- ThePlus Audio
الغفلة عن الله عز وجل
بسم الله الرحمن الرحيم
الغفلة عن الله عز وجل وكيفية التذكر
لقد أكدت الروايات الشريفة كثيرا على ضرورة الخروج من عالم الغفلة عن الله عز وجل، والدخول في زمرة الذاكرين، وقد حددت بعض هذه الروايات الأمور التي لا يعذر الإنسان بجهلها منها قول أمير المؤمنين (ع): (رحم اللّٰه امرئ أعد لنفسه واستعد لرمسه وعلم من أين وفي أين وإلى أين)[١]، وهذه حروف الجر على اختصارها تحمل من المعاني ما لا تتحملها الجبال الرواسي، ولا يكون الرجل غافلا إلا بعد إيمانه بالله عز وجل، فلا يطالب من لا يعترف بالله سبحانه وشعاره: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)[٢] بالتذكر، وإنما التذكر للذي يؤمن بالله عز وجل ولكنه ينساه في زحمة حياته اليومية وعند انشغاله بالأمور الملهية؛ كما نلاحظ ذلك في كثير من المسلمين بل حتى المؤمنين الذين لا يذكرون الله عز وجل حق ذكره إلا في يوم القيامة، قال سبحانه: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[٣].
ما هو الفرق بين الغفلة والسهو؟
وليس من المعقول أن يطالب الناسي لربه تماما أن يتذكر وإنما يحتاج إلى هزة من الأعماق تخرجه من عالمه ذلك إلى عالم الذكر الإجمالي ثم محاولة إخراجه عن الغفلة والسهو. والمؤمن المتذكر إجمالا يبتلى تارة بالغفلة ومرة بالسهو وهناك فرق بينهما ولكل عالم رأيه في الفروق بين الكلمتين إلا أننا يمكننا القول أن الغفلة تكون ممتدة وطويلة وهي حالة بين النسيان المحض والذكر الدائم، كالمؤمن الذي ينسى ربه من الصباح إلى المساء فإذا جاء الليل تذكر. وأما السهو فهي حالة أرقى من حالة الغفلة وهي الغفلة المتقطعة عن ذكر الله عز وجل فهو يذكر تارة وينسى أخرى.
ومما رواه العامة في صحاحهم أنه صلى الله عليه وآله قال: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ بِالنَّهَارِ سَبْعِينَ مَرَّةً)[٤] ولا ندري ما هو المعنى الدقيق لهذه الكلمة فهي من الكلمات المحيرة لأنها تنسب إلى رسول الله (ص) ولقد أبدى أحد النحاة الكبار عجزه عن معرفة معنى هذه المفردة لأن فاعلها هو رسول الله (ص)، فماذا كان يفعل رسول الله (ص) حتى يحتاج إلى أن يستغفر الله عز وجل؟ ويمكن القول أن للمعصوم حالات من القرب الشديد إلى الحق وهي حالات غير متواصلة كحالة النبي (ص) عند سدرة المنتهى وعند المعراج ذلك السفر الذي لم يتح إلا للنبي (ص) وهي حالات تختلف عن حالاته في الحرب وعند حل نزاعات المسلمين أو الانشغال بالأمور المنزلية من التعامل مع الزوجات وغير ذلك، ومما يؤكد أن للنبي (ص) حالات تختلف عن غيرها هو قوله (ص): (لِي مَعَ اَللَّهِ وَقْتٌ لاَ يَسَعُنِي مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ)[٥]، فيكون استغفاره (ص) من أجل ذلك.
وإن المؤمن ليبتلى بالسهو في حياته وقد قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[٦]، وكأن كلمة المس تعني أن هذه الحركة الشيطانية لا تصلى إلى مستوى السريان في العروق وإنما هي حركة عرضية عابرة. وقد قيل: أن أوقات الغفلة والسهو والزلل الذي يرتكبه المؤمن بمثابة الجرعة من التطعيم التي تحصن الإنسان من الأمراض وذلك من خلال إدخال جرعة صغيرة من الجراثيم الضعيفة أو الميتة إلى البدن لكي يستعد البدن ويكتسب المناعة الكافية لمواجهة الجراثيم الحقيقية والقوية التي تعترضه في المستقبل، فقد يغفل المؤمن في حياته اليومية ويسهو ويثرثر ويخوض فيما لا يعنيه ولكنه سرعان ما ينتبه إلى نفسه ويتذكر فيعود إلى أحسن مما كان عليه من قبل.
