لا يرضي الله عزوجل. فزمام الفكر وزمام الخيال وزمام الخواطر، تكون عنده بيد من حديد؛ فإذا أراد أن يذهب يميناً وشمالاً؛ كأن يظن بأحد سوءا، أو يسرح فكره في الأوهام والشهوات وما شابه ذلك؛ فإنه قادر على أن يوقف ذلك بقوة.
فإذا سيطر على أفكاره وبهذه القوة فكيف تكون سيطرته على أعضائه وجوارحه. ولذلك لا يصاب المؤمن بالأرق وقلة النوم كما يمضي البعض ساعات وهم يتقلبون على الفراش؛ بل إن طائر الخيال بيده يحط حيث ما أراد ومتى ما أراد ولو غالبه النوم لوقف في سجادته بعد أن يتوضأ ويتهيأ ليشرع في عبادة ربه والصلاة له في جوف الليل. بخلاف من يتقلب في فراشه ولا يبادر إلى عشر دقائق من هذا التقلب العبثي يملئه بركعتين يقيمهما في الليل بين يدي ربه، وكما ورد في الأثر عن الإمام الهادي (ع) أنه قال: (اَلدُّنْيَا سُوقٌ رَبِحَ فِيهَا قَوْمٌ وَخَسِرَ آخَرُونَ)[٤]. والعلم بهذه المدارج الكمالية، أمر حسن في نفسه. فلا مانع من أن يتمنى طالب المدرسة الابتدائية أن يكون متخصصاً في جراحة الأعصاب. فهذه التمنيات مقدمة للحصول عليه إن جد الإنسان في سيره واجتهد.
أضرار ومخاطر الاعتياد على اللهو واللغو
وإذا اعتاد الإنسان على اللهو واللغو يصبح كسولا فاقد للنشاط والجد في الحياة. وأقرب مثال على ذلك؛ التلميذ الذي يبدأ بإهمال دروسه شيئا فشيئا حتى تبدأ درجاته بالتدني إلى أن يصل به الأمر إلى إهمال المدرسة وفقدان الرغبة فيها. وقد يترك الدراسة ليعيش كأي كائن لا هدف له في الحياة وكثيرا ما يستغل هؤلاء الأطفال من قبل الآخرين. وقد يوهم الطالب أبويه بأنه ذاهب إلى المدرسة ولكنه في الحقيقة يذهب إلى أماكن أخرى..!
وهكذا حال المؤمن الذي يعتاد اللهو واللغو في الحياة؛ تنقص درجاته إلى درجة يفقد فيها النشاط عن مزاولة الأعمال الهادفة. فتراه في قمة النشاط ما لم يفتح كتابا؛ فإذا فتح الكتاب ألقي عليه النعاس وإذا أراد أن يقرأ شيئا من القرآن يشعر وكأنه يتسلق جبلا شاهقا لا هم له إلا أن يتم السورة أو ينتهي من الصحيفة التي يقرأها. وهي آثار تدل على أنه قد تحول إلى موجود لا يطيق الجد في الحياة وليس له هدف غير إشباع غرائزه من مأكل أو مشرب يتلذذ به أو جلسة أو سفرة يتمتع فيها. وإذا أصبح كذلك فقد خرج من حدود الإنسانية إلى حد البهيمية وبعد فترة لا تفرق بينه وبين أي جماد في هذا الكون فلا نفحة من نفحات الكمال تجدها فيه ولا ميل إلى الترقي واكتساب الدرجات العالية.
الاستماع إلى المحرمات والرقص
ومن مصاديق اللهو واللغو: الاستماع إلى المحرمات. وهو الاستماع للمطرب من الأصوات التي تخرج الإنسان عن اتزانه عن الجدية في الحياة، ويحلق في أجواء الخيال والوهم. فينعكس ذلك حتى على بدنه، حيث يبدأ يحرك رجليه ويديه ورأسه يميناً وشمالاً، ويصل به الطرب إلى درجةٍ أن يرقص، فيقوم بحركات أشبه بالجنون، كما نشاهدها في المنغمسين في عالم الطرب.
