- ThePlus Audio
الكسل والتكاسل
بسم الله الرحمن الرحيم
الكسل والتكاسل
كما أن الطب فيه من الأمراض ما توجب الشلل للإنسان؛ كذلك في عالم النفس والعمل هناك ما يوجب للإنسان الشلل والعجز عن الحركة المطلوبة له في الحياة. ومن أهم هذه الأمور الكسل والتكاسل والتواني وضعف الهمة وفقدان الجدية في الحياة. ولقد ورد عن الإمام المجتبى (ع) أنه قال: (مَا أَعْرِفُ أَحَداً إِلاَّ وَهُوَ أَحْمَقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ رَبِّهِ)[١]، ولو لم ترد هذه الرواية من إمام معصوم لما تجرأ أحد على أن يتفوه بها؛ فقوله (ع): (ما رأيت أحدا) يفهم منه العمومية والشمول إلا ما خرج بالدليل.
والحماقة مجانبة الحكمة في العمل؛ إن كانت في التجارة والأعمال المادية وإن كانت في التعامل مع عالم الغيب. وأغلب الناس لا تمضي حياتهم بما يرضي الله عز وجل حق الرضا، فمن منا راض عن نفسه؟ هل هناك إلا النادر من الناس من إذا جاءه عزرائيل (ع) يرحب بقدومه ويفرح به ويبدي له استعداده للانتقال إلى عالم الآخرة؟ أو ليس القياس في كون الإنسان من أولياء الله عز وجل تمنيه للموت كما قال سبحانه: (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[٢] لا فقط عدم الخوف منه؟
والكسل قد يكون مطلقا وقد يكون نسبيا؛ فمن الناس من تراه في قمة نشاطه الرياضي وهو من الرياضيين المحترفين ومستعد للركض ساعات طويلة لمسافات بعيدة ولا يشعر بكلل ولا ملل ولكنه يتثاقل عن ركعتين من الصلاة، وما وزن الركعتين في جنب ما يقوم به من الرياضات الشاقة؟ ولا ينشط الإنسان إلا في الحقول التي يرغبها؛ فتراه يجلس لساعات على الحاسوب من دون أي ضجر أو تعب ولكنه سرعان ما يمل إذا فتح كتاب الله سبحانه أو أراد أن يقرأ كتابا من الكتب النافعة.
موجبات الكسل في الحياة
ولابد لنا أن نبحث عن موجبات الكسل في حياتنا ونقضي عليها. فأولها فقدان الهدف في الحياة؛ فمن الطبيعي أن يعيش الملل والكسل من لا هدف له في الحياة. ولذلك بين لنا القرآن الكريم الهدف من الخلق فقال عز من قائل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[٣]، ومن الطبيعي أن لا يستمتع بعبادته ويتثاقل منها من لا يحمل هذا الهدف في الحياة وإنما يحمل هذا الهدف من يرى أن تسبيحاته وتهليلاته وأذكاره وأوراده لبنات تبني بها الملائكة له قصورا في الجنة كما ورد ذلك في الروايات الشريفة، وهذه الأذكار والعبادات هي المواد الأولية التي تستعملها الملائكة في بناء قصور المؤمن وتوسيع ملكه في الآخرة وتهيئة مكانه في عالم البرزخ وما بعده، وإذا كان الإنسان كذلك يحاسب نفسه على كل صغيرة وكبيرة في الحياة لأنه يعلم أنه هذه الأعمال صغيرها وكبيرها لها تأثير في آخرة الإنسان وحياته الأبدية.
ولابد للإنسان أن يبني آخرته ويستغل أوقاته وحياته في الدنيا لبناء تلك الدار الآخرة لبنة لبنة، وهي بحق حياة تستحق العمل الجاد والابتعاد عن الكسل والتواني، فهي حياة أبدية ولا يمكن للإنسان أن يتصورها؛ فلو جعلت في مقابل كل قطرة من قطرات البحار مليارات من السنين ثم جمعت ذلك العدد لنفد ذلك العدد ولم ينفد عمرك في الجنة أو في النار لا سمح الله، ولا سبيل لتلك الدار إلا العمل في هذه الدار؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يضيف شجرة واحدة في الجنة بعد خروج الأنفس من أبدانها اللهم إلا ما خلف الإنسان من صدقة تجري له بعد وفاته، ولماذا لا يكون الإنسان طموحا جادا في الحياة وهو يأمل أن يسكن قصور الجنة وأن يستحصل الرضوان الإلهي ويعانق الحور أبد الآبدين؟!