الأبدان في الدنيا والأرواح في الآخرة!
وبالمجاهدة المتواصة يصل الإنسان إلى مرتبة الذكر الدائم، وهو بلا ريب لا يصل إلى مقام المعصومين (ع) ولكنه يستطيع الوصول إلى ما وصفه أمير المؤنين (ع): (صَحِبُوا اَلدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ اَلْأَعْلَى)[٧]، وهو مقام حاز عليه الكثير ممن عاصروا أمير المؤمنين (ع) وهم خلص أصحابه كسلمان المحمدي وأبي ذر والمقداد ومالك الأشتر وميثم التمار وحجر بن عدي وغيرهم الكثير؛ إذ بإمكان الإنسان من خلال حركة جهادية اختارية أن يصل إلى مرتبة المعراج الروحي وأن يعيش في الدنيا ويتعامل مع أهلها فيبيع ويشتري ويغزو ويقاتل ويقتل وفي الوقت نفسه تعيش روحه في عالم آخر مذهولة عن عوارض البدن وما يجري عليه، ومعروفة قصة أمير المؤمنين (ع) حينما انتزعوا السهم من رجله وهو في صلاته، وطبيعي أن تذهل الروح عن البدن عندما تحلق في عالم الآخرة، وقد ضرب لنا القرآن الكريم مثالا صويحبات يوسف (ع) حينما ذهلن بجماله حتى قطعن أيديهن وهن لا يشعرن بذلك وما جمال يوسف إلا رشحة من رشحات الجمال الإلهي، وأين مقام المعلول من مقام العلة؟!
النتائج الكارثية للغفلة..!
ومن الممكن أن يتعرض الإنسان للغفلة خطأً كتعرضه للجراثيم المؤذية والمهلكة؛ فما الغفلة إلا مرض يسري في وجود الآدمي، وهل هناك من يتعمد التعرض للجراثيم؟ وقد ذكر أهل اللغة في تعريف الغفلة أنها: حالة تعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، فقد يقصر الإنسان في المقدمات ويلام على ذلك إذا كانت الغفلة نتيجة هذا التقصير، كما أن القرآن الكريم أشار أن الغفلة قد لا تكون متعمدة ولكن الإنسان ملوم على النتائج كقوله سبحانه: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً)[٨]، وهذا ما حصل في معركة أحد حيث غفل المسلمون وتركوا ما أمرهم النبي به (ص) فكادت هذه الغفلة تقضي عليهم جميعا وقد تركوا النبي (ص) وحده في وسط الأعداء وولو الدبر منهزمين، وقد قال سبحانه عنهم: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ)[٩]، وهم بلا ريب كانوا حريصا أشد الحرص على حفظ جماعاتهم وأنفسهم أيضا ولكنها الغفلة التي تجر على الإنسان ما تجر.
معركة الباطن وترصد الشيطان
ولابد لنا في مواجهتنا مع الشياطين وهم أعداء الباطن أن لا نغفل عن أسلحتنا! فالغفلة عن السلاح يعني الدمار، ولا ينتظر الشيطان أن يغفل الإنسان غفلة مطبقة وإنما تكفيه الغفلات المتقطة ليجد منها منفذا للإنسان ينفذ من خلالها، تماما كجبهات الحروب التي يحاول فيها العدو أن يجد ثغرة أو غلة فتمكنه الغرة من الاقتحام والالتفاف على الطرف المقابل له.
كيف نخرج من الغفلة؟
ويكفي لخروج الإنسان من الغفلة والوصول إلى غاية الوجود التزامه بالواجبات؛ فلو كان للنافلة ما للواجب أوجبها الله سبحانه ولكنه لم يفرض على الإنسان إلا ما نعرفه من الصلوات اليومية والحج في العمر مرة – فلو علم سبحانه أن الإنسان بحاجة إلى أكثر من حجة في حياته لفرضها – والصيام في السنة شهرا وهو شهر رمضان وهو شهر يكفي لإيصال العبد إلى درجة الكمال ودفع خمس الأموال وسائر ما افترضه الله سبحانه على العباد، ولو التزم العبد بهذه الواجبات لكفته الوصول إلى الدرجات العليا من الكمال.