والرقص في مفهوم الإسلام برزخ بين العقل والجنون. وفي الحقيقة أن الرقص أشبه شيء بالجنون. ولو أن هناك على وجه الأرض من لم ير الرقص ولم يسمع به، وتريه صورة إنسان يرقص في المراقص الكبرى في بعض الدول، وتقول له: قيم هذا الإنسان؛ فلا يشك للحظة أن هذا الإنسان قد فقد عقله. فالذي يقفز في الهواء يميناً وشمالاً، ويأتي بحركات غير معقولة؛ أليس هذا نوع من المس؟ ومن المعلوم أن النظرة المحرمة والمزامير وأدوات العزف؛ هي من أدوات الشيطان، ولعل الشيطان له دور في اختراع هذه الأدوات التي تسلب الإنسان عقله ولبه!.. وقد ترى الرجل ممن يقال له في العرف متدينا إلا أنه مبتلى بهذه الآفة.
ولقد رأيت أن بعض المؤمنين بدأ الانزلاق من هذه النقطة. يقول: إن الحرام هي الموسيقى المطربة التي تناسب مجالس أهل الفسوق والطرب. ولكن هذا غناء كلاسيكي يريح الأعصاب. فيبدأ من هذه النقطة ويمشي في عالم الشبهات، وإذا به بعد فترة لا يميز بين غناء مطرب وغيره. ويمكن تشبيه ذلك بالسير في الطرقات السريعة؛ فأنت عندما تسير في هذه الطرقات؛ تلاحظ أن هنالك مسافة يعتد بها بين الشارع العام وبين خط الهاوية. وبالتأكيد، أن السائق الحذر لا يسوق على حافة الطريق، ولو ساق غفلة رجع إلى رشده؛ لأن الحافة والهاوية طريق الهلاك. فلماذا يمشي المرء على حافة الدين؟ عندما تقول: هذا الغناء فيه شبهة، أو لعله حرام الاستماع إليه؛ يقول: كل مكروه جائز. وعندما تقول: هذه موسيقى فيها شبهة الإطراب، فلماذا تسمع ما فيه شبهة؟ يقول: إن العلماء قالوا بأن الموسيقى غير المطربة موسيقى يمكن الاستماع إليها. ولماذا تمشي على حافة الشريعة؟ فمن الممكن في يوم من الأيام أنك تستمع إلى موسيقى محرمة، والنفس تسول لك: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)[٥]، فتسلم نفسك إلى الغناء شبه المطرب، بدعوى أنه غناء غير مطرب.
مقدمة الطرب والخفة..!
وهناك من المؤمنين من تراه يترنح يمينا وشمالا عند الاستماع إلى الموسيقى التي يزعم أنها غير مطربة، وإذا بالأصابع والأرجل تتابع الموسيقى وتتحرك على وقعها..! خصوصا أن بعض هذه الأغاني الجائزة بحسب زعمهم تحتوي على معان ومضامين سخيفة لا تسمن ولا تغني من جوع. فإذا لم يكن هذا مقدمة للطرب والخفة فما هي المقدمة؟!
ولو سلمنا أن المرء يصل إلى درجة يميز فيها الحلال من الحرام؛ ولكن هل الطفل الصغير الذي ينشأ في هذا المنزل ويرى والده الملتحي المصلي يستمع إلى هذه الأمور، أ يستطيع لو عرضت له موسيقى مطربة في أثناء مسلسل أو في أي مكان آخر أن يشخص الحلال من الحرام؟ أم أنه سينساق معها وإذا به قد ارتطم في الحرام ارتطاما يصعب فيه إخراجه من حالته تلك فيما بعد؟
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[٦]، فمن أساليب الشيطان الاستدراج. فهو يستدرج العبد خطوة خطوة حتى يوقعه في المحذور الذي لا مناص منه. وكم رأينا سراق الدراهم كيف أصبحوا فيما بعد من كبار السراق حتى سرقوا الملايين والمليارات بعد أن ذاقوا حلاوة الحرام. وكذلك الأمر في الزنا والعياذ بالله؛ يبدأ بنظرة، فابتسامة، فسلام، فكلام، فموعد، فلقاء. ولذلك يحذر القرآن الكريم من الانسياق وراء الشهوات واتباع خطوات الشيطان. وقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَحِمَى اَللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ اَلْحِمَى أَوْشَكَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ)[٧].
الثرثرة وكثرة الكلام في ما لا ينفع
ومن صور اللغو في حياتنا الثرثرة وكثرة الجدال، وأن يخوض الإنسان فيما لا يعنيه وفيما لا ينفعه الخوض فيه. فإذا أراد الكلام فليفكر قبل أن ينطق بكلام؛ ليكون لكلامه فائدة، ويتجنب المزالق في هذا المجال.
