- ThePlus Audio
الغيبة في الكتاب والسنة
بسم الله الرحمن الرحيم
علة التشديد على عقوبة الغيبة
حديثنا يتناول محرما من المحرمات الشائعة في أوساط المؤمنين وغير المؤمنين والذي يستهين به الكثيرون فلا يرون فيه ذلك القبح الموجود في سائر المحرمات، وأعني بذلك الغيبة.
عندما يراجع الإنسان قائمة المحرمات في الشريعة يلاحظ أن الكثير منها تحتوي إما على لذة من اللذات أو تحقق للإنسان مكسبا ماديا أو ترفع من أمامه عائقا من العوائق. كالمحرمات التي ترتبط بالغريزة التي يبحث الإنسان من وراءها إرضاء شهواته وقضاء أوطاره. أو كالسرقة والربا وغصب الحقوق وقطع الطرق وما شابه ذلك التي يبحث الإنسان من خلالها عن المال الذي هو مادة الشهوات جميعا. أو كالقتل الذي يبغي القاتل من وراءه حذف من يعتقد أنه يحول بينه وبين مبتغاه. ولكن الأمر في الغيبة التي أصبحت فاكهة المجالس، وهي كلمات وإشاعات حول الأشخاص لا متعة فيها ولا طائل تحتها. فليس هناك غريزة تدفع الإنسان، ولا مال يكتسبه، ولا ثمة جاذبية تجذبه ولذلك يمكن القول: أنه أسخف أنواع الحرام، وقد يكون ذلك السبب في تشديد عقاب المغتاب.
علة التشديد على عقوبة الغيبة
وقد يغفر للشاب الذي يرتكب بعض المعاصي التي تدفعه إليها الغريزة، ويقبل منه عذره في غلبة الشهوة عليه وغفلة الشباب، وقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (اَلشَّبَابُ شُعْبَةٌ مِنَ اَلْجُنُونِ)[١]، ولذلك فإن الشاب في معرض الرحمة الإلهية وقد روي عن الصادق (ع) أنه قال: (إِنَّهُ يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعُونَ ذَنْباً قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ)[٢]، ولكن الغيبة ليس من هذه المعاصي ولذلك شددت الشريعة على العقاب والعذاب.
علة الاستهانة بمعصية الغيبة
من الأمور التي جعلت الناس يستسهلون الغيبة أن ملكوت الغيبة خافية عليهم. فالذي يسرق مالا أو يزني أو يقتل، يشعر بلسعة الحرام بغض النظر عن الملكوت والآثار التي تظهر جراء ارتكاب هذه المعاصي على الإنسان، والظلمة التي تلف روحه والنتن الذي يستنشقه من وجوده، ولعله ينظر إلى عتاب الملائكة عندما ترفع أعماله إلى السماء، وهو ما نقرأه في المناجاة: (خَيْرُكَ إِلَيْنَا نَازِلٌ وَشَرُّنَا إِلَيْكَ صَاعِدٌ)[٣]؛ فالذي لم تنطمس سريرته يشعر بوخز الضمير بعد ارتكابه للمعاصي، وينيب إلى الله عز وجل بعد ذلك، يشتد وخز الضمير والندامة على المعصية بحسب حجم المعصية وعظمها، ولكن الأمر يختلف في الغيبة.
فقد يهتك أحدهم بالغيبة أعراض المسلمين ولا يشعر بالذنب كشعوره بالذنب عند ارتكاب الزنا، ولذلك قام النبي (ص) بمقارنة هذه العصية بالزنا، حيث روي عنه (ص) أنه قال: (يَا أَبَا ذَرٍّ إِيَّاكَ وَاَلْغِيبَةَ فَإِنَّ اَلْغِيبَةَ أَشَدُّ مِنَ اَلزِّنَا قُلْتُ وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، قَالَ لِأَنَّ اَلرَّجُلَ يَزْنِي فَيَتُوبُ إِلَى اَللَّهِ فَيَتُوبُ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَاَلْغِيبَةُ لاَ تُغْفَرُ حَتَّى يَغْفِرَهَا صَاحِبُهَا)[٤]؛ إذ في نظر العامة من الناس أن الزنا فاحشة كبيرة وكما قال سبحانه عنها: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)[٥] والغيبة في نظرهم مجرد كلمات تخرج من الإنسان سرعان ما تتلاشى في الهواء..! وقد ذكرنا أن الدافع للزنا دافع شهوي وتراض من الجانبين في ارتكابها إلا أن في الغيبة تجد أن هناك طرف غائب لا يمكنه الدفاع عن نفسه.
