- ThePlus Audio
الغيبة؛ الدوافع والعلاج الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الغيبة أشد من الزنا
من أكثر الذنوب شيوعا بين المؤمنين والذي يستخف به كثيرا والذي أصبح للأسف الشديد فاكهة المجالس هي الغيبة. وقد استخف بالغيبة رغم أنها من كبائر الذنوب ولم يرى المؤمنون فيها من القبح ما يرون في الزنا وما شاكلها من المعاصي. هذا وقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (إِيَّاكُمْ وَاَلْغِيبَةَ فَإِنَّ اَلْغِيبَةَ أَشَدُّ مِنَ اَلزِّنَاءِ قَالُوا وَكَيْفَ اَلْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلزِّنَاءِ قَالَ لِأَنَّ اَلرَّجُلَ يَزْنِي ثُمَّ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اَللَّهُ وَإِنَّ صَاحِبَ اَلْغِيبَةِ لاَ يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ)[١].
وعادة حالات الاغتصاب قليلة بالنسبة إلى الزنا الذي يتوافقان فيه الطرفان على ممارسته وبإمكان الطرفان أن يستغفرا ربهما فيغفر لهما وينتهي الأمر. ولكن في الغيبة يختلف الأمر حيث يكون طرف من الطرفين غائبا، وقد يغفر للمغتاب وقد يمتنع يوم القيامة. وقد تكون غيبة الناس من بعض الجهات أشد من غيبة العالم المؤمن فقد يغفر الأخير يوم القيامة لما عنده من رصيد ولكن الفاسق لا حل لك أمامه إلا أن تتحمل أوزاره أو تتنازل له عن حسناتك.
الغيبة في القرآن الكريم
لقد تناول القرآن الكريم – باعتباره مصدر الخير في الحياة – مسألة الغيبة والتكلم على الآخرين لا في الآية المعروفة في سورة الحجرات فحسب بل من خلال آيات عديدة منها قوله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)[٢]. فقد يجوز للإنسان أن يذكر ظلامته أمام القاضي أو العالم والمجتهد ليأخذ له حقه، ولكن لا يحق له أن يفعل ذلك من دون وجه شرعي. وقد توقف العلماء عند قوله تعالى: (لا يحب) وبحثوا في ذلك؛ هل أن الله سبحانه له حالات من الحب والبغض كما للبشر تنقدح في نفوسهم أم أنه يريد بذلك بيان حرمة الفعل ذلك؟ والمؤمن تكفيه هذه الكلمة لكي يتوقف عن الفعل إن كان محرما بل حتى لو كان مكروها، فإن المؤمن سوف لن يقربه.
الحب الإلهي أعظم رادع عن المعاصي
فمن يحب الله سبحانه يلتزم بأوامره ويجتنب نواهيه، فقد قال سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي)[٣]. ثم يختم الله سبحانه الآية بقوله: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)؛ أي أن الله يسمع وإن كنت تمارس الغيبة في غرفة مغلقة ويكفي ذلك أن يردع المؤمن عن الحرام هذا. وصدر هذه الآية للمحبين وذيلها للمتشرعين العاديين.
مسئولية الإنسان عن جميع جوارحه
أما الآية الثانية فهو قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[٤]؛ أي لا تتبع قضية ظنية لا علم لك بها لا في الاعتقادات ولا في الأعمال. فلا بد أن تتيقن ثم تعتقد وكذلك الأمر في السلوك الاجتماعي وحكمك على الآخرين والتعامل معهم ينبغي أن يكون على أساس العلم لا الظن. فقد أكد سبحانه أن الإنسان مسئول عن جميع حواسه، ففي يوم التغابن ويوم المكاشفة تشهد عليه جميع أعضاءه، فقد قال سبحانه: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا)[٥]؛ فيقول الإنسان لهذا الجلد الذي لطالما اعتنى به بأنواع الكريمات: هذا جزاء اعتنائي بك أن شهدت علي يوم القيامة؟ فيأتيه الجواب: (قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)[٦].
