– إن هذا الكتاب المتعلق بقصار كلماته أو غرر الحكم، يصلح لأن يكون رفيقا مسلياً في السفر.. وأيضا كلمات الإمام أمير المؤمنين (ع)، مواد ثرية ودسمة للتأمل.
– إن عليا (ع) كان رفيقاً بأصحابه.. فعلاقة علي (ع) مع ميثم، ومع رشيد، ومع كميل، ومع من كان معه.. كانت علاقة الأخوة، لا علاقة العلو، وعلاقة الحاكمية.. وعلي وهو الذي يأنس بذكر الله -عز وجل- في خلوات الليل، بعض الأوقات كان يبدي شوقه إلى أصحابه الذين مضوا، كان يتأوه عليهم ويذكرهم بخير.. هكذا كان وفياً.. وعندما مات سلمان في المدائن، ذهب علي (ع) -بقدرة الله عز وجل- إلى تلك الأرض، وهو الذي تولى تكفينه وتجهيزه.
– إن كميلا يقول: (أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأخرجني إلى الجبان.. فلما أصحر، تنفس الصعداء، ثم قال: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها).. علي (ع) في هذه الجملة، أراد أن يوسع من إناء التلقي عند كميل.. أراد أن يثبت العرش، ثم يأتي بالنقش.. بعد أن تنتقل الذبذبات، تنتقل هذه المعلومات إلى جهة مبهمة، تحول المعلومات المخية إلى معلومات نفسية.. يأخذ هذه الصغريات والكبريات، ويلفق فيما بينهما، هذا أيضا من آيات الله.. بعد أن يحمل الجهاز المعلومة واعتقد بها.. بتعبير علماء المنطق: تحول من التصور إلى التصديق، وإلى التبني بعد ذلك.. فإذن المعلومة تنتقل من مصنع إلى مصنع: الهواء، والطبلة، والعظمة، والمخ، وذلك الجهاز المجهول، إلى أن يصل إلى جهاز الإدراك.. وهنا تبدأ مرحلة معقدة جداً، حيث أن أغلب الناس يفشلون في هذه المرحلة، وهي مرحلة تحويل الفكرة المتبناة إلى فكرة محبوبة، يريدها الإنسان كمشروع في الحياة.
مثلا: عندما تتكلم مع شاب يرتكب الحرام حول الزواج، وتقدم له البديل.. تراه عازفا عن الزواج الحلال، ليلتهي بالمحرمات المسلية المتفرقة.. هنا القلب لا يتبنى المعلومة.. ومثال آخر: المدخنون والبعض منهم أخصائي في أمراض الرئتين، ومع ذلك ترى آثار الصفرة تعلو فمه وأسنانه.. هذا الإنسان ليس عنده مشكلة في الإدراك، فهو يقدم محاضرة في آثار التدخين؛ ولكن القلب أين موقعه في الوجود؟.. الجهاز المدرك أشبه شيء بمستشار السلطان.. السلاطين والوزراء والأمراء لهم مجموعة باسم المستشارين، يأخذون منهم الآراء، وقد يعملون بها وقد لا يعملون.. فالقرار بيد الحاكم!.. وكذلك فإن حاكم الوجود هو القلب، هو ذلك الوسيط الملاصق لعضلات البدن.. مثلا: إنسان جالس في بيته، يسمع أن هنالك محاضرة دينية قيمة، فبعد أن يعتقد ويحب يقول: يا رجلي تحركي، يا يدي تحركي، ويحرك السيارة، ويذهب للمكان الفلاني.. فالقلب هو الجهاز الذي يأمر عضلات البدن، مباشرة أو عبر وسيط يسمى الإرادة.
فإذن، ماذا أصبح ملخص الفلسفة؟..
صوت ذبذبات، وجهاز مدرك، ثم قلب واعٍ، ثم إرادة، ثم العضلات.. هذه هي مراحل العمل بالصوت المسموع: أوله صوت، وآخره حركة.. كأن علي (ع) يضع يده على القلب ويقول: (إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها)!.. أي يا كميل كلامي يصل إليك، وأنت تعتقد بالفكرة.. ولكن حاول أن تعمل في تجهيز هذا القلب، الذي يأمر وينهى.
– كيف نوسع من إناء القلب؟..
– إن هنالك حركتين: هنالك حركة من العبد، وهنالك حركة من الرب.. حركة الرب تنتظر حركة العبد، وحركة الرب هي الحركة الحاسمة.. حركته هي الحاسمة، إلا أنها مترتبة على حركة العبد.. ما هو المطلوب منا في توسعة وعاء القلب؟..
– إن هنالك عدة آليات، خير الكلام ما حولناه إلى آليات عمل.. الكلام بالوعظ المبعثر في الفضاء لا يفيد، إذ لابد أن يكون هناك تطبيق عملي على الأرض.. ماذا نعمل؟..