ومن الجميل أن يراقب الإنسان بعض مجالس المؤمنين؛ ليلاحظ هذه الحالة: أن أحد الجالسين يتكلم عن خبر معين – بغض النظر إن كان خبرا نافعاً أو غير نافع – فترى الآخر يأخذ كلمة من هذا الخبر ويفتح موضوعاً آخر، وبمناسبة الموضوع الآخر يذكر اسم شخص معين ليصبح محور الحديث، ثم يذكر قريب له وإذا به يصبح ذاك القريب محور الحديث، وهلم جرا. وستلاحظ في نصف ساعة أن الحديث تشعب تشعبا عجيبا غريبا؛ يبدأ من الهند وينتهي بعالم البرزخ والقيامة مثلا. فلماذا هذا السير العشوائي؟. وفي أثناء المزاح تذكر كلمة جادة؛ فيتحول المجلس إلى جد. وأثناء الجد تذكر مزحة، فيتحول إلى المجلس إلى مزاح. وترى الكلام يذهب يميناً وشمالا.
أليست هذه الساعات من ساعات الحياة الثمينة، فلماذا لا تحدد جهة الحديث؟ تكلم عن الطعام، أو عن الشراب، أو عن ما هو لغو مثلا؛ ولكن ضمن برنامج معين. تكلم عن فرص العمل، أو تكلم عن الشرق، أو عن الغرب؛ ولكن ليس بهذا الأسلوب المبعثر، الذي لا طائل تحته؛ وكأن الإنسان لا هدف له في الحياة إلا الحديث عن الترهات..!
ولهذا نلاحظ بعض المؤمنين في السفر يحاول باية طريقة ممكنة أن يفتح الحديث مع من حوله. فتراه يسأل عن اسمه وعن بلده الذي أتى منه وعن عمله وما شابه ذلك، وقد ترى الشخص المقابل لا يرغب في الحديث معه فيحرجه بأخذ معلومات عن حياته لا يرغب أن يبوح بها. ولكنه لا يستطيع ذلك وهو يعيش البطالة والفراغ. وبدل أن يملأ فراغه هذا بقراء القرآن ومطالعة الكتب النافعة؛ يتحدث مع كل من هب ودب وحتى يتحرش بالمضيفات التي يضيفنه في الطائرة إن تعذر عليه الحصول على من يشاركه الحديث، ثم هو لا يهمه إن كان ذاك رجلا أو امرأة، صغيرا أو كبيرا، بشهوة وريبة أو من دونهما..! إن الثرثرة من الأمراض التي تجر الإنسان إلى هذه المزالق.
والبعض قد يظن أنه إذا لم يثرثر ولم يتكلم؛ يصبح موجودا ثقيلا؛ والحال أن هناك بعض المؤمنين وبعض العلماء عندما تجلس في محضره لحظات، وتنظر إلى وجهه؛ فإنك تعيش عالماً من السكينة ومن الوقار، ومن الهدوء النفسي، وإذا كلمات بسيطة؛ يقلب كيانك رأساً على عقب. وإذا كان قد ورد عن أمير المؤمنين (ع): (اَلْمُؤْمِنُ مَأْلُوفٌ وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ)[٨]؛ فلا يعني ذلك الثرثرة وكثرة الكلام.
ولهذا نلاحظ أن بعض الناس المعروفين بالكلام الكثير وبالثرثرة؛ لا يعبأ به ولا يقام له وزن من قبل أحد ولا تقبل نصائحه ولا يعتنى بشأنه وإنما ينظر إليه على أنه إنسان مهذار حتى يسقط من أعين الناس. بخلاف الإنسان الصامت الذي إذا تكلم، تحترم كلمته. والمؤمن كل حركاته وسكناته هادفة. فمن سماته أنه إنسان صامت، ولكن إذا جاءه الدور، فإنه يقلب المجلس رأساً على عقب بكلمة نافعة، وبقول حاسم. ولقد روي عن أمير المؤمنين (ع) في وصف أخ صالح كان له: (وَ كَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فَإِنْ قَالَ بَذَّ اَلْقَائِلِينَ)[٩] والصمت من الأمور الممدوحة شرعاً، ومن أفضل السبل لترقي درجات الكمال. وقد قال رسول الله (ص): (إِذَا رَأَيْتُمُ اَلْمُؤْمِنَ صَمُوتاً فَادْنُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي اَلْحِكْمَةَ)[١٠] فالإنسان عندما يقل كلامه، فإنه يصبح مستعداً لتلقي إشارات عالم الغيب.
