تضييع الفرص..
يقول تعالى في سورة “هود”: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾؛ لقد كان هناك فرصة لنجاة هذا الولد الذي لم يكن باراً بأبيه، ولم يكن مطيعاً لربه، فكان من المغرقين!.. هذه الآية يُضرب بها المثل في تفويت الفرص، وقضية الفرص مسألة مهمة في حياة الإنسان، فكم يأتيه من فرص الفوز والنجاة والربح، ولكنه لا يغتنمها!..
الفرص في الحياة..
أولاً: فرصة الفراغ قبل الشغل.. إن الشاب المتزوج حديثاً هو في أفضل أوقات العمر: لأن الإنسان الأعزب يعيش حالة من حالات الشهوة التي لا تُطفأ؛ أي إثارة من دون إشباع.. والمتزوج الذي له أولاد؛ هذا إنسان مشغول بأولاده.. أما المتزوج الفارغ الذي له: زوجة مطيعة، ورزق يكفيه؛ فهذه فرصة العمر بالنسبة له، والذي لا يغتنمها يفوّت على نفسه الفرصة!..
ثانياً: الفرص المكانية والزمانية..
١. الفرص المكانية: إن الإنسان الذي يذهب إلى العمرة -مثلاً- والساعة التي يمكن أن يمضيها في الطواف، أو في الصلاة عند الكعبة؛ ويفوتها بالنوم الطويل، أو بالجلوس مع أصدقائه، أو بالأكل المتواصل؛ هذا تفويت لهذه الفرصة المكانية!.. لذا بعض من يذهب إلى العمرة أو الحج؛ يبقى على ما هو عليه!..
٢. الفرص الزمانية: هناك تفويت للفرصة الزمانية، ومثاله شهر رمضان الذي كل نفس فيه تسبيح، وكل لحظة فيه يكون الإنسان في ضيافة الله عز وجل.. ومع ذلك هناك من لا يستغل هذه الفرصة!..
ثالثاً: الفرصة الحالتية.. يقول العلماء: إذا جاءتك حالة الرقة لا تقطعها باختيارك، دعها تزول تدريجياً.. فهذه الحالة من الطبيعي أنها ستزول، ولن تبقى مع الإنسان؛ هي عبارة عن منحة لمدة ساعة أو نصف ساعة، وبعض الأوقات لمدة دقائق فقط ثم تذهب.. إذا ذهبت الرقة عندئذ يقوم الإنسان من مكانه، وإلا عليه البقاء على ما هو عليه!.. فمثلاً:
١. إن الإنسان الذي يُقيم الليل وهو مقبل، هذه فرصة من فرص العمر، فإن قطع هو بنفسه إقباله؛ هذا تفويت لهذه الفرصة.
٢. إن الإنسان الذي يذهب إلى المسجد، ويصلي المغرب وهو مدبر، ويصلي العشاء وهو مدبر أيضاً؛ ولكن عند صلاة الوتيرة كان مقبلاً، هنا عليه ألا يقطع الحالة باختياره؛ هذه منحة إلهية، طالما كان ينتظرها، عليه أن يغتنم فرصة الإقبال هذه التي أتته بلا احتساب!..
٣. إن جاءت الرقة للإنسان وهو في الركوع، عليه أن يطيل الركوع؛ لأنه من الممكن أن تذهب هذه الحالة عندما يذهب إلى السجود.. وإن جاءت الرقة في القنوت؛ عليه أن يطيل قنوته؛ كي لا يكون سبباً في سرعة ذهاب هذه الفرصة!..
اغتنام الفرص..
١. عن النبي الأعظم (ص): (مَنْ فُتِحَ لَهُ بَابٌ مِنَ الْخَيْرِ فَلْيَنْتَهِزْهُ؛ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَتَى يُغْلَقُ عَنْهُ).. عندما يُفتح باب الفرصة للإنسان، عليه أن يغتنمها؛ لأنها منح إلهية!..
٢. عن الإمام علي (عليه السلام): (انتهزوا فُرص الخير؛ فإنّها تمرّ مرّ السحاب).. فكما أن هناك غضباً تراكمياً: أي أن الإنسان قد يرتكب ذنباً واحداً، فلا ينزل عليه العذاب؛ ولكن بعد أن يصل إلى الذنب الرابع أو الخامس؛ تهبط درجة الميزان، فيحلل عليه الغضب، يقول تعالى: ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾.. هنالك أيضاً منح تراكمية: قد يقوم الإنسان بعمل صالح عشرات المرات، فلا يُعطى جائزة؛ ولكنه يقوم بعمل صالح آخر؛ فيُعطى منحة الإقبال!.. هذه فرصة رب العالمين لم يعطه إياها إلا بعد عشرات الأعمال الصالحة؛ لذا عليه أن يغتنمها!..
٣. عن الإمام المجتبى (عليه السلام): (يا ابن آدم!.. إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فجد بما في يديك.. فإن المؤمن يتزود، والكافر يتمتع)!..
-(إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك).. أكبر الناس سناً هو الرضيع؛ لأن الفرصة أمامه طويلة.. وكلما تقدم في العمر، يقلّ عمره لا يكبر!.. والمؤمن له في ختام كل ليلة حالة من حالات الحزن -إن كان يلتفت- لأنه كل يوم يقترب خطوة إلى القبر أكثر فأكثر!..
-(فجد بما في يديك).. هذه عبارة جميلة، إذا أراد الإنسان أن يستمتع استمتاعاً محرماً أو استمتاعاً يشغله عن عبادة، كأن يُؤذَّن لصلاة الظهر، والإنسان مشغول بطبق شهي، أو في جلسة ساهية لاهية؛ عليه أن يجعل هذه الرواية أمامه دائماً وأبداً، ولا بأس أن تكتب هذه الرواية في غرفة الطعام، لتكون مذكرة!..
-(فإن المؤمن يتزود، والكافر يتمتع).. فرق بين التمتع والتزود: فالإنسان الذي يذهب إلى محطة البنزين، ويتزود بالوقود؛ فإنه يُكمل سيره، لا ليقف في مكانه، ويشتغل بالأكل والشرب، وهو في ذلك المكان.. المؤمن هكذا يتزود: فنومه هو زاد لآخرته، لأنه إذا لم ينم لن يستيقظ نشطاً لصلاة الليل.. بعض الناس ينام مبكراً لا لأجل الصحة والعافية فقط، فمن موجبات العافية؛ النوم المبكر، ولكنه يخشى إن نام متأخراً ألا يستيقظ لصلاة لليل، ولو استيقظ فإنه يخاف أن يتكلم وهو من غير وعي، فلا يُعطي صلاة الليل حقها؛ هذا شعار المؤمن في كل تقلباته!..
٤. عن الإمام علي (عليه السلام): (بادر الفرصة، قبل أن تكون غصة).. هناك أنواع من العذاب في القبر، ومن أشد أنواع عذاب القبر على ما يُفهم من بعض القضايا: هو الحزن على ما فات الإنسان من الفرص، وتضييع العمر، حتى لو بالحلال، لأنه كان بإمكان الإنسان أن يتزود لآخرته، ولكنه اشتغل بالمباح عن المستحب، يقول تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.