التكامل الروحي..
إن المؤمن لَهُ خطان من خطوط التكامل:
۱. الخط الأول: خطٌ يتعلق بنفسه.. إن المؤمن يجعل هذه النفس هي محور اهتمامه أولاً، فيعتني بتهذيبها، وبتقوية علاقتهِ بربه.. وبعبارةٍ أخرى: يريدُ أن يكونَ خليفة لله عزَ وجل كما أرادهُ الله تعالى، حيث يقول في كتابه الكريم: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.
۲. الخط الثاني: خط يتعلق بأسرته.. إن المؤمن ليس همه نفسه فقط، بل يُفكرُ في تربية ذُريته وأسرته أيضاً، عملاً بقوله تعالى: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾؛ فقد جعل الإسلام النفس والأهل في خطين متوازيين.
القواعد العامة لتربية الذرية..
القاعدة الأولى: إصلاح الذرية.. إن القضية منطقية جداً؛ لأن الإنسان الذي لهُ ذُرية مُنسجمة مع توجهه؛ يكون في حركة انسيابية إلى الله عز وجل، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: يعيش جواً خالياً من المنغصات.. فمثلاً: عندما يدخل المنزل في وقت الصلاة، وإذا به يرى الزوجة في محرابِ صلاتها، والبنات والأولاد وحتى الخَادمة يقيمون صلاتهم؛ فهذا الجو جو منعش للإنسان!.. وفي فصل الصيف لا يكون همهم زيارة الجبال والمنتجعات، بل همهم -كما الأب- البلاد التي يُقام فيها ذكر الله عز وجل.. حيث أن هناك فرقاً بينَ زيارةِ مشهدٍ من المشاهد، وبين زيارةِ جَبلٍ من الجبال!.. فالمعصوم يرد لهُ الزيارة -كما يفهم من بعض النصوص- بعددِ مرات الزيارة، ولكن عندما يكون المؤمن في أوحشِ حالاته: في قبرهِ، وفي برزخه.. قال الرضا (عليه السلام): (من زارني على بعد داري وشطون مزاري، أتيته يوم القيامة في ثلاث مواطن حتى أخلّصه من أهوالها: إذا تطايرت الكتب يمينا ًوشمالاً، وعند الصراط، وعند الميزان).. وبالتالي، فإن هناك فرقاً بينَ زيارةٌ في الدنيا تتبعها زيارة في البرزخ، وبينَ زيارة للجبال الشاهقة يشمُ فيها الإنسان الهواء ثمَ يرجعُ إلى وطنه.. فإذن، هذهِ مشكلة قائمة ومتكررة خاصة في فصل الصيف، ولكن الإنسان الذي لهُ ذُرية طيبة وزوجة صالحة، هُم يطلبون منه ويصرونَ عليه كي يأخذهم لهذهِ المواطن النورانية!..
ثانياً: عندما يستيقظ لصلاة الفجرِ -مثلاً- مع عائلته، فإن هذا المنزل الذي يُتلى فيهِ كتابُ الله من الزوج والزوجة والأولاد؛ يُضيءُ لأهل السموات كما تُضيء النجوم لأهل الأرض، فعن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن البيوت التي يصلى فيها بالليل بتلاوة القرآن، تضيء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الأرض).
ثالثاً: هذا البيت مدفوع عنهُ البلاء، وبيتٌ مُبارك، ولا يمكن للخلاف الزوجي أن يدب فيه، لأن الشياطين ليس لها سلطان على هكذا بيوت، ألا يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾؟!..
رابعاً: إن الإنسان ينقطعُ عمله عند موته، ولكن طوبى لإنسان يموت وهُناكَ من يدعو لَهُ في برزخه!.. بعض الشباب عندهُ حالة من العزوف عن الزواج، وهذهِ خسارة: فهو كُلما تأخر في الزواج يوماً واحداً:
أ- حُرم البركات الكثيرة التي منها: “صلاة المتزوج عن سبعين صلاة من صلاة الأعزب”.. فعن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال: (ركعتان يصليهما متزوجٌ، أفضل من سبعين ركعة يصليها غير متزوج).