ومن موجبات الكسل الإخفاق المستمر في الحياة؛ فعندما يفتر الإنسان في شهر شوال ويتكاسل عن القيام بالعبادات بعد أن كان نشيطا في العبادة في شهر رمضان يشعر بشيء من اليأس يمنعه من مواصلة الطريق، ومن أخطر ما يعترض الإنسان في الحياة الشعور باليأس في التجارة أو العبادة أو في التعامل مع الله عز وجل؛ ولذلك قيل أن اليأس من رحمة الله عز وجل من أكبر الكبائر. وينبغي للمؤمن من خلال التدبير أن يجتنب الإخفاق جهده. ولا بأس في أن يخفق مرة ومرتين أو ثلاث وإنما عليه أن يحاول مجددا ويعمل ثانية حتى يصل إلى الهدف المطلوب، وليتعلم من النملة وإصرارها على حمل أضعاف وزنها من القمح والشعير وسائر الحبوب وهي لا تعبأ بما يعترض طريقها من متاعب وارتفاعات أو منحدرات وقد تحاول عشرات المرات تخطي عقبة دون أن تشعر باليأس أو يعتريها ملل أو كلل.
ومن موجبات الكسل معاشرة الكسالى. وقد ورد عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (اَلْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)[٤]، والمراد من دينه ديدنه وسلوكه؛ فبدل أن يعيش الإنسان من الكسالى ممن لا هدف لهم في الحياة ليعيش مع الجاديين في الحياة ممن يحملون أهدافا كبيرة، فلو كان للإنسان صديقا دخل الحوزة وأصبح من علمائها ألم يكن ليشعر بشيء من الغيرة ويحثه ذلك على الترقي والتعلم؟ والغيرة في مجال العلم من الأمور المحمودة في الشرع.
ومن موجبات الكسل القناعة بالوضع الموجود وعدم التطلع إلى الأفضل؛ فقد يكون البعض في وضع اجتماعي أو اقتصادي أو عائلي أو حتى عبادي مناسب؛ فيكون ذلك مدعاة للتكاسل ولا يفكر في أن يرتقي ويصل إلى الدرجات العلى، ولا ينبغي للمؤمن أن يرضى بما هو عليه؛ بل هو يسعى لأن لا يكون يومه كأمسه، فقد ورد أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (مَنِ اِعْتَدَلَ يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ)[٥]، فهو يطلع دائما إلى ما هو أفضل في كل شأن من شئون حياته.
ومن موجبات الكسل الانسياق وراء الشهوات حلالا كانت أو حراما؛ فالذي يعيش وهمه النساء والطعام والشراب والبحث عن دور التسلية وأدوات اللعب واللهو يتحول إلى إنسان شهواني لا يحتمل الجد في الحياة، وهي ليست إلا شهوات سرعان ما تتنغص، فترى الإنسان يقطع المسافات بحثا عن لقمة شهية وإذا به بعد الامتلاء لا يتحمل النظر إلى المائدة وفي شهوة النساء سرعان ما يفتر الإنسان وينفر!
وكذلك الذي يلهث وراء السلطة والرئاسة فإذا ما نالها يمل من التكرار والروتين الذي يعيشه صباح، مساء ولا تعد تطربه سماع كلمة الرئيس أو المدير أو ما شابه ذلك من الألفاظ، وقد قيل لكل جديد لذة أو بهجة، والمؤمن يتعالى عن الاسترسال في هذه اللذائذ والمتع لمعرفته بعاقبتها إلا في لذة العلم أو لذة الإقبال على الله عز وجل. وقد النرى العلماء في المختبرات وفي المكتبات قد يذهلون عن الطعام والشراب وينتابهم الضعف والانهيار وهم لا يشعرون بذلك، وكذلك أولياء الله عز وجل يزداون شوقا بعد كل عبادة يؤدونها أو فرض يقيمونه فليس ثمة تكرار في التجلي كما يقول العرفاء!