والصلوات الخمس الواجبة هي من أهم المحطات التي تخرج الإنسان من الغفلة وتجعله متوجها إلى الله عز وجل في يومه وليلته خمس مرات، ولقد شبه النبي (ص) هذه الصلوات بالنهر أمام دار الإنسان، فقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (وَشَبَّهَهَا رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِالْحَمَّةِ تَكُونُ عَلَى بَابِ اَلرَّجُلِ فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي اَلْيَوْمِ وَاَللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ اَلدَّرَنِ ؟)[١٠]. وينبغي أن يبذل المؤمن جهدا كبيرة في إتقان هذه الفريضة، ولو أمضى المؤمن نصف عمره وهو يحاول أن يصل إلى الصلاة الخاشعة نظريا وعمليا لكان به جديرا.
ومن الجميل بين فترة وأخرى أن يقف الإنسان بين يدي ربه ويصلي ركعتين خفيفتين بلا إلزام رباني ولا داع دنيوي ولا ضرورة حياتية؛ وخاصة إذا كان في بيت من بيوت الله عز وجل وفي جوف الليل، وقد ورد عن النبي (ص): (تَنَفَّلُوا فِي سَاعَةِ اَلْغَفْلَةِ وَ لَوْ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُورِثَانِ دَارَ اَلْكَرَامَةِ)[١١]، ولو فارق الإنسان هذه الحياة ثم تبين له هناك أن حسناته وسيئاته متساوية، ألم تكن هاتين الركعتين الخفيفتين مما يثقلان كفة الحسنات ويوردانه دار الكرامة؟
دور الصلاة في رفع الغفلة
ولقد ورد في الحديث القدسي: ( سَمِعْتُ رَبَّ اَلْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ يَقُولُ مَنْ أَحْدَثَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ فَقَدْ جَفَانِي وَمَنْ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَلَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ جَفَانِي وَمَنْ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَانِي لِدِينِهِ ودُنْيَاهُ بِمَا شَاءَ وَلَمْ أُجِبْهُ فَقَدْ جَفَوْتُهُ وَلَسْتُ بِرَبٍّ جَافٍ)[١٢]، فمقتضيات الإجابة موجودة كما يقول الفلاسفة والموانع مفقودة ولم يبقى إلا التأثير، وقد ذكر القرآن الكريم ضرورة الاستعانة بالصلاة في قوله سبحانه: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)[١٣] والصلاة كذلك من مصاديق الصبر بالإضافة إلى الصيام والدليل على ذلك قوله سبحانه: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)[١٤]ولكنه سبحانه أفرد الصلاة لأهميتها الفائقة. والصلاة تحيي القلب وهي عمود الدين ومعراج المؤمن وقربان كل تقي، فلنحاول أن نحول الصلوات الخمسة إلى محطات ذكر وتذكر، وإذا فات المؤمن صلاة من هذه الصلوات الخمس كفريضة الفجر مثلا تختل هذه الخيمة باختلال إحد أعمدتها؛ فالصلاة عمود خيمة الدين.
وقد ورد في الروايات أن للصلاة نورا وجلالا؛ منها ما رواه الصادق (ع) عن آبائه (ع): (لَوْ يَعْلَمُ اَلْمُصَلِّي مَا يَغْشَاهُ مِنْ جَلاَلِ اَللَّهِ مَا سَرَّهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهِ)[١٥]، والمؤمن يحاول أن يحافظ على نور كل فريضة لحين حلول وقت الفريضة التالية؛ فيحافظ على نور صلاة الفجر لحين الظهرين ونور الظهرين للفريضة التي تليهما وهكذا، وقيل: أن كل صلاة من الصلوات هي بمثابة أعمدة الكهرباء التي تعلق عليها المصابيح؛ فكل عمود يضيء مسافة معينة عند انتهائها يأتي العمود التالي ليكمل الإضاءة ولو نظرت من الأعلى لرأيت الطريق السريع مضيء بهذه القطع النورية المتصلة وكأنه قطعة واحدة من النور.