ب- إن مات وهو على هذه الحالة، فإنه ينطبق عليه قول النبي (صلی الله علیه): (شرار موتاكم العزّاب)!..
ج- كُلما قَلَّ الفارق بينَ سِن الولد وسن الوالد؛ فهذا أدعى للتربية.. حيث أن الأب الذي في سن الستين ولهُ ولدٌ صغير؛ فإنه من الطبيعي أن لا يُتقن تربيته؛ لأنه يكون في عالمٍ آخر: في هَم وهموم، وخاصة إذا كانَ مُصاباً في صحته، فهذا ليسَ لهُ ذلكَ التوجه، بخلاف شاب في العشرين أو الخامسة والعشرين.
لقد روي عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنه قال: (أنّ رجلاً قال: إنّي كنتُ زاهداً في الولد حتّى وقفت بعرفة، فإذا إلى جنبي غلام شابّ يدعو ويبكي ويقول: يا ربّ، والدَيَّ والديّ.. فرغّبني في الولد حين سمعتُ ذلك).. هذا يدعو للوالدين معاً، وليس كما يفعل البعض حيث يفرق بينَ الأبوين.
خامساً: إن الولد من الصدقات الجارية التي يعتدُ بها، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه) أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).. فالذي ليس لهُ عِلم، وليست لهُ صدقة جارية، ولهُ ولد صالح؛ فهذا الولد الصالح عندما يقوم بصدقةٍ جارية، أو بتقديم علمٍ نافع؛ وإذا بذلك الأب وهو في البرزخ يأتيهِ ثواب بناء عشرات المساجد، رغم أنه ذهبَ من الدُنيا فقيراً جاهلاً، ولكن حفيده الثالث أو الرابع صارَ من العلماء الأعلام مثلاً.. البعضُ قد يهتمُ بالذُرية، ولكن من منطلق استثماري، فيرسل الأولاد والبنات إلى بلاد الغرب، وهو يعلم إجمالاً أنهم سيقعون في فخ الفساد والانحراف؛ هذا الإنسان هدفه أن يصبح الأولاد مصدراً مالياً بالنسبة له.
سادساً: إن الذرية الصالحة هي قرة عين للإنسان، فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (ما سَألْتُ ربِّي أولاداً نُضُر الوَجْه، ولا سَألتُه وَلداً حَسَن القَامَة، ولَكِنْ سَألْتُ رَبِّي أوْلاداً مُطِيعِينَ للهِ وَجِلِينَ مِنْهُ، حَتَّى إذَا نَظَرْتُ إلَيهِ وَهو مُطيعٌ للهِ قُرَّتْ عَيْنِي).. ولهذا بعضُ الآباء عندما يأتيهِ الغُلام يفرح، ولكن فرحة إجمالية لا فرحة جنونية يقول: الحمد لله، لنرى الأيام ماذا تُرينا؟.. فهو بمثابة إنسان ذَهبَ إلى البحر، وغاصَ في أعماقه، وبعدَ اللتيا والتي عثرَ على صدفة؛ هذا لا يفرح إلا عندما يصعد للسطح ويفتح المحار ويجد فيها لؤلؤة؛ وإلا يرميها في البحرِ ثانيةً.. الولد الصغير بمثابة المحارة لا يُعلم ما في جوفه، الأيام هي التي تكشف معدنه، مثلاً: قبلَ البلوغ إذا طلب من أبيه أن يعلمه من يقلد!.. عندئذٍ عليه أن يقبّل جبينهُ ويسجد للهِ شُكراً؛ لأن هذهِ بوادر الخير.. أو عندما تسأل البنت عن حجابها وعن صيامها؛ هذهِ فرحةٌ حقيقية.