ومن موجبات الكسل توقع النتائج العاجلة؛ فالبعض منطقه منطق التجار لا يقدم على عمل حتى يضمن المكاسب؛ فلا يقرأ كتابا أو يلقي محاضرة إلا ويتوقع منها مكسبا ماديا أو ثناء أو مَحمدة؛ فإذا لم يحصل على الذي أراد يتقاعس عن العمل. ترى الرجل يأتي إلى المسجد أسبوع أو أسبوعين أو شهرا أو شهرين فإذا لم يحصل على السعادة النفسية التي سمع أنها تحصل في الصلاة والمسجد والجمعات وأي مكسب معنوي أو مادي آخر يستسحر ويفتر؛ والحال أن المؤمن الطموح لا ينظر إلى المكاسب المعجلة بقدر ما ينظر إلى العمل نفسه، ولذلك ترى المرائي ينشط إذا كان عمله مشهودا ويكسل إذا كان في المنزل حيث لا يراه أحد.
ومن موجبات الكسل كثرة النوم والطعام،ويؤكد الأطباء أن كثرة الطعام من موجبات الوهن البدني والعصبي وتتأثر أجهزة الجسم والدورة الدموية والأعصاب بكثرة الطعام مما يؤدي إلى خمول ذهني، أفهل رأيتم كاتبا يكتب كتابا أو مقالة بعد الطعام مباشرة أم أنه يميل إلى النوم وإلى الكسل بعد الطعام؟ وقد وردت روايات تذم العبد الفراغ، وقد ورد في الحديث القدسي عن الإمام الباقر (ع): (قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أَيُّ عِبَادِكَ أَبْغَضُ إِلَيْكَ قَالَ جِيفَةٌ بِاللَّيْلِ بَطَّالٌ بِالنَّهَارِ)[٦]، ولذلك أوصى علماؤنا كثيرا بقلة الطعام والشراب والمنام.
قد يستطيع الإنسان أن يتدارك ما فرط منه جراء كسله من الأمور المادية؛ فيضاعف العمل ويبذل المجهود، ولكن ماذا عساه أن يفعل من فرط في وقته من الساعات التي لا تعوض بأي ثمن؟ والكسول إما أن يترك ما أمر به وإما أن يأتي بالأمر على كره؛ فيقوم إلى الصلاة في كسل ويأتي بالصيام والحج وسائر العبادات على مضض؛ ففي الحج يستعجل انتهاء الموسم وفي شهر رمضان يعد الأيام عدا ليخرج من ضيافة الله عز وجل، ويصلي ويتمنى لو لم تشرع الصلاة، وقد يرى بعض علمائنا الأبرار أن أداء العبادة بتثاقل فيه شيء من الوهن وسوء الأدب مع رب العالمين، ولذلك تترك المستحبات والنوافل إذا أضرت بالفرائض، فلا تقرأ القرآن وأنت تحسب الصفحات الباقية لانتهاء الجزء ولا تصلي من النوافل ما لا إقبال لك فيها ولكن الأمر في الواجب يختلف فلابد أن يأتي بالواجبات أقبل الإنسان في أم لم يقبل ولكن التثاقل في الواجبات لا يؤدي الغرض المطلوب منها.
كيف نتخلص من الكسل؟
وهناك بعض الطرق النافعة للتخلص من الكسل لابد للمؤمن أن يعرفها، فعلى سبيل المثال يستطيع في حال الكسل عن العبادة والصلاة في جوف الليل أن يغتسل ما يسمى بغسل النشاط وهو نوع من التحايل على النفس البشرية ليخرج بذلك من حالة الكسل ويستعيد نشاطه للعبادة، وقد ينشط البعض في بعض الأماكن المحددة كالطبيعة وسواحل البحر أكثر مما ينشط في المسجد ولا بأس بأن يستغل هذه الأماكن للمطالعة والمناجاة والعبادة وسائر الأمور المطلوبة، وينبغي بصورة عامة أن يجتنب المؤمن الأماكن والأجواء التي تجره إلى الكسل.