دور القرآن الكريم في تذكير المؤمن
ومن طرق الذكر ورفع الغفلة قراءة القرآن الكريم ولو بمقدار خمسين آية؛ فقليل دائم خير من كثير منقطع، وقد يقرأ الإنسان آية من آيات القرآن تقلب كيانه رأسا على عقب وتغير مسيرة حياته؛ كذلك السارق الذي سمع في جوف الليل من يتلو قوله سبحانه: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)[١٦] وإذا به يلبي نداء الله عز وجل ويقول: بلى لقد آن، ثم ترك ما كان عليه.
ومن الآيات القرآنية التي يقشعر جلد الإنسان منها وتسبب له حالة من حالات الخجل الباطني العميق قوله سبحانه: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[١٧] وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)[١٨] أو قوله جل شأنه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)[١٩]، فلماذا لا يتقرب الإنسان من هذا الرب الودود والرحيم من جهة والمقتدر من جهة أخرى؟ ألا يبحث العاشقون عن الجمال والاقتدار والغنى وكلها صفات متحققة في أعلى صورها في واجب الوجود؟ أليس هو الجمال المحض والكمال المطلق والغني بلا منازع وصاحب القدرة المستطيلة كما نقرأ ذلك في دعاء المباهلة؟
صفات الغافلين
وينبغي لنا أن نعلم حال الغافل وحكمه ووزنه وصفاته، فمن صفاته أن يعيش حالة السكر فلا يعي ما حوله ولا يعلم وزن نفسه وذلك ما أشار إليه القرآن الكريم بعد أن أقسم بحياة النبي (ص): (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)[٢٠]، وذكر الله عز وجل رافع لهذا السكر وموجب للصحوة؛ فهو صاح ما لم يغفل؛ فإذا غفل نزلت به الدواهي الكبرى وحلت عليه الطامة الكبرى.
سعادة الدنيا والآخرة
ومن الأمور المهمة التي ينبغي الالتفات إليها هو أن نعلم أن ذكر الله عز وجل من موجبات السعادة الدنيوية؛ فالإنسان عجول بطبعه يفضل الخزف المعجل على الذهب المؤجل، ولكن بغض النظر عن عالم البرزخ وهو عالم مخيف وهو قوله سبحانه: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[٢١]، فلا يعلم الإنسان المدة التي سيقضيها في ذلك العالم فقد يحبس لمئات الآلاف من السنين إن لم تكن الملايين من السنين في نقطة لا يعلم أين هي وكيف هي، هل هي وادي السلام أم وادي برهوت؟ ولو كان يغمى على الإنسان أو ينام في هذه الفترة لهان الأمر ولكن نعلم من الروايات أن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، وبغض النظر عن أهوال القيامة والعبور عن الصراط، وبغض النظر عن الأعراف والمكوث فيها وبغض النظر عن الوقوف خلف باب الجنة فقد يطول وقوف البعض خلف بابها، ألا يريد الإنسان أن يكون سعيدا في حياته الدنيا؟ أفهل يمكن الوصول إلى السعادة من دون الرجوع إلى مهندس العالم والوجود وهو صانع الآلات ورافع البنيان وهو العالم برموزها وأسرارها وهو رب العالمين؟ هل السعادة تكمن في المخدرات أو التنقل في البلدان من دون هدف؟
إن السعادة تجدها في قوله سبحانه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ)[٢٢]، وتصور كيف يهتدي الأعمى سبيلا في اليوم الذي يهذل البصير عن مصيره؟ وتعلل الآية الشريفة علة العمى يوم القيامة فتقول: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىٰ)[٢٣]، لم يذكر الله عز وجل في حياته الدنيا فنسيه الله عز وجل في الحياة الأخرى وأورثه الضيق في المعيشة في الدنيا كما أورثه العمى في الآخرة، أفهل يبقى سبيل إلى السعادة غير الانسجام مع رب هذا الوجود؟
الشيطان ودوره في غفلة الإنسان
وللشيطان ووساوسه وكيده دور كبير في غفلة الإنسان، وقد يتدخل الشيطان حتى في الجزئيات الصغيرة؛ كأن ينسي الإنسان موعدا مصيريا أو محاضرة قيمة أو يشغله عن الحضور في بعض المجالس، وقد ذكر ذلك القرآن الكريم عند ذكر قصة موسى والعبد الصالح كيف أراد الشيطان أن يصرفه عن اللقاء بالعبد الصالح من خلال تضييع الحوت وهو العلامة الدالة على موضع العبد الصالح، وذلك قوله سبحانه: (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا)[٢٤]، وقد يوصل الشيطان الإنسان إلى درجة يجعل الرب الذي يبحث عن الزبائن إن صح التعبير والذي تقول الروايات عنه: (إنَّ اَللَّهَ تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وَزَادَهُ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ فَوَجَدَهَا فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ ذَلِكَ اَلرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ حِينَ وَجَدَهَا)[٢٥]، إلى درجة ما قاله سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[٢٦].
