إن المؤمن في صلاته اليومية، هناك سورة، وآيات، وذكر في الركوع والسجود؛ لا يمكنه مخالفتها.. ولكن الفرصة التي أتيحت للمصلي كي ينطلق في مناجاة مفتوحة مع رب العالمين، هي القنوت.. فالإنسان في القنوت يتحدث مع ربه بالمأثور وغير المأثور، والأفضل المأثور.. ولكن ليس هناك مانع بعد الانتهاء من المأثور، أن يناجي الإنسان ربه بما يشاء، حتى أن الفقهاء يقولون في كتبهم: أن القنوت من الممكن أن يكون بغير العربية؛ أي من الممكن أن يناجي المصلي ربه بلغته الأم.. طبعا هذا لا يعد قنوتا، ولكنه لا يبطل الصلاة.
وعليه، فإن الإنسان جيد أن يلتزم بالمأثور.. ولكن الذي يقرأ دعاء ثابتا طوال عمره، لا يغير منه شيئا، -كأن يقرأ مثلا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}-.. يتعود على لفظة ثابتة، فلا يتفاعل.. لهذا بعض المؤمنين يستثير دمعته بمناجاة من مناجيات شهر رمضان، هل هناك مانع إن قسا قلبه أن يقول: (وَمالي لا أَبْكي وَلا اَدْري إِلى ما يَكُونُ مَصيري… اَبْكي لِضيقِ لَحَدي، اَبْكي لِسُؤالِ مُنْكَرٍ وَنَكيرٍ اِيّايَ…)!..
إن المؤمن يستثير دمعته بما أمكنه من الأدعية.. هناك مجموعة من الأدعية القرآنية تبدأ بربنا أو ربي، من المناسب أن يُطعم المصلي قنوته بهذه الأدعية، مثل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.
{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}.
{رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} .
{رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}.
{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}.
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.
إن من الملاحظ أن هناك صلاتين فيهما قنوتان، والغريب أن إحدهما في الملأ العام وفي جمع من المؤمنين، والأخرى في جوف الليل.. وهما: صلاة الجمعة، والوتر.. صلاة الجمعة فيها معاني سياسية، وفيها خطبة، وفيها حديث يتعلق بشؤون المسلمين، والإنسان في صلاة الجمعة يقنت قبل الركوع وبعد الركوع.. وكذلك فإن هذه الحركة واقعة في صلاة الوتر في جوف الليل.
لعل السبب -والله العالم- أن الجو جو استجابة، وفي جوف الليل رب العالمين يقبل على عبده (سُئِل الإمام زين العابدين عليه السلام: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجهاً؟.. قال: لأنهم خلو بربهم، فكساهم من نوره).. هنيئا لمن كان له هذا المقام!.. ولا تفوتكم ثلاثة مائة مرة “العفو”.
يستحب عند الاستيقاظ في الليل، النظر إلى السماء، لما في ذلك من عظيم التدبر {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ}.. انظروا إلى جامعية الإسلام: أنت قمت لصلاة الليل، ولكن لا تنسى التفكر!.. الذكر حسن، والمناجاة جميلة.. ولكن انظر إلى السماء، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.