سابعاً: إن الإنسان من المُمكن أن يكتسب وهو في عالم البرزخ أضعاف ما كانَ عليهِ ساعة الموت.. فمثلاً: هو عندما مات كان في الدرجة العشرين من الجنة، حيث أن البعض قد يدخل الجنة بحسنة بسيطة، ولكنه يكون ضيفاً على أهل الجنة!.. فإن كان عنده ذرية صالحة، وإذا به بعدَ الموت يصير من جيران النبي وآله، بسبب أعمال تلك الذرية!.. نعم، من المؤكد أن ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾؛ ولكنّ هناك فرقاً بينَ رفقاء الأنبياء، وبين ضيفان أهل الجنة!..
فإذن، إن المؤمن لا ينبغي أن يكونَ مرتاحاً إذا رأى في نفسهِ إقبالاً!.. بعض المؤمنين هكذا منطقهُ العملي لا اللساني: وانفساه!.. فتكون لهُ سفراتهُ، ولهُ عبادتهُ، ولهُ جماعتهُ الخاصة، وعندما يخرجُ من المنزل لا يأخذ معه ابنه.. بينما نوح (عليهِ السلام) الذي كان يعلم ماهية ولده، ومعَ ذلك إتماماً للحجة قال: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾.. هكذا يجب أن يكون المؤمن، فعندما يذهب إلى المسجد،عليه أن يطلب من ولده الذهاب معه، والركوب في سفينة النجاة.
القاعدة الثانية: رفع مستوى الذرية.. إن الأب الصالح يهمهُ أن يرى ولده شبيهاً له في خُلقه وشمائله وفي سيرته وسمعته، وفي روايات أهل البيت (عليهم السلام) يُفهم أنَ رَب العالمين في بعض الحالات يرزق الإنسان ولداً يشبههُ حتى في الخِلقة.. يقول الاِمام الباقر (عليه السلام): «من سعادة الرّجل أن يكون له الولد، يعرف فيه شبهه: خَلقه، وخُلقه، وشمائله»؛ أي هو كريم؛ وولدهُ كريم.. هو يقيم صلاة الليل؛ وولدهُ كذلك.. المؤمن يحاول أن يرفع من مستوى ولدهِ!..
القاعدة الثالثة: عدم القيام بما يوجب الوهن.. إن المؤمن لهُ هفوات، لذا فإنه يجب الحذر من الغضب على الزوجة في حضور الولد؛ لأن هذا الأمر يُدمره.. فإن تعب على تربيتهِ عشرينَ سنة، وكسب فؤاده، وأخذهُ معه إلى الحَجِ والعُمرة.. ولكنه كان ظالماً لزوجته في موقف من المواقف، وهذا الولد يحب أمه، فهو عندما يصب غضبه بلا وجه على هذه الأم؛ فإن هذا البناء من المُمكن أن ينهار في لحظة واحدة، كما تنهار العمارات الضخمة في لحظات إذا فجرت.. لذا، فإنه يجب الحذر من إظهار هذا الخصام.. كذلك إن كان الولد يظن خيراً بأبيه، الذي هو من أهل المساجد وفي الصف الأول، ولعلَ آثار السجود على وجهه، وصدفةً رآه على ما لا يجوز؛ هذا الولد كيف تكون ردة فعله؟.. البعضُ منهم قد يترك الدين، قائلاً: إذا كان الدين هكذا فلا شُغلَ لي به!.. فإياكَ إياك أن تظهرَ بهذا المظهر!.. إن رَب العالمين ستار العيوب، ألا نقرأ في الدعاء: (كم من ثناءٍ جميلٍ لستُ أهلاً لهُ نشرته)؟!..