الغيبة في القرآن الكريم
ولذلك صور القرآن الكريم لنا هذه المعصية بأقبح تصوير ممكن وهي حقيقة هذه المعصية وملكوتها الغائب عن الإنسان. فقد قال سبحانه: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[٦]، ويتبين من الآية أن الغيبة تارة تكون فردية يقوم شخص باغتياب شخص آخر ثم يشعر بشيء من الندامة ويستقذر فعله ذلك، وقد تكون جماعية تقوم جماعة باغتياب جماعة أخرى، وقد تكون الأخيرة أفظع من الغيبة الفردية حيث يرى الإنسان من يشجعه على الاستمرار في اغتياب تلك الجهة وقد يكون هؤلاء المشجعين من الصالحين بحسب الظاهر، مما يزيد الطين بلة. وكما يقال في علم الاجتماع: تسوقهم روح الجماعة.
وأما الصورة التي رسمها سبحانه لفاعل هذه المعصية، هو أكل لحم الأخ الميت. وقد حرمت الشريعة أصنافا من لحوم الحيوانات فكيف بلحم البشر. ثم لك أن تتصور الذي يأكل لحم البشر كيف حاله، ونحن نسمع عن أقوام في الغابات يأكلون لحم البشر فنصفهم بأبشع العبارات ونعدهم من الوحوش الذين وصلوا الغاية في التسافل والتوحش. ثم لا تكتفي الآية بوصفه آكل لحم البشر وإنما تصفه بأنه يأكل لحم أخيه ميتا، وهذه مبالغة في تصوير قبح هذه المعصية، ولو قيل: أن أحدا دخل المقبرة فنبش قبرا واستخرج جثة ثم تبين له أنه أخاه ثم بدأ بأكل لحمه الذي أصبح متعفنا – فالآية لم تذكر كيفية اللحم – أليس كان يوضع في قائمة السفهاء والمجانين على وجه الأرض؟ وتشتد العقوبة إذا كان الذي نغتابه عظيما ووجيها عند الله حتى قيل: لحم العلماء مسموم. ولو كان هناك تعبير أشد من هذا التعبير الذي استعمله القرآن الكريم في بيان ملكوت الغيبة لاستعمله، وليس القرآن في صدد بيان مثال شاعري وإنما يريد أن يقول: أنتم الذي تشمئز نفوسكم من مجرد سماع هذا المثال فكيف تقومون بفعله؟ وقد بين القرآن ملكوت الفعل إذ لكل فعل ملكوت، حتى كان من عظيم فخر إبراهيم (ع) أنه رأى ملكوت السماوات والأرض.
تأثير الغيبة على انحراف الأفراد
أضف إلى ذلك، تأثير الغيبة على بنيان المجتمع والسلم فيه. فتارة يغتال الإنسان شخصا، وتارة يغتال شخصية حيث باغتيابه يجعل الشخص الذي كان بالأمس من رواد المساجد ومن المؤمنين، أن يبتعد من هذه الأجواء لما لعب المغتاب بسمعته، وهتك من أستاره. وقد يذهب في طريق الحرام وتحتوشه شياطين الإنس والجن حتى يحولوه بعد برهة من الزمان إلى بؤرة من بؤر الفساد والانحراف، وما ذلك إلا بسبب كلمة منك هتكت بها ستره وأسقطه من أعين الناس وأبعتده عن أجواء الطاعة ودفعته دفعا إلى الفساد، فأنزلته من أعلى عليين إلى أسفل سافلين.