ويا لها من درجة مخيفة ومن أزمة بين العبد وربه شديدة أن يصرف الله العبد عن آياته عقوبة له وهو قوله سبحانه: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)[٢٧]، ولم يصل الإنسان إلى هذه الدرجة إلا لحبه الدنيا وتقديمها على الآخرة وإيثاره هواه على هوى ربه في كل مرة؛ وكأنه يقول بلسان الحال: لا أريد الوصول إليك يا رب، ويا لها من شقاء أن يصل الإنسان إلى درجة يطبع الله على قلبه وسمعه وبصره حتى لو اجتمع الأنبياء والمرسلون والصديقون على قلبه لما نفعوه بشيء وهو قوله تعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[٢٨].
[٢] سورة الجاثية: ٢٤.
[٣] سورة القاف: ٢٢.
[٤] مفتاح الفلاح ج١ ص١٥٠.
[٥] بحار الأنوار ج٧٩ ص٢٤٣.
[٦] سورة الأعراف: ٢٠١.
[٧] الخصال ج١ ص١٨٦.
[٨] سورة النساء: ١٠٢.
[٩] سورة آل عمران: ١٥٣.
[١٠] نهج البلاغة ج١ ص٣١٦.
[١١] من لا یحضره الفقیه ج١ ص٥٦٥.
[١٢] أعلام الدين ج١ ص٢٧٧.
[١٣] سورة البقرة: ٤٥.
[١٤] سورة طه ١٣٢.
[١٥] بحار الأنوار ج١٠ ص٨٩.
[١٦] سورة الحديد: ١٦.
[١٧] سورة نوح: ١٣.
[١٨] سورة الانفطار: ٦.
[١٩] سورة زمر: ٦٧.
[٢٠] سورة الحجر: ٧٢.
[٢١] سورة المؤمنون: ١٠٠.
[٢٢] سورة طه: ١٢٤.
[٢٣] سورة طه: ١٢٥ – ١٢٦.
[٢٤] سورة الكهف: ٦٣.
[٢٥] الکافي ج٢ ص٤٣٥.
[٢٦] سورة الحشر: ١٩.
[٢٧] سورة الأعراف: ١٤٦.
[٢٨] سورة النحل: ١٠٨.
خلاصة المحاضرة
- إن الغفلة تكون ممتدة وطويلة وهي حالة بين النسيان المحض والذكر الدائم، كالمؤمن الذي ينسى ربه من الصباح إلى المساء فإذا جاء الليل تذكر. وأما السهو فهي حالة أرقى من حالة الغفلة وهي الغفلة المتقطعة عن ذكر الله عز وجل فهو يذكر تارة وينسى أخرى.
- ويكفي لخروج الإنسان من الغفلة التزامه بالواجبات فلو كان للنافلة ما للواجب لأوجبها الله ولكنه لم يفترض إلا ما نعرفه من الصلوات اليومية والحج في العمر مرة والصيام في السنة شهرا ودفع خمس الأموال وسائر ما افترضه الله على عباده ولو التزم العبد بها لكفته الوصول إلى الدرجات العليا.
- إن السعادة تجدها في قوله سبحانه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ)!
- للشيطان ووساوسه وكيده دور كبير في غفلة الإنسان، وقد يتدخل الشيطان حتى في الجزئيات الصغيرة؛ كأن ينسى الإنسان موعدا مصيريا أو محاضرة قيمة أو يشغله عن الحضور في بعض المجالس.