أولا: عدم مخالفة الأحكام العقلية: يجب عدم مخالفة المتبنيات التي اعتقدنا بها اعتقاداً صحيحاً.. فالقلب كالأمير، هذا الأمير إذا أعطيناه صلاحيات الحكومة، يبقى حاكماً وإلا يعتزل ويقول: ما هذا الحاكم الذي لا قيمة له في مملكته؟.. إذا أنا حاكم لابد أن يكون لي دور في أخذ القرار.. وحتى المستشار إذا لم يسمع كلامه، أيضاًَ يقطع مشورته ويقول: لا خير فيه.. ولهذا قيل: (لا رأي لمن لا يطاع).. فالمتبنيات النظرية إذا لم نعمل بها في مقام العمل، هذا القلب يضيق ويضمر مثل أعضاء البدن.. فإن الذي لا يستعمل عضوا من بدنه، يصاب بالضمور والخمول، وبعد فترة يصاب بالشلل.
– إن معظم الذنوب هذه الأيام منشؤها النظر، فالتفاعلات القلبية والجوارحية، والمخالفة الخارجية، كل ذلك من النظر.. عندما ينظر الإنسان إلى فتاة تمر في الشارع، وهو يعلم أنه لن يصل إليها: إما لعدم المسانخة، وإما لوجود الموانع.. هذا المنظر المحرم ما هو فلسفته؟.. فالعاقل كل حركة يقوم بها، تكون لغرض، فماالغرض من نظرة محرمة شهوية، وهذه المادة ستغيب عن الأفق بعد ثوان؟.. إذن العقل يقول: دعك عن هذا النظر!.. إن الذي يترك شرب الخمر لا لحرمته وإنما لسكره، سقاه الله من الرحيق المختوم.. هذا الإنسان ليس متعبدا لله، ولكنه ترك الخمر للعقل؛ لأن هذا الإنسان يجل نفسه، ويحترم إنسانيته، ولا يجعل نفسه ألعوبة بيد الأطفال.. رب العالمين يقول: أنا أعطيتك من الرحيق المختوم، فكيف إذا كان لوجه الله؟.. يبدو رب العالمين يريد هذا الترفع وهذا التعقل، وإن لم يكن من باب التعبد.
فإذن، إن مخالفة الأحكام العقلية، توجب ضمور القلب، وتضيق الإناء.. بينما العمل بما أمرنا به، يوجب سعة هذا الوعاء وهذا القلب.
ثانياً: مخالفة الهوى: إن هذا القلب عبر الإرادة، يصدر أوامر: لا تنظر إلى الفتاة!.. هنالك هرمونات في البدن تقول: انظر إلى الفتاة.. العين -مثلا- تقول: انظر!.. أنا إنسان جائع في هذا المجال، ما دام لا يمكنك الوصول، على الأقل أملأ عينيك منها!.. هنا تقع المفارقة بين الجهاز العاقل، والجهاز المدبر.. بين هذا الأمير، وبين ذلك العدو المتربص، وهو اسمه الهوى.. إلى درجة أن هذا الهوى يقوى في الوجود، بحيث يصبح بمنطق القرآن الكريم، إلها يعبد من دون الله {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}؛ الهوى يصبح إلها معبوداً.. فجو الشريعة جو رياضة، وجو تروك.. الحاج في الحج يحرم، فيصبح عنده تروك الإحرام.. وعندما يكبر للصلاة، هناك تروك الصلاة.. وعندما يدخل شهر رمضان، هناك تروك الصيام.. هذا غير التروك العامة، حيث أن هناك تروكا طوال السنة.. والإسلام يريد من خلال هذه الأمور، أن يوسع من إناء القلب، وما اتساع إناء القلب إلا التقوى، ولهذا يقول الله -عز وجل- في الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
ثالثاً: التدبر والتفكر: يجب أن يكون الإنسان متعبدا متفكرا.. إنسان يفلسف في قاعة الجامعة، وينظر ويتكلم ويتكلم، وفي مقام العمل المؤذن يقول: الله أكبر!.. ولا يعتني بصلاته، وقد يكون أستاذا في الشريعة، أو أستاذا في الفلسفة، ولكن لا قيمة لهذه الأستاذية.. وإنسان حمامة المسجد، عينه على الصلاة والذكر، ولكن لا تدبر له في الحياة: لا يفكر في عواقب الأمور، ليست له قدرة تحليلية في فهم واقع الحياة؛ أيضا هذا الإنسان لا قيمة له، ليست له قيمة كبرى.. كونوا كلقمان الذي جمع بين العبادة لله -عز وجل- وبين الكلمات الحكمية.. رب العالمين لم ينقل من كلام النبي (ص) مقدار ما نقل من كلام لقمان، {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}.. ما هذا التجليل؟.. لقمان الذي لعله -حسب أرجح الأقوال- أنه ليس بنبي، ولكن آتاه الله الحكمة.