معاصي سهلة الوصول
ومن خصويات المعاصي القولية كالغيبة أنها سهلة لا تحتاج إلى تهيئة المقدمات كما تحتاج سائر المعاصي من قبيل الزنا والقتل؛ فهي معاص تحتاج إلى مقدمات قد تكون مكلفة أحيانا، ومن نعم الله على العبد أن يكون فقيرا في بعض الحالات، حيث أن بعض المعاصي تحتاج إلى إمكانيات مالية، والمال من موجبات الطغيان في الأرض. ولا تحتاج المعاصي القولية إلا أن يحرك الإنسان لسانه، وقد من الله على البعض بأن جعل لهم سحرا في البيان وطلاقة وبلاغة وقدرة على الشعر والكتابة، ينبغي استعمالها في الاتجاه الصحيح وفي الدعوة إلى الله سبحانه. وقد روي عن النبي (ص) أنه قال: (مَا عُمِرَ مَجْلِسٌ بِالْغِيبَةِ إِلاَّ خَرِبَ مِنَ اَلدِّينِ، فَنَزِّهُوا أَسْمَاعَكُمْ مِنِ اِسْتِمَاعِ اَلْغِيبَةِ فَإِنَّ اَلْقَائِلَ وَاَلْمُسْتَمِعَ لَهَا شَرِيكَانِ فِي اَلْإِثْمِ)[٧]، فهناك دمار وخراب لا نراه في هذه المعصية.
ولم يصب الشارع المقدس اللوم على المغتاب فحسب، بل جعل المستمع الذي يستمع من دون أن يردعه أو يوقفه عن السير في هذا الطريق المعوج شريك له. فبإمكان الإنسان من خلال كلمة أن يردع المغتاب وينهاه عن المنكر، وإن لم تؤثر فيه إلا أنه سيتوقف عن الغيبة في محضرك، وبالتالي تكون ممن وفرت عليه الفساد وخففت من وزره ووزك.
الحسرة العظمى في يوم القيامة
ومن الأمور التي يحزن لها الإنسان كثيرا ولا بد أن يضعها في عين الاعتبار، المفاجآت التي تلاقيه في يوم القيامة، ويوم القيامة هو يوم الحسرة. ولو أن الله سبحانه لا يذهب هذه الحسرة من قلوبنا عند دخولنا الجنة لم نهنأ بالنعيم والحور والقصور. فتصور لو قيل لك: أن درجتك في الجنة التقدرية هي غير درجتك الفعلية ثم رأيت الفرق بين الجنتين فرق الثرى عن الثريا أ كان يهنأ لك بال وتتنعم بشيؤ من نعيمها؟ لو قيل لك: أنت كنت مرشحا لكي تجاور النبي (ص) وأهل بيته أبد الآبدين بكفالتك لليتيم الذي كان في الدنيا داره ملاصقا لدارك ولكنك أهملته وأمثالك حتى انحرف وتاه وضل، ولو تكفلته في الدنيا بدريهمات من مالك لحزت هذه المنزلة، كيف سيكون حالك؟
وتذكر الروايات الشريفة أن بعض من في الجنة قد دخلوها وهم ضيفان على أهلها؛ أي لم يدخلوها باستحقاقهم. وتشير بعض الروايات إلى أنه من سكان الجنة من يعيش في ربضها وفي أدنى درجاتها. وفي ذلك اليوم الذي نكون أشد ما نكون حاجة إلى حسنة من الحسنات، تأتي الغيبة لتقضي عليها جميعا، فقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (يُؤْتَى بِأَحَدٍ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اَللَّهِ وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ كِتَابُهُ فَلاَ يَرَى حَسَنَاتِهِ فَيَقُولُ إِلَهِي لَيْسَ هَذَا كِتَابِي فَإِنِّي لاَ أَرَى فِيهَا طَاعَتِي فَيُقَالُ إِنَّ رَبَّكَ لاَ يَضِلُّ وَلاٰ يَنْسى ذَهَبَ عَمَلُكَ بِاغْتِيَابِ اَلنَّاسِ ثُمَّ يُؤْتَى بِآخَرَ وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَرَى فِيهِ طَاعَاتٍ كَثِيرَةً فَيَقُولُ إِلَهِي مَا هَذَا كِتَابِي فَإِنِّي مَا عَمِلْتُ هَذِهِ اَلطَّاعَاتِ فَيَقُولُ إِنَّ فُلاَناً اِغْتَابَكَ فَدُفِعَتْ حَسَنَاتُهُ إِلَيْكَ)[٨].