العالم بجميعه يشهد عليك..!
وهذه الآيات تدل بوضوح على أن العالم كله سمع وبصر، وقد صرح بذلك سبحانه في آية أخرى حيث قال: (ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)[٧]، وكذلك قد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال لأبي ذر: (مَا مِنْ رَوَاحٍ وَلاَ صَبَاحٍ إِلاَّ وَبِقَاعُ اَلْأَرْضِ يُنَادِي بَعْضُهَا بَعْضاً يَا جَارَةُ هَلْ مَرَّ عَلَيْكِ اَلْيَوْمَ ذَاكِرٌ لِلَّهِ)[٨]. فليس ثمة مجال للاستغراب من نطق كل شيء؛ بل حتى الخلجات النفسية والأسرار والمعتقدات التي قد تستحي من ذكرها علنا والتي تضمرها في قلبك هي مكشوفة لله سبحانه الذي يقول: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[٩].
وهل يبقى في سلوك الإنسان خلل إذا اتخذ هذه الآية لوحدها شعارا له في الحياة واعتقد حقيقة أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا يوم القيامة؟ وأنه لا بد من إعداد الجواب لكل حركة وفعل يقوم به؟
آية الغيبة
أما قوله تعالى في سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[١٠]؛ فقد بدأها سبحانه بالأمر باجتناب معظم الظنون لكون بعض هذه الظنون ظنونا سلبية حتى وإن لم يؤاخذ عليها الإنسان بحسب قول بعض العلماء. فلا يحاسب الإنسان إن ظن بأخيه سوءا ولكنه ضبط نفسه ولم يتكلم على أخيه وفقا لهذا الظن ولم يحقد عليه بل استغفر الله سبحانه منه. ولكن الظن الذي يتحول إلى سلوك وإلى كلام ونظرة مريبة وكتابة وما شابه ذلك فهو الذي نهى عنه سبحانه وقال بأنه إثم ينبغي اجتنابه.
ملكوت كل شيء
ثم يقول سبحانه: (وَلَا تَجَسَّسُوا)؛ فلماذا يتبع المرء عورات المؤمنين هل إلا ليفضحهم بها يوما ما؟ ثم ينهى بعد ذلك عن الغيبة ويبين ملكوتها إذ لكل ذنب ملكوت وواقع. لقد قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)[١١]، فأنت بحسب الظاهر تأخذ درهما من حساب يتيم لتشتري به طعاما أو شراب من شاي أو حلوى ولكنك بنص القرآن تأكل نارا، فقد قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا)[١٢]؛ فهو لا يشعر بهذه النار إلا يوم القيامة.
كذلك هو ملكوت الغيبة، فهو كما قال سبحانه: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا). وقد قال سبحانه: أخوك، ومن هنا يتبين أن اغتياب غير المسلم لا إشكال فيه فقهيا إلا أنه لا يجمل بالمؤمن ذكر عيوب الناس بصورة عامة، ولكنه سبحانه قد أعطى حرمة للمسلم خاصة.
لحم أخيه ميتا
ولكن لماذا قال سبحان: (ميتا)؟ لأن الميت لا يمكنه الدفاع عن نفسه، وهذا الذي تغتابه والذي لم تحمل فعله على سبعين محمل والذي حكمت عليه من دون تثبت هو في حكم الميت لأنه غائب عنك. تصور إنسانا يدخل إلى مقبرة ليستخرج منها جثة أخيه ويقتطع منها لحما يأكله، وماذا كنت ستفعل به لو ظفرت به؟ ألا تطرده من البلاد وترمي به في المزابل وتعده من المجانين ولا تحترمه أبدا؟ أليس هذا حال المغتاب الذي ذكره القرآن والذي ينبش عيبا من عيوب أخيه ويستخرجه، فيفضحه به؟ وأعتقد أن هذا المنظر الذي صوره لنا القرآن يكفي ليرتدع الإنسان عن هذا المنكر القبيح ونظائره.