ومن صور اللغو احتراف الجدال العقائدي: فالبعض منا له رغبة في الدفاع عن الإسلام، أو عن عقيدته، أو عن خط أهل البيت (ع)، فتراه يحترف المجادلة أينما ذهب، وكأنه واعظ، وإمام مسجد، ويريد أن يفتح النقاش مع كل أحد. وهي حالة من حالات اللغو؛ فبيان العقيدة، والمذهب الصحيح، وبيان طريقة أهل البيت (ع)؛ يحتاج إلى نفوس مستعدة. فإذا كان هذا الشخص لا يعترف بك ولا بكلامك؛ فلماذا تفتح معه أبواب النقاش والجدال في أحاديث أهل البيت (ع)؟ وقد ورد عن الباقر (ع) أنه قال: (إِنَّ حَدِيثَكُمْ هَذَا لَتَشْمَئِزُّ مِنْهُ قُلُوبُ اَلرِّجَالِ فَمَنْ أَقَرَّ بِهِ فَزِيدُوهُ وَمَنْ أَنْكَرَهُ فَذَرُوهُ)[١١]؛ أي عليك أولاً؛ أن تكتشف نية الطرف المقابل، بأن تعطيه كلمات بسيطة، فإذا وجدته طالبا للمعرفة فأعطه المزيد. وإلا فلا داعي أن يجعل الإنسان نفسه خطيبا من دون دعوة؛ فمن الظلم للحكمة أن تعطى لغير أهلها، كما ورد عن عيسى (ع): (لاَ تَكَلَّمُوا بِالْحِكْمَةِ عِنْدَ اَلْجُهَّالِ فَتَظْلِمُوهَا وَلاَ تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ)[١٢].
والمجادلة التي هي محاولة إقناع الطرف الآخر بأسلوبك في الحياة من دون دعوة؛ هي من صور اللغو أيضاً. ولهذا إذا أراد أحدكم أن يفاتح أحداً – مسلماً كان أو غير مسلم – بما يعتقد به أو سائر ذلك؛ فليشترط عليه شروطاً، وهي: أن يتكلم للبحث عن الحقيقة، وأن يتكلم مفرغاً ذهنه من كل اعتقاد مسبق؛ فهو ليس في صراع فكري؛ بل الأمر عبارة عن البحث عن الحقيقة. وليقل له: نتكلم ونجعل أمامنا ميزانا، والميزان هو كلام الله عزوجل، وما ثبت من سيرة النبي (ص)، فهذان حقلان مشتركان وعلى ضوئهما نتكلم. أما إذا كان الطرف لا يعترف بهذا المبدأ؛ فلماذا تتعب نفسك بالنقاش معه؟
اتخاذ المواقف العملية تجاه اللغو بكل صوره
وينبغي محاربة اللغو بكل صوره؛ فكل زمان لهوه ولغوه. وقد يكون الذي يشتغل باللهو واللغو من المتميزين في المجالات العلمية. وقد كان في زمن النبي (ع) طبقة من الناس منشغلون على سطوح المنازل بالحمام وتربيتها وإرسالها. وروي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ رَأَى رَجُلاً يُرْسِلُ طَيْراً فَقَالَ شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَاناً)[١٣]. وكأن الحمام قد تحول إلى شيطان يستهوي ابن آدم وتأنسه؛ بدل أن يستأنس بالله عز وجل وبآياته وبكلمات أوليائه.
وقد تحول الحمام هذه الأيام إلى شبكات التلفاز، وإلى أجهزة الإنترنت وما شابه ذلك. فترى الإنسان من أول الليل إلى الصباح وهو يتقلب بين محطة وأخرى، وبين موقع وآخر، ثم ينتهي من التنقل العبثي هذا لينهي نهاره وليله وهو لم يخرج من تلك التقلبات والتنقلات بطائل. ثم يذهب للفراش، ولا يذكر ربه لا بكلمة ولا بركعة ولا بدعاء. ودأبه أن يقضي النهار بالعمل والليل بالبطالة ولا يقدم لحياته الحقيقة شيئا؟
ولقد نهانا أمير المؤمنين (ع) عن هذه الحياة العبثية بقوله: (فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ اَلطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ اَلْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَو اَلْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا)[١٤].