الوسواس المحمود
ومما يبعد الإنسان عن الغيبة وارتكابها، أن يحسن ظنه بالمؤمنين من إخوانه. والذي يحسن ظنه بالناس لا يقع في هذه المعصية في كثير من الأحيان. وهناك صنف من الناس له حساسية تجاه الكذب، فلا يكذب وإن وقع في ورطة وحساسية تجاه استماع الغيبة وأنعم بها من حساسية، فهذا وسواس محمود بخلاف الوساوس في الطهارة والعبادات. وقد روي عن الإمام الكاظم (ع) أنه قال لمحمد بن فضيل: (يَا مُحَمَّدُ كَذِّبْ سَمْعَكَ وَبَصَرَكَ عَنْ أَخِيكَ وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَكَ خَمْسُونَ قَسَامَةً وَقَالَ لَكَ قَوْلاً فَصَدِّقْهُ وَكَذِّبْهُمْ وَلاَ تُذِيعَنَّ عَنْهُ شَيْئاً يَشِينُهُ)[٩].
من أسباب النهي عن الغيبة
من الأسباب التي نهت الشريعة عن الغيبة، هي أنها من أسباب إشاعة الفحشاء في المؤمنين، وكشف العيوب المستورة، فالذي يطعن في هذا وذاك إنما يبتغون وراء ذلك شيئا بينه أمير المؤمنين (ع): (ذَوُو اَلْعُيُوبِ يُحِبُّونَ إِشَاعَةَ مَعَايِبِ اَلنَّاسِ لِيَتَّسِعَ لَهُمُ اَلْعُذْرُ فِي مَعَايِبِهِمْ)[١٠]، والحال أن المؤمن يستر على أخيه المؤمن في جميع الأحوال ويحاول إصلاح عيوبه، فقد روي عن أمير المؤمنين (ع): (أَنَّهُ قَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلاً عَلَى فَاحِشَةٍ قَالَ أَسْتُرُهُ قَالَ إِنْ رَأَيْتَهُ ثَانِياً قَالَ أَسْتُرُهُ بِإِزَارِي وَرِدَائِي إِلَى ثَلاَثِ مَرَّاتٍ فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لاَ فَتَى إِلاَّ عَلِيٌّ)[١١]، والمراد بالستر هنا الستر الإيجابي؛ بأن يستره عن أعين الناس فلا يشيع ذلك، ومن ثم يحاول إصلاح العيب والقضاء على السلبيات الاجتماعية.
النهي عن نقل الأخبار
ومن موجبات الابتعاد عن الغيبة، التثبت قبل نقل أي خبر يتعلق بالآخرين. فقد ينقل بعض الناس كل ما يسمعون من دون قصد غيبة أو انتقاص أو انتقام، ولكنه يفسد بذلك أكثر مما يصلح. وقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ إِنَّ فُلاَناً يَنْسُبُكَ إِلَى أَنَّكَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ مَا رَعَيْتَ حَقَّ مُجَالَسَةِ اَلرَّجُلِ حَيْثُ نَقَلْتَ إِلَيْنَا حَدِيثَهُ وَلاَ أَدَّيْتَ حَقِّي حَيْثُ أَبْلَغْتَنِي عَنْ أَخِي مَا لَسْتُ أَعْلَمُهُ)[١٢]، وكان بالإمكان وهو ينسب الضلال والبدعة إلى إمام الزمان أن يلعن ويتبرئ منه ويدعى عليه، ولكن الإمام (ع) علمنا درسا عظيما نحن في أمس الحاجة إليه.
وقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي إِلَى اَلسَّمَاءِ عَلَى قَوْمٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ بِأَظْفَارِهِمْ فَسَأَلْتُ جَبْرَائِيلَ عَنْهُمْ فَقَالَ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ يَغْتَابُونَ اَلنَّاسَ)[١٣]، وتكفي هذه الرواية لتنفير الناس عن هذا الحرام الذي يستسهله كثير من الناس.
اغتياب الأولاد
ولا يجوز اغتياب المكلف وإن كان في نظر والديه صغيرا، وقد يرى بعض العلماء أن المميز حكمه حكم البالغ، وقد رأينا بعض الأمهات تغتاب ابنتها وتهتك سترها بذريعة أنها ابنتها، والحال أنه لا فرق في ذلك بين ابنتها وابنة الآخرين. وقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال: (مَنِ اِغْتَابَ مُسْلِماً أَوْ مُسْلِمَةً لَمْ يَقْبَلِ اَللَّهُ تَعَالَى صَلاَتَهُ وَلاَ صِيَامَهُ أَرْبَعِينَ يَوْماً إِلاَّ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ)[١٤]. أي أن العمل وإن كان مجزئا إلا أنه لا يؤجر عليه. وقد روي عنه أيضا: (مَنِ اِغْتَابَ مُسْلِماً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يُؤْجَرْ عَلَى صِيَامِهِ)[١٥]، لا أن يغتاب كل يوم بل يكفي أن يغتاب في الشهر مرة حتى يضيع أجره، وبحسب بعض الروايات يخرج من ولاية الله إلى ولاية إبليس.
ما هي الموارد التي تجوز فيها الغيبة؟
ولكن هناك موارد أجاز فيها الشارع الغيبة. فالإسلام دين الواقعية لا دين المثالية التي لا حكمة فيها؛ بل هناك مجموعة من المستثنيات منها: غيبة المتجاهر بالفسق، وهو الذي قد هتك ستره بنفسه ونزع بيده جلباب الحياء فلا حرمة له، فقد روي عن النبي (ص) أنه قال: (مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ اَلْحَيَاءَ فَلاَ غِيْبَةَ لَهُ)[١٦]، فهو اختار العري بنفسه.
وقد أجازت بعض الروايات أن يذكر الرجل التقصير الذي وقع في حقه ولا أذكر ذلك كفتوى وإنما كرواية وردت في هذا المجال، فقد روي عن الصادق (ع) أنه قال: (إِنَّ اَلضَّيْفَ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ فَلاَ يُحْسِنُ ضِيَافَتَهُ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ سُوءَ مَا فَعَلَهُ)[١٧]. ومن الموارد التي تجوز فيها الغيبة، غيبة القاضي الظالم غير العادل وذكر ظلامته التي تعرض لها على يد القاضي إذا لم يمكنه استفياء حقه إلا بذلك، فقد قال سبحانه: (لا يحب الله الجهر)، فلا يذكر ظلامته إلا للذي يستطيع أن يستوفي له حقه.
ومن الموارد التي تجوز فيها الغيبة؛ الاستعانة بالآخرين لتغيير المنكر. كأن يرى شابا مبتلى بمعصية من المعاصي أو يرتاد المواقع المحرمة والفضائيات غير المناسبة، ولا يمكن ردعه إلا بإخبار والده. ومن الموارد الجواز، استفتاء المفتي في أن فلان ظلمني في كذا وإن كان الأفضل عدم ذكر اسمه وذكره بصورة مجهولة كأن يقول: ما رأيك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه أو ما شابه ذلك.
ومن موارد جواز الغيبة، تحذير المسلمين من الوقوع في ورطة أو خطر؛ كأن تحذر من يريد الإقدام على عمل أو زواج أو شراكة من الشخص غير المناسب. وقد استعمل علمائنا الغيبة العلمية في الجرح والتعديل، فذكروا أن الرواي الفلاني كاذب أو وضاع أو ما شابه ذلك من الصفات التي تسقط الشخص من الاعتبار. ومن الموارد أن يرى رجلين رجل على معصية ثم يتناولون الأمر بينهما ويتحدثون عن الرجل بينهما وإن كان الأفضل تنزيه القول والسمع عن هذه الأمور.