وقد يتحدث الرجل عن أحدهم بعيب وهو شاك في أنه عيب مستور أو غير مستور ولا يعلم إن بلغه ذلك هل يتأذى أو لا يتأذى؟ والحال بإمكانه ترك هذه الشبهة المصداقية. فلو أتاك أحدهم بطعام وقال لك: أن ثمانين بالمئة هو لحم عجل وعشرين بالمئة لحم ميت فهل ستأكله؟ ولذلك قال سبحانه في نهاية هذه الآية الشريفة: (وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)[١٣]. ومن الآيات التي تحوم حول هذه المعصية قوله سبحانه: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)[١٤].
تعريف الغيبة
وينبغي أن نعرف الغيبة تعريفا جامعا حتى لا يقع فيها المؤمنون الذين لا يرغبون في ارتكاب هذه المعصية إلا أنهم يقعون فيها لجهلهم بالتعريف الدقيق. الغيبة؛ أن تذكر إنسانا معينا أو غير معين بما لا يحب أن يذكر به ولا أن يتصف به حتى وإن كان واقعا. والمعين كزيد وعمر وغير المعين أن تقول: أحد أبناء فلان وهم لا يتجاوزون الخمسة فبذلك قد أهنتهم جميعهم لأنها شبهة محصورة. وقد يكون الإبهام تارة أسوأ من التعيين. فإذا ذكرت عيبا ونسبته إلى أبناء زيد والناس وكان العيب محتملا فيهم جميعا فقد قمت بما هو أسوأ من الغيبة المعينة. وإذا كان الرجل أمامك فلن يكون ذكرك له غيبة ولكنه يكون إيذاءا أو افتراءا أو بهتانا أشد من الغيبة، وقد ورد الحديث القدسي: (إِنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ أَرْصَدَ لِمُحَارَبَتِي)[١٥].
الغيبة والبهتان
والغيبة غير البهتان. البهتان: أن تذكر أمرا غير موجود فإذا كان موجودا فهو غيبة. ولذلك قد تنهى أحدهم عن الغيبة فيقول لك: أن ما أذكره موجود فيه والحال أنه لو لم يكن موجودا فيه لكان فعله بهتانا. والأعظم من ذلك أن تحكم على أخيك بالظن ثم يتبين لك صدق ظنك، فعندها تكون كمن بهته وتعاقب عقابه وإن كان ظنك صحيحا، لأنك قد حكمت عليه تبعا لظن قد يصيب ويخطئ. ولا بد أن يكون ما تذكره نقصا في العرف فإذا ذكرت أن فلانا يصلي الليل ولكنه لا يرغب أن يعرف ذلك أحد لا يعد ذلك غيبة لأنك لم تنتقصه بذلك.
وقد تكون الغيبة قولا أو إشارة؛ كأن يشير إلى قِصر أحد أو يشير بيده إلى عقله ليبين أنه ناقص العقل. أو يسأل عن رجل كيف هو فيقول: لا أدري فحوله الكثير من الاستفهامات. أو يعبر عنه بالكنايات كأن يقول: فلان يده مقبوضة أو لا يخرج من جيبه دينار أو جاف وما شابه ذلك من الكنايات.
ثم ما الذي يدفعنا إلى تقييم الآخرين مع وجود هذه الاحتياطات في غير الموارد الضرورية؟ وقد يغتاب أحدهم المؤمن تحت ذريعة النهي عن المنكر والحال أنه يستطيع أن يصارحه بذنبه ويتحدث إليه مباشرة من دون ترويج الباطل وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، فقد قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)[١٦]. وإذا أراد المؤمن أن يبحث عن مجوز للغيبة لا بد أن يكون دقيقا، ولكن لماذا يترك الحكم الواضح ثم يتمسك بالمستثنيات المشكوكة؟
لقد ورد عن النبي الأكرم (ص) تعريف دقيق للغيبة وكلامه (ص) خير الكلام لأنه ما قل ودل فقد قال لأبي ذر رضوان الله عليه: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ اَلَّذِي يُذْكَرُ بِهِ قَالَ اِعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا ذَكَرْتَهُ بِمَا هُوَ فِيهِ فَقَدِ اِغْتَبْتَهُ وَإِذَا ذَكَرْتَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ)[١٧].