القاعدة الرابعة: العدل بين الأبناء.. من الغريب أنه نرى توأماً: بشكلٍ واحد، وفي أسرةٍ واحدة، وفي مدرسة واحدة، ولدا في نفس الساعة، والأب واحد، والأم واحدة، والتربية هيَ نفسها؛ ومع ذلك يكون بينهما بُعدَ المشرقين: هذا في عالم وهذا في عالم!.. هذا من أشقى الأشقياء، وهذا من أفضل الصالحين!.. على كُلِ حال هذهِ حقيقة، وهي: أن الأولاد مختلفونَ فيما بينهم.. ولكن الوالد الصالح لا يُبرز هذا الأمر بينَ الأولاد، بل يُحسن إليهم جميعاً.. وهنالك مجموعة روايات في تراث أهل البيت (عليهم السلام) تدلُ على أنَ الأب لا يُميز بينَ أولادهِ في العطاء وهو حيٌ يُرزق، فلا يُقدم ولداً على ولد.. فقد روي عن النبي (صلی الله علیه) أنه قال: (سَاوُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، فَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلا أَحَدًا لَفَضَّلْتُ النِّسَاءَ)، أي عندما تعطي هذا قطعة أرض أعط هذا قطعة مشابهة!.. وتفضيل النبي (صلی الله علیه) للنساء هو لأن هذا الولد من الممكن أن يسعى في الحياة، أما هذهِ البنت قد لا تتزوج، أو قد تُبتلى بزوجٍ بخيل!..
فإذن، إن المؤمن لا يقوم بما يوجب الفتنة بين الأولاد، بل يعدل حتى في القُبل؛ لئلا يزرع في قلوبهم الضغينة.. جاء عن رسول الله (صلی الله علیه): (أنه نظر إلى رجل له ابنان فقبّل أحدهما وترك الآخر، فقال (صلی الله علیه): «فهلاّ ساويت بينهما»).. وقال (صلی الله علیه) : (اِنّ الله تعالى يحبّ أن تعدلوا بين أولادكم حتى في القُبَل).. فعدم العدل بين الأبناء من موجبات العقوق عند بعض الأولاد، وبما أن طبيعة الإنسان غير المؤمن طبيعة غير مُراقبة، فإنه من الممكن أن يقع في هذا الفَخ الشيطاني.
القاعدة الخامسة: السيطرة على قلب الولد.. إن البعض لهُ علاقة رسمية بأولاده، فحتى الصغير منهم لا يعطيه حقه!.. بينما من صور القُرب إلى الله عز وجل، أن يجعل نفسه صبياً أمامَ الولد الصغير، فالنبي (صلی الله علیه) على عظمته كانَ يُركبُ ولديه على ظهره.. فعن جابر أنه قال: (دخلت على النبي والحسن والحسين على ظهره، وهو يجثو بهما، ويقول: نعم الجمل جملكما!.. ونعم العدلان أنتما)!.. وهذه الرواية منقولة عن أبي هريرة حيث يقول: (سمعت أذناي هاتان، وبصر عيناي هاتان رسول الله أخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين، وقدماه على قدم رسول الله ، ورسول الله يقول: “ارقه!.. ارقه”!.. قال: فرقى الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله، ثم قال رسول الله: “افتح فاك”!.. ثم قبله، ثم قال: “اللهم!.. أحبه فإني أحبّه”).. يراد من هذه الحركة تأصيل مفهوم (من كان عنده صبي، فليتصاب له).. أما إذا صار مراهقاً، فليعامله معاملة المراهقين؛ أي يتكلم بلغته، ويدخل إلى قلبه بالأساليب المحببة إليه.. فإذن، إن الأب الصالح يتنزلُ إلى مستوى ولدهِ ليكسبَ قلبه!.. البعض يريدُ أن يسيطر على بدن الولد؛ فيضربه!.. أما الأبُ الصالح فإنه يسيطرُ على قلب الولد، لأنه إذا مَلَكَ قلبهُ؛ يكون قد مَلكَ كُلَ شيءٍ فيه!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.