تلبيسات إبليس
وقد ذكر علمائنا في كتبهم بعض التلبيسات التي يلبس بها إبليس على البعض في الغيبة، حيث ترى الرجل يقول: الحمد الله الذي عافاني مما ابتلى به غيري وهو يعرض بأحدهم، أو يقول: أن فلان المؤمن رجل طيب طاهر لو لا فعله الكذائي، وهذه من مداخل الشيطان التي يوهم الإنسان بأنه يفعل الخير وبمدح الرجل. أو يقول لأحدهم: يا فلان أدع لأخينا الفلاني في صلاتك بالهداية فقد وقع في ذلك الإثم العظيم، وما قيمة هذا الدعاء الذي جاء بارتكاب هذه المعصية العظيمة؟ ولا بد أن نلتفت إلى هذه الأساليب الشيطانية في تلبيس الحق بالباطل والعكس من ذلك.
وقد ذكر بعض العلماء كلمة أخلاقية في ثوب الفتوى حيث قال: لا يمكن ترك الحرام بقول مطلق إلا من خلال المراقبة الدقيقة وإلا ارتطم بالحرام كما يرتطم الذي يدخل في السوق من غير تفقه بالربا. وهنا قد يتسائل البعض كيف يمكن أن يكفر عن أخطائه السابقة واغتيابه المؤمنين فيما سبق، وهو لا يستطيع أن يطلب منهم واحدا واحدا حيث قد يجر ذلك إلى توسيع الفجوة بينه وبينهم؟ وسنحيل الإجابة إلى النبي (ص) ونستفيه في مسألتنا هذه ومن أدق جوابا منه، فقد قال (ص): (كَفَّارَةُ اَلاِغْتِيَابِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنِ اِغْتَبْتَهُ)[١٨]، أن تستغفر لهم كلما ذكرتهم وليس في مورد واحد، حتى يجمع الله لك هذه الاستغفارات فإذا جاءك يوم القيامة مطالبا وأراد منك حسناتك أعطيته الاستغفار وسلمت لك حسناتك.
[٢] بحار الأنوار ج٢ ص٢٧.
[٣] البلد الأمین ج١ ص٢٠٥
[٤] وسائل الشیعة ج١٢ ص٢٨٠
[٥] سورة الإسراء: ٣٢.
[٦] سورة الحجرات: ١٢.
[٧] بحار الأنوار ج٧٢ ص٢٥٩
[٨] بحار الأنوار ج٧٢ ص٢٥٩
[٩] مجموعة ورّام ج٢ ص١٩
[١٠] غرر الحکم ج١ ص٣٧١
[١١] مستدرك الوسائل ج١٢ ص٤٢٦
[١٢] الکافي ج٤ ص٢٤١
[١٣] إرشاد القلوب ج١ ص١١٦
[١٤] جامع الأخبار ج١ ص١٤٦
[١٥] جامع الأخبار ج١ ص١٤٦
[١٦] تحف العقول ج١ ص٤٥
[١٧] وسائل الشیعة ج١٢ ص٢٩٠
[١٨] الأمالي (للطوسی) ج١ ص١٩٢
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- قد يهتك أحدهم بالغيبة أعراض المسلمين ولا يشعر بالذنب كشعوره بالذنب عند ارتكاب الزنا ولذلك قام النبي ص بمقارنتها بالزنا: (يا أبا ذر إياك والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا قلت ولم ذاك يا رسول الله قال لأن الرجل يزني فيتوب إلى الله فيتوب الله عليه والغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها).
- قد ذكر علمائنا في كتبهم بعض التلبيسات الشيطانية في الغيبة، حيث ترى الرجل يقول: الحمد الله الذي عافاني مما ابتلى به غيري وهو يعرض بأحدهم، أو يقول: أن فلان المؤمن رجل طيب طاهر لو لا فعله الكذائي، أو يقول لأحدهم: يا فلان أدع لأخينا الفلاني في صلاتك بالهداية فقد ارتكب الإثم العظيم.