دوافع الغيبة
وموجبات الغيبة تكون على قسمين. قسم يبتلى بها العوام من الناس وقد يبتلى بها الخواص عند الغفلة وعدم الدقة في شؤونه المختلفة فيرتطم بالغيبة كما يرتطم بالربا المتاجر بغير فقه. من هذه الموجبات، أولا: شفاء الغيظ والذي يتحول إلى حقد إن لم يقم صاحبه بالتشفي وامتنع من ذلك خوفا من الوقوع في المحرمات والتي منها الغيبة. وهذا الحقد يكدر النفس أيما تكدير ويصيب سلامة القلب. فكما ورد عن النبي عيسى (ع) حول الزنا أن مجرد التفكير به يكون بمثابة دخان فهو وإن لم يحرق المكان إلا أنه يسوده ويلوثه كذلك يفعل الحقد الدفين والذي شاء صاحبه أم أبى سيخرج بصورة غيبة في يوم من الأيام من فلتات لسانه.
ثانيا: موافقة الأقران. فقد يكون الرجل جالسا في مجموعة منسجمة في التفكير، فيذكرون عيب إنسان فهو إن سكت خشي أن يظنوه من المعترضين فيخوض مع الخائضين. وما أقبحه من سبب أن يبيع الإنسان دينه بدنيا آخرين. هذا وقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ أَذَلَّهُ اَللَّهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ اَلْخَلاَئِقِ)[١٨]. فكما تحملت ذل المؤمن في الدنيا تحمل الذل على رؤوس الخلائق يوم القيامة من قبل رب السماوات والأرضين.
وتارة يسكت المؤمن عن الغيبة مجاملة أو خوفا من أن يهجم عليه. والحال أنه ينبغي أن يتبع الرفق واللين ويقول: كلامك هذا فيه إشكال وينبغي الاحتياط في الحديث عن الآخرين. وقد يكون لكم مجوز وهو ما ليس عندي فكل يعمل بحسب تكليفه. فقد يكون المتكلم له حق من باب أن العيب مما يتجاهر به المغتاب ولكن المستمع قد يشك في ذلك. وبإمكانه أن يغير مجرى الحديث من خلال سرد قصة أو نكتة أو ما شابه ذلك.
ثالثا: إسقاط المرء من أعين الناس. فكما يقال: أفضل طريقة للدفاع الهجوم. تعلم أن هناك من يريد أن يتكلم عليك فتبادر إلى إسقاطه من أعين الناس لتعزز موقفك وتسلب من الحجية وتسقطه عن الاعتبار. ولذلك عندما طلب النبي الأكرم (ص) كتف ودواة ليكتب للأمة ما يعصمهم من الضلال قال أحدهم: إن الرجل ليهجر، ليسقطه عن الاعتبار فلا يكون لكلامه حجية.
رابعا: المباهاة. كأن يقول أحدهم: الحمد الله الذي عصمنا في هذا البلد ولم يبتلنا بما ابتلى به فلان، حتى يبرز نفسه وكأنه لا طريقة للمباها والتفاخر إلا إسقاط الآخرين من أعين الناس. وهذه الأحكام تنطبق على جميع الأماكن لا تختص بالمسجد وأهلها ولا بمكان دون آخر. فالمؤمن في دائرة العمل وفي الوزارة يتصرف كما يتصرف في المسجد وغيره فلا يسقط أخيه المؤمن الذي يتنافس معه في مجال العمل من عين المدير لكي يرفع من مكانته عنده؛ فهذا من موجبات الوهن ومن مصاديق الغيبة المحرمة.
ولكن قد يكون المؤمن أمينا أو مشرفا على عمل، فلا بأس أن ينهى العامل الذي يخون العمل أو يخل بشروط العمل عن المنكر أو يذكر عيبه لصاحب العمل ليرى فيه أمره وذلك لصالح العمل.