اللهو المستحب:
ليس كل انشغال بأمر دنيوي من مصاديق اللهو. بل إن هنالك بعض الأمور التي يحب سبحانه من المؤمن أن ينشغل بها، كما تصرح بذلك بعض الروايات. منها: إدخال السرور على الزوجة بقدر الاستطاعة؛ جسدياً، أو فكرياً، أو من خلال تجاذب أطراف الحديث. وكذلك هي مفاكهة الإخوان: أن يزور المؤمن أخاه في الله عزوجل، ويتكلم معه بما يدخل عليه السرور. ومن المصاديق؛ الصلاة بالليل. فقد قال الباقر (ع): (لَهْوُ اَلْمُؤْمِنِ ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ اَلتَّمَتُّعُ بِالنِّسَاءِ وَ مُفَاكَهَةُ اَلْإِخْوَانِ وَ اَلصَّلاَةُ بِاللَّيْلِ)[١٥]. وقد ورد عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (كُلُّ لَهْوِ اَلْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ فِي تَأْدِيبِهِ اَلْفَرَسَ وَرَمْيِهِ عَنْ قَوْسِهِ وَمُلاَعَبَتِهِ اِمْرَأَتَهُ)[١٦]. وهي أمور وإن كانت في نفسها من مصاديق اللهو إلا أن المؤمن يؤجر عليها لأن الشارع ندب إليها ولأن المؤمن يأتي بها ابتغاء وجه الله سبحانه.
وروي: (إِنَّ اَلصِّبْيَانَ قَالُوا لِيحْيِيَ: اِذهَبْ بِنَا نَلْعَبْ، قَالَ: مَا لِلَّعِبٍ خُلِقْنَا فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى: «وَآتَيْنٰاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا»)[١٧]ولو دعيت إلى مجلس لاهٍ، أو إلى مدينة من مدن الملاهي أو ما شابه ذلك، فقل ما قاله يحيى (ع): (ما للعب خلقنا). اجعل هذا شعارا لك؛ لئلا تبتلى بالحياة اللاغية وتشغل الملاهي عن الحياة الحقيقة ولكي لا تأتي فيمن يأتي يوم القيامة وهو يقول: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[١٨].
[٢] تفسير نور الثقلين ج٥ ص٣٢٩.
[٣] سورة يوسف: ٣٩.
[٤] بحار الأنوار ج٧٥ ص٣٦٦.
[٥] سورة يوسف: ٥٣.
[٦] سورة البقرة: ١٦٨.
[٧] وسائل الشیعة ج٢٧ ص١٦٧.
[٨] الکافي ج٢ ص١٠٢.
[٩] نهج البلاغة ج١ ص٥٢٦.
[١٠] مستدرك الوسائل ج٩ ص١٨.
[١١] الکافي ج١ ص٣٧٠.
[١٢] بحار الأنوار ج٧٤ ص١٢٨.
[١٣] مستدرك الوسائل ج١٤ ص٨٤.
[١٤] نهج البلاغة ج١ ص٤١٦.
[١٥] وسائل الشیعة ج٢١ ص١٤.
[١٦] الکافي ج٥ ص٥٠.
[١٧] تفسير نور الثقلين ج٣ ص٣٢٥.
[١٨] سورة الفجر: ٢٤.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- لا ينفك الكثير من البشر منذ قرون وإلى يومنا هذا عن الاشتغال باللهو واللغو على الرغم من أنهما من الأمور المذمومة عقلا وشرعا. ولو راجعنا الآيات القرآنية نجد أن الله عز وجل يذم اللاهين اللاغين. وفي زماننا هذا نرى أنه تم تخصيص أماكن ومساحات كبيرة لهذا الغرض تحت عنوان: مدينة الملاهي..!
- إن الإنسان المؤمن كلما ترقى في الإيمان درجة؛ تزداد منه التوقعات في مجال السير والسلوك، ويصبح مطالباً بما كان معفياً عنه قبل ذلك؛ أي كما يقال: (حسنات الأبرار؛ سيئات المقربين).
- من صور اللغو في حياتنا الثرثرة وكثرة الجدال، وأن يخوض الإنسان فيما لا يعنيه وفيما لا ينفعه الخوض فيه. فإذا أراد الكلام فليفكر قبل أن ينطق بكلام؛ ليكون لكلامه فائدة، ويتجنب المزالق في هذا المجال.
- في السابق كان الكثير يلتهون بالحمام. وقد تحول الحمام هذه الأيام إلى شبكات التلفاز، وإلى أجهزة الإنترنت. فترى الإنسان من أول الليل إلى الصباح وهو يتقلب بين محطة وأخرى، وبين موقع وآخر، ثم ينتهي من التنقل العبثي هذا لينهي نهاره وليله وهو لم يخرج من تلك التقلبات والتنقلات بطائل.