– إن الحكمة هو ذلك الجهاز الذي يوسع إناء القلب، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ}.. إذا عمل الإنسان بهذه الآليات: مخالفة للهوى، وتدبرا وتفكرا، وإطاعة للمستشار الذي سميناه العقل والفكر؛ عندئذ رب العالمين له آلاف الآليات.. كيف يوسع هذا الإناء؟.. في ليلة يوسع الإناء: في ليلة واحدة رب العالمين وسع إناء الحر بن يزيد الرياحي، إلى درجة أنه رأى أن القتل بين يدي إمام زمانه غاية المنى.. رب العالمين إذا رأى في العبد إخلاصاً وقابلية، وسع له هذا الإناء.. وهنالك عروض مثل العروضات التي تتم في الأسواق في بعض المناسبات.. إن الله -عز وجل- في شهر رمضان، يعطي هذه الخاصية للعباد، فيوسع من قابلياتهم.. لماذا لا نفكر في ليلة القدر أن نأخذ خاصية الحياة، وتجارب الحياة، وعقل الإنسان في سن الثمانين؟.. أي نعطى في ليلة القدر ألف شهر أكثر من ثمانين سنة.. هل أحدنا طلب من الله -عز وجل- أن يهبه عقل ثمانين سنة في ليلة القدر؟.. عيوننا على الحور والقصور والنعيم، وهذا مضمون للمؤمن شاء أم أبى، فالإنسان الذي يموت على الشهادات الثلاث هو من أهل الجنة قطعاً.. ولكن تنافسوا في الدرجات!.. في ليالي القدر سلوا الله -عز وجل- هذه المضامين الراقية!.. وفي الأدعية الموجودة: اللهم!.. اجعل لنا من لدنك نورا نمشي به في الناس.. هذا القلب يتسع بهذا الدعاء: اللهم!.. أرنا الأشياء كما هي.. أي اجعل واقع الأشياء من دون رتوش، نحن نتعامل مع الخارج من خلال الوجود الذهني، لا الوجود الحقيقي.. أحدنا لم ير وجهه إلى الآن، إلا من خلال المرآة، والمرآة صورة ليست بواقع.. فالإنسان لا يرى واقع نفسه إلا من خلال هذه الصور، فكيف بباطنه؟!..
– إن على المؤمن أن يسأل الله -عز وجل- في هذه الليالي المباركة أن يجعل له هذا النور، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}، كل الأنبياء حكماء!.. ولكن جاء بمثل من عامة الناس.. فرب العالمين اختار آسيا بنت مزاحم، لأن يوسع من إنائها، إلى هذه الدرجة التي تطلب من الله -عز وجل- مقام العندية: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}.. ومريم (ع) وغيرها من الصالحين طوال التأريخ.. إذن هذه فرصة مناسبة ونادرة لتوسعة هذا الإناء.. فالإناء إذا اتسع طبعا له آثار، وهذه الآثار مذكورة في القرآن الكريم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}.. ربما سعة درجات الجنة، بمقدار سعة هذا القلب.
– إن على المؤمن أن تكون أمنيته قبل الممات، أن يوسع القلب إلى أكبر مساحة ممكنة، ليلقى الله -عز وجل- وهو في أفضل حالاته {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.. ليس القلب السليم في سن العشرين، والذي تحول إلى نفس أمارة في الستين.. ما الفائدة هو لاقى الله بالقلب الذي خرج من الدنيا به.. البعض يرفع شعار: أتمنى الشهادة في سبيل الله!.. دعك عن هذا الشعار!.. لا تتمنى الشهادة الآن، بل قل: يا رب، أريد الشهادة وأنا في أحسن حالاتي من الكمال.. الشهيد شهيد، ولكن قيمة الشهيد بنفسه.. النفس عندما تصبح كنفس الحسين (ع) تكتسب الخلود.. وإلا أصحاب الأخدود أيضا قتلوا في سبيل الله، ولعل قتلهم أصعب من قتلة أصحاب الإمام الحسين: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}.. الإنسان الذي يحترق بالنار أين، والذي يضرب ضربة بالسيف ويموت أين؟.. ولكن الحسين وأصحابه أرقى من أصحاب الأخدود.. هذه شهادة وهذه شهادة، ولكن النفوس كانت مكتملة.. وفرصتنا هي هذه الحياة الدنيا {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}.. ولهذا لو أن أحدكم دخل المقبرة، وفكر في هذا المصير المجهول المعقد الموحش، وكيف أن الإنسان يعيش أبد الآبدين بهذا القلب: المنكوس، أو المطمئن، أو اللوام، …الخ؛ لاعتبر وعمل من أجل تنقية هذا الإناء وصقله!..
– ما هو القلب السليم؟..
– إن القلب السليم هو ذلك القلب الذي لا يحب الحرام، وهو ذلك القلب الذي يحب ما يحبه الله: (اللهم!.. أقطع عني كل قاطع يقطعني عنك).. (اللهم!.. إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يوصلنا إلى قربك).. إلى أن يقال: القلب السليم هو ذلك القلب الذي يلقى الله وليس فيه أحد سواه.. قلب خال من كل شيء، ليس فيه شيء إلا الله عز وجل.. حتى حبه لولده، لأن الله أمره بهذا الحب، وإلا هذا الحب أيضا لا وجود له.. وبتعبير العلماء في الحوزات: حب طولي، لا حب عرضي.. أحب الله، فأحب من أمر الله بحبهم، وهكذا كان النبي (ص) وأئمة أهل البيت (ع).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.