خامسا: الحسد. وسادسا: المطايبة. فقد يرى بعض الناس في الصمت عيبا ولأجل ذلك يخوض في كل حديث ويحاول أن يثير الأحاديث من خلال ذكر عيوب الآخرين. فيقول – مثلا – سمعت الخبر الفلاني؟ سمعت بفلان ماذا قال وماذا فعل؟
ومن موجبات الغيبة للخواص؛ إظهار الشفقة على الآخرين. يقول: إنني أدعو لفلان بالهداية فهو مسكين مبتلى بالذنب الفلاني. ولكن هذا أسلوب صحيح أن يهتك مؤمنا ثم يدعو له؟
ومنها: التعجب. وهو أن يقول: إني لأتعجب من فلان كيف يفعل هذا الأمر؟ ثم يذكر عيب أخيه من باب التعجب والاستفهام وهو لا يعلم أنه قد سقط في البئر.
ومن أخفى صور الغيبة؛ الغضب لله عز وجل. فقد يلبس المؤمن غيبته بالغضب لله عز وجل. فهو قد تكون دوافع إلهية ولكنه يحيد عنها إلى دوافع شخصية من الحسد والتشفي وما شابه ذلك. ولذلك يقال: لا تغضب أكثر مما غضب الله لنفسه وإنما عليك أن تلتزم في ذلك بما ألزمك الشارع المقدس.
ولذلك يحذر المؤمن من دوافع الغيبة جليها وخفيها وهو يعلم أنه إذا استطاع أن يبرر ويغطي على فعله في دار الدنيا فسوف لن يستطيع أن يفعل ذلك في يوم تبلى فيه السرائر وتنصب المحكمة وتوضع الموازين؛ بل يصفي حسابه مع رب العالمين ومع المخلوقين في دار الدنيا.
[٢] سورة النساء: ١٤٨.
[٣] سورة آل عمران: ٣١.
[٤] سورة الإسراء: ٣٦.
[٥] سورة فصلت: ٢١.
[٦] سورة فصلت: ٢١.
[٧] سورة فصلت: ١١.
[٨] وسائل الشیعة ج٥ ص١٨٨.
[٩] سورة غافر: ١٩.
[١٠] سورة الحجرات: ١٢.
[١١] سورة الأنعام: ٧٥.
[١٢] سورة النساء: ١٠.
[١٣] سورة الحجرات: ١٢.
[١٤] سورة القلم: ١٠-١١.
[١٥] الکافي ج٢ ص٣٥١.
[١٦] سورة النور: ١٩.
[١٧] وسائل الشیعة ج١٢ ص٢٨٠.
[١٨] بحار الأنوار ج٧٢ ص٢٢٦.
خلاصة المحاضرة
- تصور إنسانا يدخل إلى مقبرة ليستخرج منها جثة أخيه ويقتطع منها لحما يأكله، وماذا كنت ستفعل به لو ظفرت به؟ ألا تطرده من البلاد وترمي به في المزابل وتعده من المجانين ولا تحترمه أبدا؟ أليس هذا حال المغتاب الذي ذكره القرآن والذي ينبش عيبا من عيوب أخيه ويستخرجه، فيفضحه به؟
- قد يتحدث الرجل عن أحدهم بعيب وهو شاك في أنه عيب مستور أو غير مستور ولا يعلم إن بلغه ذلك هل يتأذى أو لا يتأذى؟ والحال بإمكانه ترك هذه الشبهة المصداقية. فلو أتاك أحدهم بطعام وقال لك: أن ثمانين بالمئة هو لحم عجل وعشرين بالمئة لحم ميت فهل ستأكله؟
- ينبغي أن نعرف الغيبة تعريفا جامعا حتى لا يقع فيها المؤمنون الذين لا يرغبون في ارتكاب هذه المعصية إلا أنهم يقعون فيها لجهلهم بالتعريف الدقيق. الغيبة؛ أن تذكر إنسانا معينا أو غير معين بما لا يحب أن يذكر به ولا أن يتصف به حتى وإن كان واقعا.