ومن موجبات النشاط والتحفيز زيارة المؤمنين الهادفين الذين يعيشون الحياة بعيدا عن اللهو واللعب، وقد رأيت عند أحد العلماء لوحة كان قد وضعها فوق رأسه في مكان درسه وعمله وهي قول أمير المؤمنين (ع): (إِنَّ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ يَعْمَلاَنِ فِيكَ فَاعْمَلْ فِيهِمَا وَ يَأْخُذَانِ مِنْكَ فَخُذْ مِنْهُمَا)[٧]، وكانت هذه الكلمة سببا في كثرة مؤلفاته، وفي الحقيقة أن الليل والنهار ينحتان الإنسان ويقطعان منه كل يوم وليلة قطعة من وجوده فلماذا لا نأخذ منها؟
ومن موجبات النشاط الالتجاء إلى الله سبحانه وطلب ذلك منه عز وجل، ومن الأدعية المروية عن السجاد (ع): (..اُمْنُنْ عَلَيْنَا بِالنَّشَاطِ وَأَعِذْنَا مِنَ اَلْفَشَلِ وَاَلْكَسَلِ وَاَلْعَجْزِ وَاَلْعِلَلِ وَاَلضَّرَرِ وَاَلضَّجَرِ وَاَلْمَلَلِ)[٨]، فليطلب من الله سبحانه أن يبعث فيه النشاط ويرفع من همته ويحبب له العمل للعاجل والاستعداد لما بعد الموت، وقد ورد في أدعية الإمام السجاد الكثير من الأدعية التي تدل على هذا المعنى من دعائه عليه السلام: (وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكَسَلِ عَنْ عِبَادَتِكَ)[٩] وقوله (ع): (حَبِّب إلَيَّ ما تُحِبُّ مِن القَولِ والعَمَلِ حتّى أدخُلَ فيهِ بِلَذّةٍ وأخرُجَ مِنهُ بِنَشاطٍ، وأدعُوَكَ فيهِ بنَظَرِكَ مِنّي إلَيهِ)[١٠].
الكسول في روايات أهل البيت (عليهم السلام)
إن الكسول عن أمر دنياه وكسب المعيشة أكسل عن العمل للآخرة كما نصت على ذلك الروايات الشريفة، فإذا هو متقاعس عن العمل للذة العاجلة فكيف يتوقع منه العمل للذة الآجلة؟! إذا لم يسعى لعالم الشهود كيف يسعى لعالم الغيب؟! وقد روي عن الباقر (ع): (إِنِّي لَأُبْغِضُ اَلرَّجُلَ يَكُونُ كَسْلاَنَ عَنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ فَهُوَ عَنْ أَمْرِ آخِرَتِهِ أَكْسَلُ)[١١].
وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (لِلْكَسْلاَنِ ثَلاَثُ عَلاَمَاتٍ يَتَوَانَى حَتَّى يُفَرِّطَ وَيُفَرِّطُ حَتَّى يُضَيِّعَ وَيُضَيِّعُ حَتَّى يَأْثَمَ)[١٢]، فتراه على سبيل المثال يتكاسل في الصلاة ثم يصلي يوما ويترك يوما حتى يتركها فيأثم أو يحدد لنفسه سنة خمسية ثم يجعلها كل سنتين حتى ينتهي به المطاف أن يخبل عن أداء الحقوق الشرعية.
[٢] سورة الجمعة: ٦.
[٣] سورة الذاريات: ٥٦.
[٤] الأمالي (للطوسي) ج١ ص٥١٨.
[٥] من لا یحضره الفقیه ج٤ ص٣٨١.
[٦] بحار الأنوار ج١٣ ص٣٥٤.
[٧] غرر الحکم ج١ ص٢٥٤.
[٨] بحار الأنوار ج٩١ ص١٢١.
[٩] دعاء مكارم الأخلاق.
[١٠] بحار الأنوار ج٩٢ ص٢٩٨.
[١١] مستدرك الوسائل ج١٣ ص٤٤.
[١٢] بحار الأنوار ج٧٤ ص١٦٣.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- قد يستطيع الإنسان أن يتدارك ما فرط منه جراء كسله من الأمور المادية؛ فيضاعف العمل ويبذل المجهود، ولكن ماذا عساه أن يفعل من فرط في وقته من الساعات التي لا تعوض بأي ثمن؟ والكسول إما أن يترك ما أمر به وإما أن يأتي بالأمر على كره منه، وكلاهما آفة من آفات العمل.
- كما أن الإنسان يتعرض في عالم الأبدان إلى ما يوجب له الشلل والعجز عن الحركة؛ كذلك الأمر في عالم الأرواح فهناك من الأمراض ما توجب الشلل للإنسان فتعيقه عن السير إلى الله عز وجل والاستعداد لما بعد الموت وعلى رأسها الكسل والضجر والتواني.